الموت والتجارب (2)
(1)
|
منذ أن خلقت الحياة، أوجد الموت موجد الحياة، ليحد من طغيانها وليخفف من غلوائها.. ذلك لأن الحياة إذا استمرت بلا عارض.. ولا تعطيل.. أفادت الاستهتار.. وصنعته صنعاً.. فإن الذي يأمن على نفسه غائلة الموت لا يعود يفكر في كل ما يبدهه من قول أو عمل، ويصبح الظلم، والعدل والحق، والباطل، والخير، والشر.. على سواء واحد، وتنعدم الفروق بين الأشياء وتمسي الحياة، لا هي ملهاة فيضحك منها رائيها، ولا هي مأساة فينعاها ناعيها! |
وليس بجديد أن أقول: إن الفتاة الرود
(2)
تموت قبل العجوز، ولا الشاب الفينان يحتضر قبل الشيخ الهرم، فإن هذا من معاد الكلام! |
وإذا كان الموت هو الحد بين العدم، والوجود، فلقد كان العدم هو القاعدة المطلقة، التي تبنى عليها الآراء، ولا تتذاءب فيها الأهواء. |
إن العدم المطلق، يقوم على غير شيء، ولا أساس ولكن كيف نقول؟ |
وقد كان العدم هو الأساس في بدء الوجود، الذي ألغى العدم نهائياً، واستبدله بوجود كائنات تذهب وتروح، بكائنات أخرى! |
إذن كيف تأتي الموجود من المعدوم؟ وهو لم تكن له أصول، ولا عناصر.. قبل أن تخلق هذه الأشياء كلها، مهما قيل فيها، وحتى العناصر نفسها لم توجد! |
فكيف بنا أن نقول: إن هذا الموجود من عدم، ثم كيف يخلق العدم نفسه؟ |
وقد كانت العناصر عند الأقدمين لا تزيد عن أربعة، واليوم آضت إلى أكثر من مائة وقابلة للزيادة! |
حتى العناصر نفسها من أين أتت.. إن زادت أو نقصت، ومم تكونت؟ |
وإذا كان العدم يوجد العدم فمعنى هذا أنَّا لا نعقل! وإذا كنا لا نعقل، فكيف نقيس الأشياء؟ |
ذكرت هذا.. وذكرت أخرى.. الأشياء التي لا تشبه شيئاً آخر نقيسه بها، لو كان هناك قياس! |
فإذا كنا لا نعلم أصل الحياة، ومم تولدت هذه الحياة؟ |
فكيف نقيس؟ |
ولو قلنا كأقوال البلهاء، من أمثال المعري، والخيام، من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ لمضينا إلى غير غاية! |
ذلك لأن السؤال يتكرر، ولا يجد له جواباً مقنعاً.. ولقد قرأنا وقرأ القارئون فلسفات كثيرة عن الموت، وعن فعله، وعن نوعه، منذ أيام الكلدان، والآشوريين، إلى هذا الزمن الحاضر، فلم نجد في فلسفاتهم عن الموت أو تعليلهم له أي غناء. |
والإنسان يموت أبعاضاً، ولا يموت كلياً إلاّ في النهاية، ذلك لأنه كلما مات له قريب أو صديق أو جار، ماتت تبعاً له أجزاء عديدة من جسمه.. وفي مثل ذلك أومأ امرؤ القيس في بيته الشهير: |
ولو أنها نفس تموت جميعةً |
ولكنها نفس تساقط أنفسا
(3)
|
|
وقيل في هذا المعنى شيء كثير. |
ولم تصدر الفلسفة حتى الآن بتعريف شامل صحيح عن الموت.. ولا حتى اصطلاحاً! |
وقد يلعج الموت الإنسان في شبابه، ثم لا يموت إلاّ هرماً، وربما حدث العكس.. وليس في ذلك كله ما يفضي بنا إلى العجب أو التعجب.. فإن الموت مثل الرزق، يؤتاه من يؤتاه على غفلة، ويمنعه من يمنعه.. وليس الموت برهيب الوقع في النفوس، ولكننا في غفلة الحياة وبأسائها، ونعمائها.. ننسى أننا سوف نموت.. إن طال الأمد أو قصر! |
ولقد دفنا أحباء وأقرباء وبكينا عليهم أياماً معدودة.. ثم انتهى الأمر إلى النسيان، وتلاشى أمرهم، وانقطع ذكرهم.. وفي الأدب العربي من شعره ونثره شواهد كثيرة على هذا المثال.. فضلاً عن الأدب الغربي. |
وفي النسيان على ما أسلفنا نعمة خالدة لا تقاس بها النعم، فلو أننا لا ننسى فجائعنا، ومصائبنا، وظللنا نذكرها في البكور والعشي على الدوام، لما هنأ لنا طعام، ولما ساغ لنا شراب، ولما تصرفنا في هذه الحياة لطلب معيشاتنا، واستدرار أرزاقنا. |
وإذا كان الغنى رب غفور -كما قال أحد الشعراء
(4)
- فإن النسيان رب رحيم، ولو أردت أن أطيل المجال في مثل هذا الموضوع لطال إلى ما لا يتسعه هذا المقال، ولا أمثاله، ولكنها ذكريات حزينة، ينفثها الصدر، ويعيا بها الفكر! |
وهذا قول قد أقوله وأستغفر الله منه، فإن للنفس هنات كهنات ابن الرومي في قصيدته المشهورة! |
وهل بعد هذا من معدى
(5)
؟ |
|