شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
داعي السَّماء
بلال بن رباح
الأستاذ عباس محمود العقاد
أثر قيم في أدب التراجم، وتحليل الشخصيات، يضيفه العقاد إلى قائمة كتبه الأخرى.. وخاصة منها كتبه الإسلامية!
ولقد كان بلال -رضي الله عنه- خليقاً بهذه الدراسة، وخليقاً بهذا الكتاب..
بلال.. الصحابي الجليل داعي السماء ومؤذن الرسول صلوات الله عليه.
وكعادة العقاد في تراجمه للرجال، نجده في هذا الكتاب مستوفياً لموضوعه في إحاطة وشمول، وفي دقة بحث، وروعة تحليل..
* * *
يتحدث العقاد في كتابه هذا -إلى جانب ما يقدمه لنا من سيرة سيدنا بلال- عما يسميه "مسألة العنصر" ثم عن "العرب والأجناس" ثم الرق في الإسلام، ثم يأخذ في حديثه الماتع عن صاحب الترجمة في فصول خمسة يبدأ بها فصله "نشأة بلال" فيقول:
اتفقت الأقوال على أن بلالاً كان من أبناء الحبشة المولدين، وجاء في وصفه أنه رضي الله عنه كان "آدم شديد الأدمة نحيفاً طوالاً أجناً -أي فيه انحناء- كثير الشعر خفيف العارضين".
ويختلف مولده فيقال إنه ولد في مكة ويقال إنه ولد في السراة، وربما رجح القول الأخير لأن السراة أقرب إلى اليمن والحبشة، ولأن بلالاً رضي الله عنه رجع إليها حين فكر في الزواج.
والأرجح في سنة مولده أنه ولد قبل الهجرة بنحو ثلاث وأربعين سنة، ثم تختلف الأقوال حتى يبلغ التفاوت بينها زهاء عشر سنين..
وأبوه وأمه معروفان: أبوه يدعى رباح، وأمه تدعى حمامة.. ولعلّ أمه كانت من إماء السراة أو إماء مكة إذا صح أنه لم يولد بالسراة.
* * *
وكانت نشأة بلال بمكة في بني جمح من بطون قريش المشهورة.. وإذا كان لنشأة بلال بين هؤلاء القوم أثر مقدور في بغضه لعبادة الجاهلية وإقباله على الإسلام، فذلك هو اطلاعه بين القوم على أسرار الأزلام والأيسار وما يلازمها أحياناً من الغش والتلبيس وأن القوم فيهم مجافاة عن الرحمة والنزعة الروحية باعدت بينهم وبين خلائق عبد مناف -جد النبي عليه السلام- منذ القطيعة الأولى بين الأحزاب القرشية، وخليق بأمثال هؤلاء ألاّ يألفهم الضعفاء!
واتفقت الأقوال على أن الصديق رضي الله عنه هو الذي استنقذه من أيديهم بعدما عاينه من تعيبهم إياه لدخوله في الإسلام فاشتراه بخمس أواق من الذهب وقيل بسبع أواق، وقيل بتسع أواق.. واستراح بلال بعد عتقه من إيذاء السادة للعبيد، ولكنه لم يسترح من إيذاء الأحرار للأحرار ولا سيما المستضعفين الذين لا تحميهم العصبية ولا الخوف من الثأر.. فقد كان المشركون يتعقبون المسلمين بكل ما استطاعوا من عنت ومساءة واشتدوا في ذلك حتى هموا بقتل النبي عليه السلام وجمعوا كلمة القبائل على هذه النية ليفرقوا دمه الزكي بينها فلا تقوى هاشم وحدها على محاربتها أو تصمد لعداوتها، فأشفق النبي الكريم على صحبه وأذن لهم في الهجرة قبله على إيثار منه للبقاء في مكة.
.. ولزم بلال النبي والصديق بالمدينة ومكة وسائر المغازي والأسفار بعد ذلك. وكان لمسجد المدينة الذي اشترك النبي عليه السلام في بنائه حظ الأذان الأول فكان لبلال حظ السبق بهذا الأذان ولم يزل له حظ التقدم على سائر المؤذنين في حضرة النبي حتى قبض عليه السلام، وميز بالتقدم عليهم لتقدمه في الإسلام ولجهارة صوته وحسن أدائه، وإن كان تقدمه في الإسلام هو أرجح المزيتين التي استحق بها التفضيل والتكريم.. وقد آخى النبي في المدينة بين المهاجرين والأنصار فآخى بين بلال وخالد أبي رويحة الخثعمي وقيل بل بينه وبين أبي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.. والأول هو الأرجح لبقاء الصلة بين بلال وأبي رويحة إلى أن فرقت بينهما الوفاة.
* * *
.. وقد كان الحارس الملازم لشخص النبي عليه السلام في طويل صحبته بين الحرب والسلم والإقامة والسفر ولكنه عليه السلام لم يكن يتخذه حارساً يحميه كما يحمي الحراس الأمراء والسلاطين، وإنما كان يستصحبه في إقامته وسفره استصحاب الحراس لأنه يستريح إلى رؤيته والشعور بصدق مودته ووفائه وكانت مودة بلال لمولاه تبدو منه حيث يريد وحيث لا يريد فإذا اشتد الهجير في رحلة من الرحلات أسرع إلى تظليله بثياب الوشي والنبي لا يسأله ذلك، وإذا تهيأوا للقتال ضرب له قبة من أدم يرقب الموقعة منها وجعل يتردد بينها وبين الميدان ليطمئن عليه ويتلقى الأمر منه، فلم يفرقهما ضنك ولا موقف خطر، ولم ينقض يوم إلاّ جمعتهما فيه الصلوات الخمس ومجالس العظة والحديث ما لم يكن في غيبة قصيرة لشأن من شؤون الدين الذي لم يكن له شأن سواه..
ولما فُتحت مكة أمره النبي عليه السلام أن يقيم الأذان على ظهر الكعبة فأقامه، والمشركون وجوم يغبطون آباءهم لأنهم لم يشهدوا ذلك اليوم ولم يسمعوا ما سمعوه فيه.. ودخل النبي الكعبة فكان في صحبته ثلاثة هم عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها، وأسامه بن زيد، وبلال.
وما زال بصحب النبي مجاهداً حتى قُبض عليه السلام فأقام الأذان بعد وفاته أياماً على أرجح الأقوال، ثم أبى أن يؤذن وأصر على الإباء، لأنه كان إذا قال في الأذان "أشهد أن محمداً رسول الله" بكى وبكى معه سامعوه، فلم يطب له المقام حيث كان يصحب النبي ويراه ثم هو بعد لا يصحبه ولا يراه، وآثر الاغتراب على فرط حبه لمكة والمدينة.. وآثر الجهاد على فرط حاجته إلى الراحة في عشرة الستين، واتفقت أرجح الأقوال على أنه استعفى الصديق من الأذان معه.. وأستأذنه في الخروج إلى الشام مع المجاهدين، فأذن له بعد إلحاح منه واشترك في معارك لا نعلمها على التفصيل ثم سكن إلى ضيعة صغيرة بجوار دمشق يزرعها ويعيش من غلتها، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك إلاّ يوم أذن للخليفة الفاروق بدعوة من كبار الصحابة والتابعين، ويوم تصدى لمحاسبة خالد في مجلس الحكم بين يدي أبي عبيدة.
وأدركته الوفاة في نحو السبعين لأنه كان ترب الصديق على أرجح الأقوال، وقيل إنه مات في طاعون عمواس وقيل سنة عشرين للهجرة أو إحدى وعشرين، واستعذب الموت لأنه سيجمع بينه وبين النبي وصحبه كما كان يقول في ساعات الاحتضار فكانت زوجته تعول إلى جانبه وتصيح صيحة الوله: واحزناه! فيجيبها في كل مرة: وافرحتاه، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه..
وكانت وفاته بدمشق فدفن عند الباب الصغير، وقبره رضي الله عنه معروف يزار.
* * *
وليس أدل على قدر بلال عند الصحابة والتابعين من ذاك الوجد الذي اختلجت به حناياهم وهو يؤذن لهم في دمشق بعد انقطاعه عن الأذان تلك السنين الطوال.. بكى عمر.. وبكى معه الشيوخ الأجلاء حتى أخضلت اللحى البيض، واضطربت الأنفاس التي لا تضطرب في مقام الروع ولو بدا لهم أنهم يستمعون إلى صوت آدمي ينطلق من حنجرة من اللحم والدم لما اختلجوا تلك الخلجة ولا تولاهم ما تولاهم يومئذ من الوجد والرهبة، ولكنهم أنصتوا لوحي الغيب حين أصغوا إليه وقام في أفئدتهم أنه صوت جدير بمحضر النبي عليه السلام يسمعه معهم كما سمعوه معه آونة من الزمان فهم إذن في عليين أو قريب من عليين!
رحم الله بلالاً.. إنه كان داعي السماء، ليرفع أبناء الأرض بدعوتها.. وقد رفعهم في ذلك اليوم إلى الأفق الأعلى.. وحق للمسلمين في ذلك العهد أن يقرنوا بين محضر النبي وصوت بلال حيث كان؛ فمن سيرة بلال نعلم أنه كان يأوي إلى كفالة النبي في حياته البيتية كما كان يأوي إليه في حياته الدينية وإن أحداً من الصحابة لم يكن يذكرهم بالنبي عليه السلام كما كان يذكرهم به مؤذنه وصاحبه ووليه طوال حياته حيث يرونه أو حيث يستمعون إليه..
.. ذكره ابن إسحاق في من حضر بدراً.. فقال: وبلال مولى أبي بكر، مولى من بني جمح اشتراه أبو بكر من أمية بن خلف وهو بلال بن رباح لا عقب له.
نعم.. ولكنه أعقب الميراث الذي يتصل بالأذان في كل مكان.. فلا ينساه من يسمع الأذان ويرجع به إلى أول من نادى به قبل أجيال وأجيال.
كان أول من أسلم ثمانية، هم أولئك النخبة الأبرار: خديجة وأبو بكر وعلي وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد.
قال رواة صدر الإسلام: أما أبو بكر فمنعه الله بقوته، وكذلك من كان لهم قوم يحمونهم وأما سائرهم، فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وأصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلاّ وقد واتاهم على ما أرادوا من الكفر وسب النبي عليه السلام، إلاّ بلالاً.. فإنه هانت عليه نفسه في الله وهانت على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد، أحد، ولا يزيد..
* * *
وجاء في طبقات ابن سعد بإسناده ما فحواه: إنه كان من المستضعفين من المؤمنين، وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف!
وكانوا إذا اشتدوا عليه في العذاب قال: أحد.. أحد. فيقولون له: قل كما نقول، فيقول: إن لساني لا يحسنه. وكانوا يأخذونه فيمطونه ويلقون عليه من البطحاء وأنطاع الأدم ويريدونه على أن يذكر اللات والعزى فلا يذكرهما ويقول: أحد، أحد.. فأتى عليه أبو بكر فسألهم: علام تعذبون هذا الإنسان؟ واشتراه بسبع أواق وأعتقه.
وهانت على بلال نفسه في الله حتى ملوه فجعلوا في عنقه حبلاً ثم أمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين أخشبي مكة، فلم يزدهم على كلمته التي كان يرددها ولا يمل تردادها: أحد، أحد.
وكانوا يضربونه ويلقونه على الرمال الكاوية في وقدة الهجير ثم يضعون الحجارة على صدره وهو لا يجيبهم إلى كلمة مما يسألونه، ولا يسكت ولا يكف عن الجهر بالتوحيد!!
هذه صورة بلال رضي الله عنه في مبدأ إسلامه وهو يتلقى العذاب، ويتعرض للموت ولا يصل به الإسلام إلى الوعود -فضلاً عن تحقيق الوعود- في معاملة المستضعفين من العبيد والإماء لأن أحكام الإسلام في معاملة الأسرى والأرقاء على التعميم لم تكن معروفة مفصلة في ذلك الحين!
ويستطرد المؤلف الكبير.. إلى أن يقول: على أن المعاملة الحسنة قد جاءت إلى بلال من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب كأحسن ما تصبو إليه الأحلام، ويتعلق به الرجاء!
فبلغ من تعظيمه أنه كان نداً لأعظم المسلمين في حياة النبي عليه السلام وحياة الصديق والفاروق، بل كان الفاروق رضي الله عنه يقول: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا"، ويقصده بهذا اللقب الرفيع!
واتفق يوماً أن أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو بن الحارث ورهطاً من سادة العرب طلبوا لقاء الفاروق، وطلبه معهم بلال وصهيب.. فأذن لهما حتى يستمع لما يريدان ويفرغ بعدهما لعلية القوم.. وغضب أبو سفيان وقال لأصحابه: لم أر كاليوم قط! يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه..! وكان سهيل أحكم منه وأدنى إلى الإنصاف فقال لهم: أيها القوم، إني والله أرى الذي في وجوهكم، إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم.. دعي القوم -إلى الإسلام- ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟
كان بلال رجلاً على الفطرة..! وقد تقدم في صفات الموالي الأفريقيين إنهم ينقمون الإساءة على المسيء، ويحفظون الحسنة لمن يحسن إليهم، ويملكهم بمهابته وطيب سجاياه.. وهكذا كان بلال رضي الله عنه في مجمل صفاته: كان متصفاً بأجمل صفات بني جلدته وهي الأمانة والطاعة والولاء، والصدق مع الولاء! وقد أجمع الذين وصفوا بلالاً على أنه كان طيب القلب صادق الإيمان، وأنه أبعد ما يكون عن خبث أو كنود، وإنما هو بشرة سوداء، على طبع صاف.. يرى الناس وجوه أعمالهم فيه.. وقد كان أكرم صفاته الفطرية مما يوافق الطاعة وصدق الولاء فكان إيمانه القوي بالله، وإخلاصه المكين لرسول الله، هما الذروة التي ترتقي إليها محاسن بني جلدته ومحاسن كل مولى مطيع سواء كان ولاؤه ولاء تابع لمتبوع، أو ولاء معجب بمن يستحق الإعجاب..!
كان حبه لرسول الله هو لب الحياة عنده، وهو معنى الدنيا والآخرة في طوية قلبه.. وعاش ومات وهو لا يرجو في دنياه ولا بعد موته إلاّ أن يأوي إلى جواره وينعم برضاه..
وحضرته الوفاة فكانت امرأته تئن وتغلبها النكبة في قرين حياتها، فتصيح: واحزناه! وكان هو يجيبها في سكرات الموت: بل وافرحتاه، غداً نلقى الأحبة، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه!
وعلى هذا عاش.. وعلى هذا مات.. وما كان له من علاقة تربطه بهذا الكون العظيم إلاّ وهي في جانب منها علاقة بمحمد رسول الله، ومحمد سيده ومولاه!
* * *
وقد لزمت بلالاً عادة الصدق في كل كلام يبلغه المسلمون عن النبي أو يبلغه إليهم في شأن من عامة الشؤون وخاصتها، فلما رجاه أخوه في الإسلام -أبو رويحة- أن يسفر له في زواجه عند قوم من أهل اليمن لم يزد على أن قال:
"أنا بلال بن رباح وهذا أخي أبو رويحة وهو امرؤ سوء في الخلق والدين فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه وإن شئتم أن تدعوه فدعوه!".. فزوجوه وكان حسبهم عنده أن يقبل الوساطة ولا يرده، أو يموه عليه أوصافه..
