((كلمة معالي الدكتور الحبيب بلخوجة ))
|
ثم أعطيت الكلمة للدكتور الحبيب بلخوجة فقال: |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذه فرصة أخرى تتاح لي بهذا المكان الكريم وفي هذه الرحاب الرائعة الجميلة بين إخوة كرام، أتحدث فيها عن مشاعري وعن انطباعاتي، وعن تعلقي بهذه الديار، وإني لأحمد الله تعالى على ما مَنّ به علي من الانتساب لهذه الأرض المباركة، وسكناي بها وإقامتي بين ذويها أشهد فيها معالم جليلة، ومكارم كثيرة أعيش بها زمناً رغداً، فإن من أكرمه الله بمثل هذه النعمة يجد نفسه بين مساجد كثيرة من حوله يرتفع فيها النداء الأزلي الباقي نداء العبادة، ويؤم تلك المساجد فإذا هو يعيش ذكرى وعبادة وخيراً كثيراً، ثم تتجه نفسه ويقوده السبق إلى المشاعر الطاهرة، وإلى تلك البقاع المقدسة فهو بين مكة المكرمة، ومسجدها العتيق وبين المدينة المنورة والروضة الشريفة، ينهل من الخير ومن النعمة ومن الفضل ما لا يستطيع أن يفعله أحد خارج هذه الديار، وإني إلى جانب ذلك ألتقي بصفوة كرام بررة عشت معهم في هذه الديار، وأعيش معهم هذه اللحظات، فإذا أنا أتعرف على كرام الوجوه وعلى نخبة صالحة من الرعيل الجيد الكريم الذي نعيش معه يسامرنا ويحدثنا ويسوقنا بقوله وفعله وعمله وبِرّه وخيره إلى ما نبتغيه لأنفسنا وما نبتغيه لأمتنا الإسلامية، فحب الديار وسكناها هما اللذان دفعا بي في هذه الليلة إلى أن أتناول الكلمة لشكر معالي الشيخ عبد المقصود خوجه على إتاحته لي هذه الفرصة للحديث إليكم، وثانياً لألتفت إلى أخي المحتفى به معالي الشيخ الدكتور محمد عبده يماني. |
وإذا كان بعض الإخوان قد سمى هذا مدحاً ورأى أن المدح لا يناسب وخصوصاً عندما يتحدث الإنسان عن أخيه فيمدحه في وجهه فهذا رد، فما أقوله ليس مدحاً وإنما وصف وتعبير عن مشاعر، ونحن مسؤولون عن التعبير عن هذه المشاعر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه ولمن كان معه: "إني أحبك.. يا معاذ". وأنا أقولها لكم جميعاً: إني أحبكم وأحب إخواني الذين التقيت معهم في هذه الديار على الخير والبر والتقوى، وإذا كانت هذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ومع اللائذين بجنابه ومع القائمين على خدمة دينه وإعلاء كلمة ربه فإن الأخذ بزمام هذه الطريقة وسلوك هذه المحجة يكون أمراً لازماً لنا، ودَيناً في رقابنا كلما جلسنا إلى إخواننا وتحدثنا إلى من اصطفاه الله ليكون سراج ليلتنا وموضوع أنسنا وحديثنا. |
وأنا بهذه المناسبة بعد أن ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في هذا، أذهب مذهباً آخر.. علمتني إياه تجاربي وأعمالي وأشغالي، فقد كنت في زمن الشباب كثير المطالعة للشعر، عاكفاً على دراسة القريض ولكأني أنظر من خلال هذه الحقيقة التي أصورها لحضراتكم إلى كتاب أقرؤه وهو شعر الحِلي الذي يقول في مقدمة ديوانه: كنت قبل أن أشب عن الطوق وأعلم ما دواعي الشوق كلِفاً بالشعر، رواية وحفظاً، متقناً علومه معنى ولفظاً، واقعاً بسبق القريظ كارهاً للكسب بالتقريظ، وقد آليت على نفسي أن لا أمدح كريماً وإن جَلّ، وأن لا أهجو لئيماً وإن ذَلّ، ولكني جعلت مدحي جزاء لخيرة أصحابي الذين عندما ضاقت بي المسالك للتعبير عن تقديري لهم، استعرت قول أحمد بن الحسين يعني المتنبي وقلت: |
فليسعد القول، إن لم تسعد الحال
(1)
|
|
ورأيت هذا الشاعر بعد ذلك يجعل مدحه في آل الجزيرة، ويخص بعد ذلك ديوانه ومدائحه كلها بالعترة النبوية الشريفة وبسيدها وعامودها وأصلها سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وربما دعاني ذلك إلى أن أمضي بعيداً، وأن أعود إلى حقيقة الشعر بين الدول والشعوب فإني عرفت الفيلسوف عندما تحدث عن الشعر في كتابه الشعر قال: إن الشعر لا يكون إلا لغرضين أساسين اثنين هما المدح والذم، لكن النفوس الكريمة تتجه إلى جوانب المدح حين تلاحظها أو تلاحظ الأسباب الداعية إلى القول فيها، والنفوس اللئيمة تتجه إلى الذم وإلى الهجاء لأنها مولعة بذلك. فمن نعمة الله عليَّ وفضله أني أتجه إلى جوانب الخير وإلى جوانب الكمال وإلى ما ينشده المسلمون في مجتمعاتهم من أمثلة أو مُثُل تحقق الخير للعالمين، فها أنذا بحكم ذلك ألتفت إلى أخي وصديقي الدكتور محمد عبده يماني لأتحدث عنه من تجربتي الشخصية، فإن أول مرة لقيت فيها الدكتور محمد عبده يماني كان ذلك أيام إدارته لجامعة الملك عبد العزيز، وكنت إذ ذاك أستاذاً بالجامعة الزيتونية وقدمت في وفد من الأساتذة أولاً للقيام بالعمرة والزيارة ثم لزيارة بعض الجامعات والاتصال ببعض الإخوان من العلماء، وقد شرفت بالحضور إلى مكتبه والحديث إليه لأول مرة، وهو بالرغم من مكانته الرفيعة ومنزلته العالية قد أوسعنا بِراً ولطفاً وأدباً ودعانا ذلك اليوم رغم أشغاله وكثرة أعماله إلى تناول الطعام معه، فكانت استضافة كريمة ولفتة شريفة، وكانت عناية من رجل يتولى إدارة العلوم والدراسات في جامعة عريقة هي جامعة الملك عبد العزيز مع إخوان له ينتسبون إليه وإلى تلك الجامعة بأواصر القربى وهي أواصر المعرفة وطلب العلم. ثم رأيته بعد ذلك بالجزائر في ملتقى الفكر الإسلامي يحاضر عن القضايا الإسلامية والموضوعات المطروحة في تلك الدورة وكان رائعاً، وكان صلباً قوياً مع دماثة خلق وإبداع للرأي في شجاعة وقوة وإمعان في تحقيق الأغراض التي يريد الوصول إليها. |
ثم ترقى وزاده الرقيُّ نبلاً وكمالاً، وأصبح وزيراً للإعلام وفي هذه الفترة لم أتصل به ولم ألقه، ولكني شرفت بزيارته والاتصال به عندما قدم إلى تونس في عمل من أعماله وممارسة لشؤون مهامه عندما زار البلاد التونسية، ولقيته هناك في مدينة المنستير، ثم تعاقب اللقاء وكثر عندما رأيته بعد ذلك يدخل مجال الأعمال الحرة، ويشرف على كثير من المؤسسات. |
وكتب الله لي هذا الفضل وهذه النعمة فجئت إلى هذا البلد الكريم الطيب وأصبحت من أهليه، أقحم نفسي بينكم، وأعتبر نفسي منكم وأنا منكم أمام الله فإذا بي في هذا البلد الطيب الكريم أجد أخي من جديد، وأتحدث إليه في غير مرة وتتكرر الزيارات له، ويحصل التزاور بيننا والدعوة الكريمة منه في مناسبات كثيرة، وإذا أنا بحكم عملي في هذه الديار، أميناً لمجمع الفقه الإسلامي أجد تعاضداً منه، وإعانة للمشاريع ودفعاً لها، فقد جاءني هو يعرض على مجمع الفقه الإسلامي أن يقوم المجمع بإعداد مشروع متكامل يصدر فيه حلقات فقهية تتناول الفقه الإسلامي من جميع جوانبه، ورسم بذلك الخطة وبيَّن المعالم التي نسير عليها والتزم باسم مؤسسة (اقرأ) الإنفاق على هذا المشروع حتى ينهض ويؤتي ثماره للناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، وقد حدثني بأنه يريد أن يكون هذا العمل منقولاً ومترجماً إلى كثير من اللغات الحية والأجنبية. |
بهذه الصورة وجدت نفسي أمام جوانب عديدة تدفعني إلى القول ولكن هذه مع كثرتها وتنوعها لا تصل في تقديري إلى الشمائل الخلقية، وإلى الجوانب الإنسانية وإلى الكمالات النفسية التي ينبغي أن يتصف بها المفكر والعالم، وخاصة المفكر الإسلامي والعالم الإسلامي، فنحن كما سمعنا، وكما نعلم وكما تشهد بذلك أعمال الدكتور محمد عبده يماني في الحقل الجامعي، وفي رحاب الكلية، كلية العلوم نحن مع أستاذ للجيولوجيا لعلم طبقات الأرض، ونحن فيما نعلم أن أصحاب هذا الاختصاص في الغالب أبعد الناس عن التفكير الإسلامي وعن العمل الإسلامي وعن المعرفة الإسلامية وعن المشاركة العملية في هذا الميدان الذي ينبغي أن يلتزم به كل مسلم، فإذا نحن وجدنا ضالة كانت مفقودة، هذه الضالة تتمثل في أرضية المثقف المسلم، وهي ثقافته الإسلامية ومعارفه الدينية، وتصوره لكل الجوانب الشرعية يغطيها أو يبرز من بينها الاختصاص العلمي الجيولوجي فلا يكون منقطعاً عن الأصول التي ينبغي أن يتولد عنها فهو رجل مفكر إسلامي؛ صناعته التخصص في علم الجيولوجيا، أما جوانبه الحقيقية فهي التي تنم عنها أعماله الكثيرة ومواقفه العظيمة. أعظم ما في عيني أتمثله بالنسبة لهذا الرجل حفظُه للسنة النبوية، وتزوده منها، وعنايته بالسيرة النبوية الشريفة والتزامه بالسير على منهجها، وتأدبه بالأدب النبوي، وإني وكثير من إخواني كلما أردنا أن نتحدث عن الأدب النبوي أو عن الأدب الإسلامي وجاءت المناسبة لذلك لا يمكن أن يخلو المجلس من ذكر الدكتور محمد عبده يماني الذي تميز بهيامه وتعلقه بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، والذي كتب في سيرته وكتب في حبه وأخرج للناس قصائد منثورة عجيبة، تجعلنا جميعاً متعلقين بهذا التراث أو بهذا العمل الإسلامي الذي يصـل بيننا وبين سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أجل هذا كله، ومن أجل هذا الانتساب للرسول الكريم أحببت هذا الرجل فأنا أقول له: إني أحبك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ، وكما ورثت هذا وحصلت عليه في الأسانيد المسلسلة للنبي صلى الله عليه وسلم والتي من بينها مسلسل معاذ "يا معاذ إني أحبك، فإذا فرغت من صلاتك فقل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك"، فهذه هي التوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه وإعرابه عن حبه له هو بيان للمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المثقف المسلم حتى يكون على صلة في حركته وفي أعماله وفي الأسوة التي يضعها بين عينيه، وفي طريقة المعاملة للناس اقتداءاً بسيدنا المصطفى. |
