شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأمس الضائع (1)
بيني وبين الرفيق القرشي (2) صداقة مركزة كالكلمة ذات الدلالة لا إطناب ممل ولا إيجاز مخل فيها، وهذا الضرب من الصداقة أرغب فيه أنا كل الرغبة، وأفضله على كل ضروب الصداقات ما عمق منها وما ضحل؛ ولذلك فإن تناولي لديوانه الجديد بالنقد لن يجد بيننا فجوة ليوسعها، ولا أكمة فيمهدها.. إنه مسلك جدد.. وأنا في ما أعتقد آمن العثار من هذه الناحية!!
وأنا معجب بالقرشي شخصياً وشعرياً وأدبياً، وهي صفات ثلاث لا يحتمل فيها تحيف جانب بجانب آخر، وحتى لو احتمل ذلك أو شيء منه فإن النتيجة كائنة على حسابه هو بطبيعة الحال وأنا بريء من التبعة.
وما من "أمس ضائع" في "ظلال الوحي" لو توخينا الانسجام حتى في فضول الكلام، ولكن هداب الألفاظ غير هداب "الدمقس المفتل" من شحم مطية "امرئ القيس" (3) ، وحظ العذارى أدسم وأنفع ولا ريب من حظنا، مع الفارق في الحالتين.
ورأيي على العموم في شعر الصديق القرشي أنه شعر عصري مناسب لمكانه في مراتب الشعر الحديث، ومكانه من الشعر ليس بالمكان القليل ولا الضئيل في مثل هذا العصر الذي يجري كل شيء فيه على عجل.
ولا يعيبه مثلاً أن تجمع فيه الصفات على غير قياسها فيقال الحمراء بدلاً من الحمر، وما يشبه ذلك، أو يمد فيه ضمير المتكلم "أنا" أكثر مما ينبغي، أو أن تبدو في بعض المعاني فهاهة وعجز في مثل هذين البيتين:
كلما شمت في حياتيَ نبعا
سحر النبع لي فكان سرابي!
أو تنورت في مسيري طريقاً
ربضت ناره على أعتابي (4)
فإن النبع الحقيقي لا يتحول سراباً، والنار إجماله أن يتمخض بمئات من هذا البيت المطموس المعنى:
والظلال الرّغاب ترعى هوانا
بأكاليلَ عذبة الزَّهراتِ (5)
فإنك لو تقريت معاني مفرداته لغوياً لما خرجت بطائل.
* * *
إن الشعر العربي في هذا العصر شعر عجول ملول تغلب عليه السطحية والضحولة، وتتسم أساليبه على كثرتها وتنوعها بالتشابه والتكرار، وفي ترديد بعض عبارات معينة فيه، وهي عبارات يستهدف منها "انوجاد" الشخصية بأضعف وسيلة في حالة "انعدامها"، ذلك لأن الشعراء المحدثين لا شخصية حقيقية لهم في معظم أساليبهم الشعرية، ولن تجد طابعاً نفسياً يتميز به أحدهم عن الآخر، إذا استثنينا شاعرين أو ثلاثة، أو على الأكثر خمسة؛ وهم معروفون في العالم العربي لكل من يتذوق الشعر الخالد تذوقاً عبقرياً.
وضعف المادة اللغوية وعدم التعمق في أصول الكلمات ومشتقاتها من أكبر وأفظع عيوب الشعر العربي الحديث، وهي في هذا الديوان وفي سواه من دواوين الشعراء العصريين غير مستغربة، لشيوعها وطول الألفة لها وتوطين النفس عليها، على أن القارئ لن يعدم بعض الصور الجميلة في بعض المقطوعات (فراشة ص81 وغيرها).
ولا نصيب لأي لفتة ذهنية في ديوان الشاعر الصديق، فإن العاطفة هنا هي سيدة الموقف، ولا مكان لإجالة الفكر أو إعماله؛ وإذا كانت "الراحة نصف القوت" في رأي العوام (6) ، فإن راحة الدماغ هنا نصف القراءة، ولن نناقش "شعر متحرر"، وهو القسم النهائي من الديوان، فتحرره يعفينا من إعارته أي نظر، ورأينا في هذا الضرب من الشعر رأي لا يسر أصحابه إن كان رأينا يهمهم. إن مثل هذا الذي يسمى شعراً لن يكتب له الخلود في ما أجزم باعتقاده.
إنه لقمة يمضغها القارئ ثم يتفلها! إنه أقل من سجع الكهان، إنه أتفه من "كان ما كان"! إنه مضروب بالأسداد بينه وبين الشعر، مقطوع الصلة بالنثر، إنه حقاً علالة العجلان، بل إنه السمة الأصيلة الحقيقية لمثل هذا العصر المضطرب المقلقل، هذا العصر الذي تجد "الجاز" الأفريقي خير موسيقاه، و "الروك أند رول" الأمريكي أجمل رقصاته، وإسرائيل أقوى دولة! وفرنسا أرقى أممه!
والقباني والبياتي والسيَّاب أشهر الشعراء العرب فيه (7) ، أليس كذلك؟ إنه عصر لا يمهلك أو يتيح لك أن تقرأ مثل هذه الأبيات -مثلاً- للمتنبي:
تخالف الناسُ حتى لا اتفاق لهم
إلاّ على شَجَب والخلفُ في الشَّجبِ
فقيل تخرج نفسُ المرء سالمةً
وقيل تشركُ جسمَ المرءِ في العطبِ
ومن تفكَّر في الدنيا ومهجته
أقامه الفكر بين العجز والتَّعبِ (8)
هذا العصر لا يسمح لك أن تتأمل في عمق هذه النظرة وهذا الجلال الآسر في أداء هذه الفكرة، والحيرة المضنية في تصوير مصير الإنسان المعذب، وعدم الاهتداء إلى تلمس النهاية في أكداس من الحقائق والأباطيل قد اختلط بعضها ببعض!
لكن هذا العصر يسوقك حتماً إلى التبلغ "بالساندويتش" في طائرة نفاثة ويجعلك تقول وأنت تلهث، أو تلهث وأنت تقول:
"يا أيها الطفل الذي ما زال عند العاشرة لكن عينيه تجولتا كثيراً في الزمن خلف الحمار المطرق الكسلان في الدرب الطويل.
يا أيها الإنسان في الريف البعيد، يا من تعاشر أنفساً بكماء لا تنطق وتقودها، وكلاكما يتأمل الأشياء، وكلاكما تحت السماء ونخلة وغراب وصدى أنداء" (9) .
ولا يدهش القارئ، أو يضحك، فالطائرة سائرة بسرعة الضوء، ودرجة الحرارة مرتفعة جداً، وهذا إن لم يكن [هذياناً محموماً] (10) ، فهو على الأرجح شعر متحرر تجده في ص17 من مجلة الآداب البيروتية عدد يوليو 1957.
إنه عصرنا الذي هو خليق بنا ونحن به جديرون و إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :337  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 108 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج