شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تعال معي إلى الطائف (1) !
تعال معي إلى الطائف، وإن أرغمت أنا هذا العام على زيارته لأسباب لا شأن للقرّاء بها.
لن أزيدك علماً به إن كنت من رواده، ولكني سأعيد عليك بعض الصور السريعة التي قد تنساها على طول الأمد.
سيتدفق عليك النسيم العليل من كل مكان، وسيبعث فيك أحياناً ما يشبه الارتعاش ولا سيما بعد منتصف الليل، أما في الظهر فقد يتصبب عرقك -لا تعجب- فإن من في الطائف يعللون ذلك بكثرة ازدحام الأنفاس في جو الطائف، وقد يعلل أحياناً فيقال: إن أبخرة تخرج من جسد الصائم فتتزايل لها أعصابه، فاختر أي التعليلين، ولا تنس أن تبتكر من عندك تعليلاً ثالثاً!
وتعال معي إلى الحدائق فستجدها ناعسة مهمومة -مثل الناس- في رمضان من كثرة ما تحمله من أثمار، بعضها ما يزال فجاً وبعضها قد حان قطافه، وطاب ابتلاعه أو ارتشافه، فاحذر أن ينزغنك من الشيطان نزغ إلاّ إن كان النهار قد أدبر، فإن أدبر النهار فخذني معك، كلا، لقد سهوت بل تعال أنت معي!
تعال معي إلى حركة العمران إنها أخف وأقل بكثير عما كانت عليه في العام الغابر، وما سبقه من أعوام، ولكن ما لنا ولهذا وأنا وأنت لا نتوقع أن نبني ما يشبه جحر النملة عسى الله أن يبني لنا بيتاً في الجنة.
ولكن ما يزال في العمر فسحة فهيا إذاً إلى سوق الطائف، إما في بكرة النهار أو في أصيله.. إنك لا تستطيع أن تحرك رجلك من فرط الزحام، في كل اتجاه تجد عشرات وعشرات، منهم من يحمل زنبيله، ومنهم من يهز منديله وأنت تعرف طرائف رمضان وما يجب أن تكتظ به مائدة الإفطار إن كنت من الموسرين، وإلاّ فاكتف بالسماع مثلي، ولكن احذر أن تتحرش بأحدهم أو تطأ على ظله، أو تكشر له من بعيد ولو مبتسماً أرق ابتسام، فبمقدار ما تتأكد من برودة أعصابك يجب أن تتأكد أيضاً من هياج أعصاب الطرف الآخر وكونه مشدوداً على وتر واحد مثل الطنبور الذي يصدح بالضرب لأقل لمسة.
لقد رأيت في لحظة واحدة أربع خصومات لأجل توافه هينة فأرسل من يقوم مقامك للتفرج إن كنت تخاف مثلي.
وتعال إلى الناس.. هذا بنّاء فقير يعول أكثر من عشرة أنفس أنت تعرفه، وأنا أعرفه، ولكنه منذ شهرين لم يجد سبباً للاكتساب، ولم يضع أداة بنائه في بيت واحد، فبالله عليك كيف يعيش ويعيش من معه؟
وتعال معي إلى الماء، كلا فلو حدثتك لما صدقت، فتعال وانظر بعيني رأسك، وإني لمستطيع أن أعدك أصدق الوعد وأصنع لك ألف وليمة من كل الصباغ والألوان، ولكني لا أستطيع في أكثر الأحيان أو في بعضها أن أضمن لك كوباً من الماء، فلو أكلت عندي، وغصصت -لا سمح الله- فبأي شيء أجعلك تسهل مجرى حلقك أو تعتصر؟
وتعال معي إلى صنوف الحلوى بعد العصر، وهي معروضة من كل لون وعلى كل طعم، إنها تذكرني بقول شاعر قديم:
كأنها جنة الفردوس معرضة
وليس لي عمل زاك فأدخلها (2)
سيسيل لعابك بلا شك، ولكن راحتك لن تسيل حتى تبلغها للأكل فوراً، فإنها محرمة إلاّ في وقت معلوم، وحتى في هذا الوقت، فإنك لن تنالها إلاّ بالقطع الفضية المستديرة.. فهل تملكها؟
لقد عرفت جوابك قبل أن تنبس به فاتركها، وهيا معي إلى ليل رمضان بالطائف على ضيق سوقه، لكأنا في قسم من شارع "الغورية" بمصر، الكهرباء والأتاريك والفوانيس أيضاً تزحم بذبالاتها الخافتة وهج الأنوار الساطعة.
إن هذه الفوانيس مثلي ومثلك تجتر غازها البسيط في عصر الكهرباء والطاقة الذرية وترضى بالكفاف.
فلندعها، ولنمتحن صاحب دكان لنجلس عنده ساعة من ليل على أمواج النور الهدارة ولنستعرض المئات من كل وجه وبزة وهندام.
فهؤلاء الباعة والشراة والدلالون، وهم يمشون مشياً يغلب عليه الركض، وهؤلاء البدو السذج في أخلاق ثيابهم، وقد تبصر أحدهم طرف "غترته" على جانب من رأسه "وعقاله" على الجانب الآخر.
وهذا موظف أنيق الهندام يضع نظارته السوداء على عينيه في الليل.. سواد في سواد.. ترى ماذا يمكنه أن يبصر بها، ما أشد عنايته بنفسه، وما أكثر التفاته إلى ما يختل أو يختلف من شكله حتى يبادر مسرعاً إلى إصلاحه وتسويته.
كم من إنسان من هذا النوع يظن أنه هو وحده طاووس الحديقة!
وتعال معي! كلا لقد أمللتك ركضاً وأرهقتك من أمرك عسراً وانطلقت بك وراء صور قد لا تعنيك.. فالزم مكانك.. فلعلّك ممن يؤثر الاعتكاف والصيام في البلد الحرام.
فما أسعدك وأقر عينك!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :515  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج