الناصر صلاح الدين الأيوبي |
الدكتور محمَّد سامي الدهان |
ما أشبه الليلة بالبارحة، كما يقول المثل المشهور! |
نعم، ما أشبه الماضي بالحاضر، في دنيا العرب والمسلمين! |
ما أشبه ذلك العدوان بالأمس: عدوان الصليبيين الغاشم عندما احتلوا معظم ديار الشام -ومنها فلسطين- ما أشبه عدوانهم ذاك بعدوانهم الظالم الأثيم في هذا القرن العشرين! |
ولسنا نذكر هنا إسرائيل وإنما نذكر فقط هؤلاء الصليبيين! لسنا نذكر إسرائيل.. لأن إسرائيل ما كانت لتوجد لولا الذين يقفون من ورائها.. لسنا نذكر إسرائيل وإنما نذكر الخصوم الحقيقيين للعرب والمسلمين. |
الخصوم الذين قهرهم صلاح الدين الأيوبي.. الخصوم الذين أغاروا على معظم ديار الشام في العصر الوسيط ومنها فلسطين وكان يدور في نفوسهم يومذاك الإجهاز على بقية بلاد الشرق العربي لولا عناية الله.. ثم فحولة صلاح الدين الأيوبي الذي استطاع في عشرات من المعارك الفاصلة والمريعة، أن يعطي المغيرين دروساً، وأن يسترد منهم في نهاية مطافه معهم بيت المقدس، وأن يعيد الكرامة للعرب والمسلمين! |
وسنمر في هذا الكتاب النفيس للأديب المؤرخ الباحث الدكتور محمد سامي الدهان، بصفحة مشرقة من سيرة صلاح الدين.. صفحة مشرقة كل الإشراق.. نرجو أن تجلو -في عرضها هذا السريع الموجز جداً- بعض ملامح الصورة.. الصورة الرائعة كل الروعة: صورة البطولة، والإيمان، والفداء، التي حققها في ظروف رهيبة قاسية.. ظروف لا تختلف عن ظروف اليوم في كثير أو قليل.. حققها في أضخم معانيها، وفي شجاعة منقطعة النظير، وإخلاص نادر المثال: البطل العظيم "صلاح الدين الأيوبي"! |
يقول المؤلف: شغل صلاح الدين الأيوبي زمانه وغير زمانه وسالت في رسمه صفحات وصفحات.. بعضها بأقلام عربية، وأكثرها بأقلام غربية.. |
نظر إليه العرب والمسلمون نظرتهم إلى بطل من أبطال التاريخ، وفارس من فرسان العصور، وسياسي من ألمع السياسيين، حتى غدا رمزاً وشعاراً من شعارات النضال والكفاح. |
ونظر إليه الغربيون نظرتهم إلى فارس وقف في وجه الدول الغربية، وحارب كل عمره في نصرة العرب والإسلام، فانتصر مرة.. وانكسر مرة.. ولكنه كان صورة للتسامح والفروسية فأنشأوا فيه الكتب والدراسات كلما تحدثوا عن الحروب الصليبية.. وما نظن أن شرقياً شغل المؤرخين الغربيين وأذهانهم بعد النبي المعظم صلى الله عليه وسلم كما شغلهم صلاح الدين! |
كانت حروبه أشبه بفتوحات جديدة شبيهة بفتوحات العرب الأولى. |
* * * |
اشتهر عصر صلاح الدين بأنه عصر الحروب الصليبية.. فقد فتح عينيه والصليبيون في أرجاء الوطن العربي الكبير.. وأغمض عينيه وهو يفكر في مطاردة آخر حصونهم.. وقضى حياته كلها في كفاح ضدهم، وحرب على جيوشهم، وقتال مع قوادهم. |
ولد صلاح الدين سنة 523هـ/1137م، وفي مدينة دمشق وتحت راية الملك العادل نور الدين زنكي عاش، وترعرع وحضر مجالس نور الدين فأفاد من ذلك فائدة عظيمة، وأخذ بأطراف العلم والفروسية.. وأخذ عن أبيه أيوب أنواع الرياضة، كما أخذ عن العلماء دروس الفقه والحديث والنحو، واستمع إلى الشعر والنثر، وأعجب بالبيان الجميل وتعلم القرآن.. واستطاع صلاح الدين أن يفيد من أخلاق نور الدين ومن حبه للجهاد، ومن سعيه في جمع كلمة المسلمين، فتعلق بذلك كله وغدا في ما بعد صورة عن هذا الملك العظيم! بل أصبح أعظم سلطان بين المسلمين، في عصره وبعد عصره.. والفضل في سموه ونبوغه، وتفوقه ونجاحه يعود إلى أيامه بدمشق وإلى تربيته في كنف نور الدين؛ فقد كانت له مدرسة كبرى، وكان له نور الدين الشهيد إماماً وقائداً ومثلاً أعلى. وقديماً قال ابن الأثير: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين". |
ويتحدث المؤلف في فصوله الأولى عن غزو نور الدين لمصر واستيلائه عليها بقيادة "شيركوه" (أسد الدين) عم صلاح الدين سنة 564هـ، ثم وفاة أسد الدين وتولية صلاح الدين الوزارة بمصر في نفس هذه السنة وتلقيبه بالملك الناصر من قبل الخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين.. ثم ما كان من أمر قضائه على الفاطميين وقطعه الخطبة على العاضد، وإقامتها باسم المستضيء بنور الله خليفة العباسيين في بغداد.. يقول المؤلف: وأضحى صلاح الدين حاكم مصر وحده وسنه 37 عاماً، فراح يبني ويعمر وينشئ ويجري الإصلاحات فيها.. وعمد إلى ذكر اسم السلطان نور الدين بعد اسم الخليفة المستضيء في المنابر، وضرب النقود باسم نور الدين. |
ويشير المؤلف هنا، إلى خلاف بدأت بوادره بين كل من نور الدين وصلاح الدين وما كان من موقف نجم الدين أيوب والد صلاح الدين في هذا الشأن.. الموقف الذي دل على حكمته وبعد نظره مما كانت نتيجته عدم وقوع ما كان يخشى من احتكاك بين الرجلين العظيمين: نور الدين وصلاح الدين. |
وفرح صلاح الدين بهذه النتيجة وسكن باله بفضل الحكمة التي أبداها أبوه، فقد صرف عنه بلاء عظيماً، ووفر عليه حرباً لا طائل تحتها وجنب المسلمين حرباً أهلية لا يفيد منها إلاّ العدو المتربص على السواحل وفي القدس.. ولكن الأسف والأسى أصابا صلاح الدين بعد هذا فقد فاجأه موت أبيه بعد مرض قصير.. وخسر صلاح الدين بوفاة أبيه ركناً ركيناً ومستشاراً معيناً، وبات خائفاً يترقب هجوم نور الدين على مصر واستخلاصها منه فشرع في إيجاد مملكة يقصدها ويملكها لتكون له عدة في النائبات إذا ما أخرجه نور الدين من مصر، فأمضى "قراقوش" إلى المغرب في طائفة من الترك فاستولى على طرابلس الغرب وكثير من بلاد إفريقية حتى تونس وأرسل أخاه توران شاه بن أيوب إلى اليمن فتمكن من غزوها سنة 569هـ وأقام بها الخطبة العباسية. |
وأراد جماعة من الشيعة الوثوب بمصر وإقامة الدعوة العلوية وردها إلى ما كانت عليه وكان فيهم عمارة اليمني الشاعر وغيره.. واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية والشام إلى مصر وكان قصدهم أن الفرنج إذا هجموا على مصر خرج إليهم صلاح الدين بنفسه عند ذاك يثورون بالقاهرة ويعيدون الدعوة العلوية. |
غير أن صلاح الدين ضبط المؤامرة وأحبطها وقبض على الخونة.. وأمر أن يصلب عمارة اليمني مع الجماعة المغامرين وأن يعدم الباقون وذلك سنة 569هـ، وسير صلاح الدين إلى نور الدين بدمشق كتاباً يشرح فيه هذه القضية ويذكر فيه نصر الله وعونه عليهم. |
ووصل كتاب صلاح الدين في اليوم الذي توفي فيه نور الدين بدمشق، وقد عزم الرجل على قصد مصر في ما علمنا، واستخلاصها من يد صلاح الدين. |
وقد خلف نور الدين سيرة عاطرة تذكرها الأجيال شاهدة على عدله وزهده وجهاده، وصدقاته وإحسانه.. فقد اجتمع له من الصفات النادرة ما يرفعه إلى مصاف الملوك العظماء والساسة الدهاة.. فقد حفظ ملك الشام وأنقذ سورية من خلاف وفوضى وحماها من هجمات الصليبيين. |
واختلف الأمراء والحكّام في الشام بعد موت نور الدين.. وسار صلاح الدين إلى دمشق في مستهل صفر من سنة 570هـ ووصل إليها، وأدرك الأمراء أن الشام غدت لصلاح الدين وأن الدولة النورية قد انتهت.. وأن عهداً جديداً قد بدأ هو عهد صلاح الدين.. |
ويعود صلاح الدين إلى مصر -بعد أن ينيب عنه أخاه توران شاه في دمشق- وتبدأ معاركه مع الصليبيين. |
وما يكاد صلاح الدين يفرغ من حرب إلاّ ليباشر حرباً أخرى في الجنوب أو في الشمال؛ فهو ضد الصليبيين حول الساحل في الجنوب وهو في بلاد الأرمن لقمع ملكهم بالشمال، يحرق القلاع، ويأسر الفرسان، ويحوي الغلات، ويملك الآلات، ويذل العتاة المعتدين.. ويعود مؤيداً مظفراً منصوراً.. ويتابع صلاح الدين حروبه المظفرة متنقلاً من بلد إلى بلد.. ومن معركة إلى معركة.. ولقد مهدت حروبه في شمالي الشام للسلام والأمن.. فخلصت الشام والجزيرة لحكمه، وأصبح لا يفكر إلاّ بطرد الفرنجة من البلاد الإسلامية جمعاء، وذلك بإعلان الجهاد المقدس! |
أرسل إلى سائر الأطراف يطلب العساكر، فجاءته من كل فج.. ولبث يفكر في خطة لانتزاع البلاد المسلوبة.. وصادف أن اعتدى صاحب الكرك "أرنو" على قافلة عظيمة من المسلمين فأخذها بأسرها، وأسر الأجناد وحملهم إلى الكرك، وسام المسلمين سوء العذاب والتنكيل! وكانت بينه وبين صلاح الدين هدنة.. فغدر ونكث، وأصر على العصيان، فنذر السلطان دمه وأعطى الله عهداً، إن ظفر به أن يستبيح مهجته، وأقسم الأيمان على أن يقبض على "أرنو" ويقتله.. سار إلى "الكرك" ونازلها.. ثم سار إلى الشوبك ووصلته بقية الجيوش الإسلامية وقد غص بها الفضاء وعرض العسكر فكان في اثنى عشر ألف مقاتل ثم رتب العسكر، وسار يوم الجمعة 13 ربيع الآخر من سنة 583هـ وأحاطت عساكره ببحيرة طبرية ففتحها في ساعة من نهار.. |
وأعد الفرنج جيوشهم وحشدوا جموعهم وجاءهم الإمداد من سائر البلاد الساحلية فكانوا في خمسين ألفاً.. وزحف الجانبان والتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي وحاز المسلمون ماء البحيرة ومنعوها عنهم.. وأخذتهم سهام المسلمين فأووا إلى جبل حطين ليعصمهم من البلاء بعد أن انهزم منهم طائفة فلم ينج منهم أحد! |
وهرب بعضهم إلى "صور" ولكن المسلمين أحاطوا بالباقين الذين احتموا بجبل حطين -وهي قرية عندها قبر شعيب النبي عليه السلام- وضايقوهم وأشعلوا حولهم النار واشتد الطعن والضرب ودارت عليهم دائرة السوء وعلموا أنه لا ينجيهم من الموت إلاّ الإقدام على الموت، فحملوا على المسلمين، ولكن الله ثبت أقدام المسلمين ونصرهم فأثخنوهم بالقتل والجراح والأسر ووهنوا وهناً عظيماً وأيقنوا بالبوار.. وبقي ملك القدس على التل في 150 فارساً فحسب، وما زال المسلمون يضربون الخيمة حتى سقطت وأسروا كلهم. |
وهنا نزل السلطان عن فرسه وسجد لله شكراً.. وبكى من شدة فرحه.. لأن البلاد الإسلامية لم تشهد يوماً كيوم حطين، منذ ملك الفرنج البلاد الساحلية.. ولم تعرف المعارك شدة وهولاً ونصراً وظفراً كتلك المعركة التي أدارها الناصر صلاح الدين.. فقد كان الفرنج ألوفاً فلم ينج منهم إلاّ أحاد.. وامتلأت الأرض بالأسرى والقتلى. |
كانت موقعة حطين خيراً وبركة على صلاح الدين، إذ كانت مفتاح الفتوح الإسلامية. وبهذا تيسر فتح بيت المقدس وستظل هذه الموقعة بين سمع التاريخ وبصره تروي بطولة الشرق وعظمة العرب.. وشدة الإسلام!! لقد هزت حطين أركان الفرنجة والصليبيين، فلم يكونوا ينتظرون انكساراً كهذا الانكسار، يمحو الجيش، ويذل المحاربين، ويقضي على أكبر كتلة مهاجمة في ذلك الزمان. |
وتتابعت الفتوح بعد يوم "حطين"، وكان أعظم فتح حققه صلاح الدين فتح القدس في اليوم الثالث من رجب سنة 583هـ. |
يقول المؤلف: ودخل المسلمون المدينة، وكبروا فرحاً، وطهروا المسجد الأقصى مما زرع فيه الفرنجة من خبث.. وما أحدثوا فيه من أقذار.. ونصبوا المنبر، وأقاموا صلاة الجمعة في الأسبوع التالي، فامتلأت رحبات المسجد وصحونه بالخلائق واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات، ووجلت القلوب، وخطب القاضي "محيي الدين الزكي" وقد رقي المنبر بالأهبة السوداء العباسية خطبة بليغة تناقلتها كتب التاريخ. |
ومضى صلاح الدين يفتتح ما بقي من القلاع والحصون.. وغدا مرهوب الجانب بعيد الصيت، يخافه الفرنجة، في كل مكان، ويخشون بأسه في البر والبحر وتحت كل حصن، وفوق كل قلعة، لأنه قام بأمر الجهاد على حال شريفة، في حرب يدعمها الإيمان، وتسندها العزيمة، ويغذيها الفداء والثبات.. |
وهاجم الفرنج القدس مرة أخرى.. ولكنهم باؤوا بالفشل وجاء السلطان خبر بأن الفرنج رحلوا طالبين بيروت في سنة 588هـ فبرز من القدس وسار إلى الرملة وحاصر يافا.. فطلب أهلها الأمان وعقدت بعدها هدنة بين الفرنجة وصلاح الدين. |
وعاد صلاح الدين أخيراً إلى دمشق بعد أن طاف بالقلاع والحصون في الطريق، فبلغ دمشق في خمس بقين من شوال وفرح الناس به لأن غيبته عنها كانت قد طالت مدة أربع سنين كانت تبلغهم خلالها أنباء الانتصارات والانكسارات، فيفرحون ويحزنون.. وأخيراً أتتهم أنباء الهدنة ففرحوا بعودة البطل الناصر إليهم.. وقد بذل من نفسه وصحته ما بذل في سبيل بقائهم ونصرهم، وعزة العرب، وبقاء الإسلام. |
* * * |
قضى صلاح الدين شبابه في غزو مصر، تحت راية نور الدين ليجمعها إلى الشام، فلما مات نور الدين أصبح صلاح الدين يتردد بين القاهرة ودمشق لإدارة هذا الملك العريض.. ثم لبث في الشام أواخر حياته يحارب الصليبيين.. فطوراً كان ينتصر، وآناً ينكسر وفي كليهما كان يبذل جهده ونفسه في سبيل الله والوطن.. فما هان ولا لان، ولا سكنت نفسه إلى اللذائذ والترف وإنما كانت الحياة في نظره جهاداً في سبيل الله والوطن والعروبة والإسلام.. فالجهاد كان سبيلاً إلى الجنة، والجنة هي الخلود بعينه.. لذلك آثر الآخرة على الدنيا، وكتب بأعماله ملاحم خالدة، يصح أن ينظم فيها شاعر ما نظم "هومير" وما تخيل اليونان والرومان والفرس فهو رمز البطل والبطولة.. لو رسمت له لوحة فنية لكان فيها داعية إلى الجهاد يحث على القتال وهو يصيح: "يا للإسلام" والخيول من حوله تسقط، والفرسان يجندلون بالسهام والسيوف والنبال. |
لقد كان صلاح الدين جندياً عظيماً من جنود الحرب في سبيل الخير، وفي الذود عن الحمى، والدفاع عن الحدود، وما تخلف عن معركة من المعارك الفاصلة، فرأى الموت عياناً، وأقبل على الاستشهاد مرات، فضرب المثل الرائع لجنوده وأمرائه وقواده، وشجعهم على الاستبسال والاستشهاد. |
كانت مدة ملكه الديار المصرية 24 سنة وملكه للشام قريباً من 19 سنة، وحين قضى لم يكن في خزانته سوى سبعة وأربعين درهماً ولم يخلف مالاً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية، وإنما ترك هذا الصيت الواسع والدوي الهائل والذكر الخالد أبد الدهر يكبره الغرب ويكبره الغربيون على رغم وقوفه أمام جيوشهم، وقتاله لرجالهم، فقد قال فيه "ديورانت" وهو أحدث من كتب عنه في هذه السنين بالغرب ووصف معاركه: "وبعد فإن اعتدال صلاح الدين، وصبره وعدله قد غلبت بهاء "ريشرد" وشجاعته ومهارته الحربية، كما غلب المسلمون بفضل إخلاص زعمائهم ووحدتهم الزعماء الإقطاعيين المنقسمين على أنفسهم، والذين يعوزهم الولاء للغرض والإخلاص في المقصد. |
وقد كان صلاح الدين مستمسكاً بدينه إلى أبعد حد، وكان شفيقاً على الضعفاء، رحيماً بالمغلوبين يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سمواً جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -الخاطئ في ظنهم- رجلاً يصل في العظمة إلى هذا الحد.. |
وكان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب.. وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلاّ ديناراً واحداً، وقد ترك لابنه الظاهر قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية، قال فيها: "أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدماء والدخول فيها، والتقلد بها، فإن الدم لا ينام.. وأوصيك بحفظ قلوب الرعية، والنظر في أحوالهم، فأنت أميني وأمين الله عليهم، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلاّ بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد.. فإن الموت لا يبقي على أحد.. واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يغفر إلاّ برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم". |
* * * |
ونظر إليه القادة الغربيون نظرتهم إلى قائد وقف أمام قواتهم فحال دون تغلغلها في ربوع العرب، فكان انتصاره العسكري عليهم رمز اندحارهم وتقهقرهم وانكسارهم، فأكبروا فيه المهارة العسكرية، والشجاعة الحربية، وجعلوه رأس القادة الكبار في الأمم فقد كان وحده قائداً، وكانت أمامه قوات وقيادات من أمم مختلفة فاستطاع أن يتغلب عليها وأن يصمد لها، فلما قدم الإمبراطور غليوم إلى دمشق سنة 1898م ومعه الإمبراطورة خطب خطبة بليغة قال فيها: "ومما يزيد في سروري أني موجود في بلد عاش بها من كان أعظم رجال عصره وفريد دهره شجاعة وبسالة.. ألا وهو البطل صلاح الدين الأيوبي". |
وأرسلت الإمبراطورة إكليلاً بديعاً من الزهر ليوضع باسم الإمبراطور على ضريح البطل العظيم، وكتب عليه بالعربية: "ويلهلم الثاني قيصر ألمانيا وملك بروسيا تذكاراً للبطل صلاح الدين الأيوبي"!! |
وهذه الواقعة أثارت مشاعر شعرائنا، فقال شوقي يذكرها مخاطباً الإمبراطور: |
دعوت أجل أهل الأرض حرباً |
وأشرفهم إذا سكنوا سلاما |
وقفت به تذكره ملوكاً |
تعود أن يلاقوه قياما |
وكم جمعتهم حرب فكانوا |
حدائدها وكان هو الحساما |
|
وإذا كان هذا هو موقف غليوم.. فقد وقف غيره من الضباط المستعمرين موقف القحة والدناءة، إذ قدم على قبره فقال: "ها نحن أولاء يا صلاح الدين"، لكن صلاح الدين كان عظاماً هامدة ولو كان هذا القائد الغربي الكسيح الهزيل في عصر صلاح الدين لقضى رعباً قبل أن يتشرف بالمثول بين يديه. ولكن الجرأة على الأموات من صفة الجبناء.. وليست من الشجاعة في شيء وليست من الخلق في أمر.. وأن وقفته تدل على إحساسه العميق بذل أجداده من قواد الفرنسيين الذين أطاح صلاح الدين برؤوسهم، وعبر على جثثهم بروج الدفاع وأسوار الحصار، وتدل كذلك على شدة حنقه لتاريخ أمته المقهورة في بطاح الشام وفلسطين، والعجيب أن هذا الخلق ما يزال ينتقل في دماء قوادهم على مر ثمانية قرون لم ينسوا خلالها ذلهم العسكري وانكسارهم الحربي على يدي بطلنا صلاح الدين. |
|