شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مناقلات من الشعر البدوي (1)
يظن الكثيرون أن الشعر البدوي الحديث لا طعم له ولا روح فيه، ولا يمتاز -كما يمتاز كل شعر عالٍ- بالطابع الفني، والبلاغة الآسرة. وهذا الوهم الشائع يجب أن نزيله من الأذهان في هذه المناقلات -على تواليها- فإن شعر البادية فيه الركيك المرذول، وفيه المبين المشرق، وفيه ما بين هذين في ضروب الأساليب، وفيه من المعاني والصور والفكر ما لو يتصدى له أحدهم -على سعة وقت وفراغ بال- لأتانا من نماذجه العالية بالعجب العجاب.
إن البدوي رغماً عن فظاظته وما يبدو من جلافته، من أعلم الناس بالجمال وأصباهم إليه، وأفطنهم إلى أدق مواقعه. وحياته بسيطة جداً؛ فهو سعيد كل السعادة عند أهله بين سوائمه من إبل وخيل وشياه، وبين كلاب صيده وصقره كلما بدا أن يذهب للصيد والقنص.. وشعره لا يعدو ذلك إلا إذا خطر له أن يتغزل أو يفتخر بنفسه أو عشيرته أو يهجو أعداءه. وينقسم الشعر عند البدو إلى أقسام: قسم يتغنون به في مجالسهم، وقسم يرتجزونه على أكوار مطاياهم، وقسم يسمونه "الحداء" -وهذا يرفعون به عقائرهم على سروات جيادهم- والقسم الأخير يتساجلون به واقفين في الغالب، ويسمونه "المقاصد"، أو "المراد". ولسنا بمستقصين، ولن يسعنا الاستقصاء، ولكنا سنأتي بأمثلة مما يتفق لهم من روائع المعاني وغرائب الوصف.. أمثلة قليلة بالبيت والبيتين، ومن هذا القليل يستدل على ما وراءه من كثير كثير.
قال أحدهم من قصيدة:
أرخ (الرسن) خلها بالراس تلعبْ به
لعب الغنادير قدّام العشاشيق (2)
أي أرخِ زمام مطيتك ودعها تلعب برأسها مثل الصبايا الحسان عندما يلعبن أمام عشاقهن..
صور من أروع الصور، فإن نجائب الإبل أمثال: "الأوراك" و "العمانيات" الحرائر إذا أحسنوا ترويضهن وتدريبهن أسففن برؤوسهن حتى تكاد مشافرهن تمس الأرض؛ وطفقن يملن بها يمنة ويسرة وعلواً وسفلاً، وأحسب أنها هي مشية "الهَيْذبى" التي أشار إليها المتنبي في مقصورته المشهورة (3) .
وفي الشعر العربي الفصيح صورة لا تشبه هذه من حيث المعنى، ولكنها تماثلها في براعة التصوير؛ فخذ هذا البيت القديم الذي أنسيت اسم قائله:
خوصٌ نواجٍ إذا غنى الحداةُ بها
رأيت أرجلَها قدامَ أيديها (4)
وقال أحدهم من قصيدة أيضاً:
في حب خدن نتّف القلب تنتيف
تنتيف شقران الحرار لعَلفها (5)
وهو أصدق الوصف لما يصيب قلب المتيم إذا ابتلاه حبيبه بالقطيعة والهجران.. فإن الصقور أنواع، وخيرها ما يسمونه "الحر" ولونه يضرب إلى الشقرة، فإذا قدم إليه اللحم على كف صاحبه (الصقّار) أخذ ينهشه أقوى نهش، حتى إنه ليجتث ألياف اللحم من أصولها وقد صنع بقلب محبه صنيع الصقر بعلفه، وهو اللحم الذي يعتلف به.
وقال أحدهم:
قالوا تسير وقلت واللَّه ما أسير
واللَّه ما أسير لواحدٍ ما دعاني
أنا خويّه في ليالِي المعاسير
وإلاّ الرخا كلٍ يسد بمكاني (6)
قالوا: سر، قلت: والله لا أذهب إلى امرئ لم يدعني، لقد كنت صديقاً وفياً أيام الشدة، فأما في أيام الرخاء ففي وسع أي إنسان أن يملأ مكاني عنده.
وقال أحدهم:
يا جملة الجذعان عندي لكم شور
شور عذي من عذيات الأشوار
خذوا هواكم واقطفوا من جنى الحور
ومن جنّب الجنة مطبّه على النار (7)
وهما على التقريب:
وعندي لكم أبناء قومي نصيحة
كأرشد ما أدلى به الناصح الداري
خذوا من هواكم واجتلوا كل ناهد
ومن جار عن عدن فمأواه في النارِ (8)
وهذه تذكرني بأبيات لشاعر عربي قديم في مثل معناها على ما أظن، ولا أتذكر منها إلاّ العجز الأخير وهو:
أيما إلى جنة أيما إلى نارِ
وأيما هنا بمعنى إما (9) .
وشر ما في هذا الشعر انعدام الإعراب فيه، فأما المفردات وأغلب العبارات فإنها عربية صحيحة ويدخل بعضها تحريف طفيف.
وللأخ البحّاثة محمد بن بليهد (10) قصيدة بالغة الجودة تعتبر من غرر الشعر البدوي الحديث ومطلعها:
أشوف الأيام تقدحْ بأهلها قدح المشاهيبْ
وقتٍ تغير ولا أدري ويش ينطل في عتابه (11)
وأنا أحفظها كلها لفرط إعجابي بها، فإن تفضل وأذن لنا بنشرها نشرناها، وأوضحنا ما غمض من معانيها للقرّاء، فإنها جديرة بالنشر والحفظ للترديد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :336  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 77 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالله بلخير

[شاعر الأصالة.. والملاحم العربية والإسلامية: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج