سلام وكلام (5)
(1)
|
في أوائل القرن الثالث عشر الهجري عاش شاعر لامع من شعراء النبط المفلّقين، وهو (محمد بن حمد بن لعبون المدلجي الوائلي) وشهرة شاعرنا في نجد والحجاز والخليج العربي وأطراف العراق، تغنيه وتغنينا من الإفاضة في التحدث عنه، فإن له الألحان اللعبونية التي ما تزال يُتغنى بها في كافة تلك الأنحاء، وقد نشأ على ترف وغضارة، وكان صاحب لهو ومرح في حياته القصيرة التي لم تبلغ الخمسين فيما نظن
(2)
، ولكن الذي يهمنا هنا، ويعنينا بصفة خاصة، هو طابع الثقافة العامة الواضح في شعره، هذا الطابع الذي يجعلنا نستكثر وجوده على شباب مثله في مثل ذلك الزمن ومثل تلك البيئة قبل نحو قرن وربع، في حين أن عصره كان عصر جمود وجهل وقلاقل. |
وقد وصلنا جانب كبير من شعره، ومن النظر فيه والإلمام به نجد أنه كان يتمتع بمعلومات غزيرة، وكان واسع الاطلاع على طائفة كبيرة من الأدب العربي القديم؛ ولذلك فقد كان يحسن الاقتباس والتضمين في شعره، وكان يستعمل الجم من المفردات الفصيحة، ويستشهد بالكثير من الوقائع الأدبية، ولا نريد التطويل هنا، ولكنا نورد للقارئ بعض الأمثلة التي تنم -فضلاً عن دلالتها- عن شاعرية فذة وظرف رائق قال: |
وبقيت به طرب بالأحباب ماسل |
عن لذة (الكندي) على ماي ماسل
(3)
|
|
وهو يعني امرأ القيس الكندي في قوله في عجز بيته من المعلقة: |
وجارتها أم الرباب بماسلِ
(4)
|
|
ويقول ابن لعبون: |
خراعب اللي وصفهن بان بسعاد
(5)
|
|
يشير بذلك إلى (بانت سعاد) لكعب بن زهير. |
ويومئ إلى قصة يونس والحوت الواردة في القرآن الكريم فيقول: |
قالوا علامك؟ قلت أنا ما علامي |
عهد بمن نجى ليونس من الحوت |
|
ثم يتمثل بعبارات المسيحيين والمتصوفة فيقول: |
لا بالزعل تخلف هواها ولا أرضى |
ما بارح اللاهوت يوم بناسوت
(6)
|
|
ومن قصيدته المشهورة التي مطلعها: |
أنشدك عن بيض عليهن سراويل. |
|
يقول: |
يا فن كما تافي عهود (السمول)
(7)
|
|
يعني السموأل في قصة وفائه بعهده المعروفة، وفي هذه القصيدة يقول: |
ينشدنني يوم انتوى الكل برحيل |
(هل عند رسم دارس من معول)
(8)
|
|
فانظر كيف ضمَّن شطر (امرئ القيس) تضميناً طريفاً. |
ومن الألفاظ القرآنية يقبس الريح العقيم والصرصر في مثل قوله: |
تفاقت بهم ريح عقيم وصرصر
(9)
|
|
ويقول في مدحه لأحمد بن [ضاحي]
(10)
العون: |
وقامت حروف الحمد وقف على أحمد |
فالألف والحا تشمل الميم والدال
(11)
|
|
وكأنه يشير بهذا إلى بيت المتنبي في مديحه لأبي شجاع: |
تملك الحمد حتى ما لمفتخر |
في الحمد حاء ولا ميم ولا دالُ
(12)
|
|
ولسنا بمستطيعين الإتيان بكل الشواهد، وفيما سبق ما يكفي كقاعدة لذلك المثال، على أن شعره يزخر بمئات الأمثال التي لا يتسع لها هذا المجال. |
وقد استعر أُوار الهجاء بينه وبين معاصره الشاعر النبطي الفحل (عبد الله بن ربيعة)
(13)
لأغراض سياسية ورئاسية في عصرهما، على أن لهذا الموضوع حديثاً آخر نأمل أن نفيض فيه على موعد قريب. |
|