ثم إني بهذا الحب أحببت صاحب البيت، صاحب بيتنا هذا، البيت العامر لما وجدنا فيه من أسباب الكرامة والعزة والفضل والخير المتجددة في كل أسبوع في هذه الاثنينية التي عرفنا فيها عدداً كبيراً من إخواننا العلماء والمفكرين ورجال البحث والدارسين من لغويين وكتاب وشعراء واجتماعيين واقتصاديين وغيرهم. |
ثم أحببت هذا الجمع الكريم، أحببت جمعكم فرداً فرداً لهذه الصلة التي ربطت بيننا، لصلة الإسلام أولاً ولصلة حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً وانتسابنا لهذين الحرمين المقدسين اللذَين نعيش في رحابهما ولكوننا نجتمع في هذا البيت مرة بعد مرة، فجزاكم الله خيراً وشكر سعيكم، وأستغفر الله من ذنوبي، وأرجوه سبحانه أن يجمعنا جميعاً في رحاب فضله ورحمته يوم لا فضل إلا فضله ولا رحمة إلا رحمته التي وسعت كل شيء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
ثم ألقى الأستاذ حسين نجار نيابة عن الأستاذ محمد صلاح الدين الكلمة التالية:
|
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الإخوة الكرام جميعاً. وبعد، فما أسفت على تخلفي عن ليلة من هذه الليالي الطيبة، قدر تأسفي على تخلفي اليوم مضطراً عن الاحتفاء برمز كريم من رموز العلم والخُلق، ورجل مبادرة من رجالات المواقف والدعوة والوفاء، وما دمنا في رحاب هذه الدار الطيبة التي تعبق دوماً بأريج العرفان وبالفضل لأهل الفضل، فاسمحوا لي أن أسهم في ركب العرفان الذي تشرف به الرجال، وتعلو به أقدارهم في الدنيا والآخرة. |
إنني واحد من عدد كبير من الإعلاميين الذين طوق الدكتور محمد عبده يماني أعناقهم بأكرم المواقف، ووقف صامداً بجانبهم ساعة العسرة.. بأنبل الخلُق لا يبتغي غير وجه الله والحق وأداء الواجب، في وزارة الإعلام مرَّ بي ظرف دقيق وخطير وفي توقيت بالغ الحرج وإذا بالوزير الرجل الدكتور محمد عبده يماني يقف إلى جانبي وقفة لا يقدر عليها إلا صاحب خلُق عظيم ويدفع عني بجرأة وشجاعة لا يطيقها إلا ذو إيمان راسخ وتجرّدٍ صادق، حتى مرت الأزمة الكبيرة وكأن شيئاً لم يحدث. لكن ما هو أنبل من كل ذلك وأبلغ دلالة على أن الدكتور يماني لم يتحدث مطلقاً وحتى يومنا هذا عما فعل، ولا أشار من قريب أو بعيد إلى ما حدث، وأنا واثق أنه فوجئ الآن تماماً وهو بينكم لأنني أعرف تفاصيل كل ما حدث وذلك جانب آخر من رجولة الرجال لا يتوفر إلا لأقل القليل. |
إنكم أيها الإخوة لا تكرمون اليوم رجلاً من رجالات العلم والمسئولية فحسب بل واحداً من أهل الله كرس حياته للدعوة، وتجرد للمرحمة، ونذر نفسه للخير والبر يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، وسيبقى مجتمعنا بخير ما بقيت فيه هذه النماذج الطيبة من شيم النبوة والبقية الباقية من مكارم الأخلاق، أحسبه كذلك والله حسيبه وأستغفر الله لنا جميعاً وله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|