نوبة قلبية..
(1)
|
كنت أسهر مع رفاق ليلة الخميس 6/3/65، وفي الساعة الرابعة عربية
(2)
خطر لي أن أنام مبكراً فأخذت طريقي إلى الدار وأويت إلى فراشي، وفي الساعة الثامنة حدث ما كاد أن يكون موتاً فجائياً.. فماذا عدا مما بدا؟ |
ألفت منذ صغري أن أنام منفرداً، ولم أغيّر هذه العادة حتى بعد زواجي، فإن ازدحام الأجسام ولغط الأصوات والغطيط وتكاثر الأنفاس لا يتيح لي سبيل النوم المريح، ورغماً عن ذلك فإن نومي لم يكن مريحاً أبداً، فإن جنبي يتجافى عن المضجع أكثر من ستين مرة في الساعة الواحدة، وهذا التقلب والتململ أصبح محتملاً عندي -على ما فيه من ألم ونصب- بعد أن اعتدته طيلة هذه السنين التي كأنها قرون. |
ويتخلل نومي -على ندرة النوم الصحيح- أحلام خرافية أو مخيفة، إما من سوء هضم، أو من كبت نفسي، أو من نزعة غريزية قديمة، أو من أشياء رأيتها في نهاري فوقرت في ذهني وتسربت -من ثم- إلى قرارات النفس المستكنة أو العقل الخفي، فطفقا ينشرانها ويطويانها على ألوان من الصور والأوضاع. |
وإني لأحلم -أحياناً كثيرة- وأنا أسمع همس من حولي، ووقع خطى القادم منهم والذاهب، وأصحو على دبيب النملة أو الذبابة لو زحفت على رجلي أو يدي، فليعلم ذلك الشاعر الذي يشكو من أنه أصبح يحلم يقظاناً أني أشاركه في هذه البلية وأحمل شطرها عنه من باب الإِسعاد والمؤاساة
(3)
! |
في الساعة الثامنة شعرت -أولاً- ببرد مفاجئ مذيب، ولم يكن هناك -في الواقع- أي برد، فإن الرجال الراقدين حولي ما كان ينقصهم إلاّ أن يخرجوا من جلودهم من ضغط الحرور الذي كانوا يشعرون به كما أخبروني بعدئذ. |
وتناولت لحافاً من الصوف كان قريباً مني وتجللت به، وازددت برداً فكأنما كنت أزداد تكشفاً وعرياً، وصحت بخادم كان حولي فأسعفني بسجادتين ثقيلتين وألقاهما علي، وحينئذ شعرت كأني في طبقات الجو العليا حيث ينعدم عنصر الأوكسجين بتاتاً ويشتد الضغط على جهاز التنفس، وعجبت كيف يمكن لرئتي أن تتنفس، ولكن عجبي لم يطل فقد زحفت الآلام -بغتة- من أسفل الخاصرة اليسرى إلى أعلى الكتف الأيسر، وأمست كأنها توقص بأسنة حادة مصهورة بدار موقدة، وأخذ قلبي يجب وجيباً عنيفاً حتى إني لأسمع دقاته بأذني وأعدها كأنها دوي مدافع على بعد غير بعيد، وانتشرت الآلام في هذا الجانب الأيسر بأكمله انتشاراً فظيعاً لو كان في طود لتفتت كالهباء، وشغلت بقلبي أسمع وجيبه وأعدد ضرباته، ولكني في ظلام دامس، فلم أستطع أن أرجع إلى ساعتي، وأرجح أنه كان يوالي تلك الضربات بين ست أو سبع في الثانية، على أني غير متأكد على التحقيق. |
وكيف كنت أتنفس؟ هذا ما لا يوصف لأنه لا يطاق أبداً؛ كان يخيل إلي أني لا أستطيع سحب النفس الواحد إلاّ بعد عام على شدة التلوي وغزارة الآلام، كلا لقد حيل بيني وبين نفسي فكأنما كنت أسحبه بشعرة من وراء جبال وآكام وأوعار، وكنت مع ذلك صابراً جلداً، وإن استطعت بين الفينة والفينة أن أرجّع أنة بعد أنة أو أفتح فمي لأغتنم آهة كادت ألاّ تتسنى لي. |
واستحييت أن أنبه أهلي، فأكدر عليهم حلاوة نومهم، وقلت كما يقول العامة: إن لم أجد أحسن مني بعد موتي فلأرجع، لو يمكن الرجوع! |
استمررت في غمرة هذا العذاب إلى الضحى الكبير في يوم الخميس، وخف الألم خفة نسبية، ولكنه لم يزل تماماً وما تزال له وخزات وطعنات. |
وفزعت العائلة صباحاً عندما علمت، وأرادت أن تستدعي بعض الأساة الدكاترة ولكن كلا -وإن كانوا كثيرين- فإن بركتهم -على كثرتهم- ما تزال مرجوة على اختلاف في قوة الأمل أو ضعفه. |
هذه ثاني مرة أصاب فيها بهذه النوبة الفجائية، وما من شيء فاجأني في الواقع إلاّ بعد توفر أسبابه وعلله، ولم يجد أساة الحي في الأولى، وإنما أجدت عجوز الحيزبون -بعد الله سبحانه وتعالى- بوصفة احتوت على بعض الأعشاب بعد إحكام مزجها على نسب متفاوتة فانطلقت من عقال مرضي بعد يومين اثنين. |
وبعد فماذا يقول الطب الحديث في مثل هذه النوبة؟ يظهر أن هذه النوبة في فرع من فروع القلب، لا في شريانه الأساسي، وإلاّ لكنت قد ذهبت مع من هم أحسن مني أو أقبح مني، فليس الاختيار بيدي على كل حال. |
وإصابة القلب بهذه النوبة في فرع من فروعه يستصحب دائماً هذه الأعراض التي ذكرتها من آلام حادة هادئة تبدأ فوق القلب وتشمل الكتفين، ولا سيما الكتف الأيسر، وقد تصل إلى المعدة، وينتاب المصاب بها ضيق عظيم في الصدر وصعوبة في التنفس، وقد يهبط المستوى العام لضغط الدم، ويصفر وجه المريض، وقد يحم الأجل إذا كانت النوبة خطيرة جداً. |
ومن يدري، فلعلّي في النوبة الثالثة لا أكتب شيئاً، وأنا ذاهب إلى العالم الذي يضم من هم أفضل مني، وأسوأ مني، فآخذ مكاني بين الطبقة المماثلة بطبقتي هناك، ويا سوءتاه إن كانت في الطبقة الدميمة.. أم ترى كنت أستحق؟ |
|