وقد كان من ولائه لأبي رويحة هذا، أن ضم ديوان عطائه إليه حين خرج إلى الشام.. فلما دوّن الفاروق دواوين الصحابة سأله: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: إلى أبي رويحة ولا أفارقه أبداً للأخوة التي كان رسول الله عقدها بينه وبيني.
* * *
وقد عرف له النبي عليه السلام هذه الخصال التي تتجمع كلها في صفة الأمانة -وهو قائد الرجال الخبير بمناقب النفوس- فأقامه في موضع الثقة منه وائتمنه على مال المسلمين وعلى طعامه ومؤونته وشخصه، واستصحبه في غزوه وحجه وحله وترحاله ولم يعرف أحد من الصحابة لازمه عليه السلام كما لازمه المؤذن الذي يقيم معه الصلاة وهذا الأمين الذي يحفظ له المال والطعام، وهذا الرفيق الذي كان يظله بالقبة والستار من لفحات الهجير في رحلات الصيف، وربما تقدمه فركب ناقته "القصواء" التي قلما كان يركبها سواه عليه السلام، ولم يدخل الكعبة معه بعد فتح مكة غير عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها وأسامة بن زيد مولاه وبلال!
ودامت هذه الصحبة حتى قبض عليه السلام وحتى دفن في ثراه.. فكان بلال هو الذي ذكر واجب الحنان المكلوم في ذلك الموقف الأليم، فحمل القربة ودار حول ذلك الثرى الشريف يبلله بالماء.
ومن المتفق عليه في أقوال الصحابة أن بلالاً كان محبب الصوت إلى أسماع المسلمين وأنهم كانوا يقرنون دعوته بصلاة النبي بهم فيزيدهم هذا خشوعاً لسماع صوته فوق خشوع.
ولزم بلال النبي عن كثب طوال حياته.. فكان يوقظ النبي بعد الأذان أحياناً بآية من الآيات، أو بكلمة من جوامع الحكمة والتقوى.. فإذا اجتمع المصلون بالمسجد اتجهت الأنظار نحو الأفريقي الواقف بالصف الأول ليتلوه في حركات الصلاة فإن من واجب المؤذن بعد إعلان الأذان أن يصحب الإمام بالتكبير والدعاء.
ولما تعاظمت قوة الإسلام تعاظمت معه مكانة بلال وعهدت إليه أمور وأمور.. فكان خازن بيت النبي وأمينه على المال الذي يصل إلى يديه.. وتلقى من النبي مفاتيح الكعبة يوم دخل مكة في موكبه الظافر، وكان هو الذي أقام الأذان على أعلى مكان في تلك البنية التي اشتهرت الآن في أنحاء الكرة الأرضية.. وكان هو الداعي إلى الصلاة يوم حضر إلى المدينة ملوك حضرموت للدخول في الإسلام وكان هو الذي يدعو إلى الصلاة حين يحتشد فرسان الإسلام بالصحراء لقتال عابدي الأوثان.. ثم توفي محمد صلى الله عليه وسلم فسكت الصوت العجيب، ودعي مؤذنون آخرون لدعاء المسلمين إلى الصلاة، لأن بلالاً عاهد نفسه ألاّ يؤذن لإمام بعد نبيه ووليه.
ولا نعلم كم من الوقت قضاه بلال في صحبة أبي بكر بالمدينة ولكنه لا ريب كان في موضع الرعاية والكرامة بين المسلمين.. وكان له من جلال القدر في أنظارهم ما خوله أن يخطب امرأة عربية حرة لأخيه الأسود وهي رعاية عظمى بين قوم لا يزالون يفخرون بصحة النسب، ويسمون أنفسهم بالأحرار، أي الخلص من النسب الخليط! ويؤخذ من بعض الأنباء أن بلالاً قد تولى مهام الدولة بعد الخليفة الأول فلما أراد الخليفة العادل الصارم في عدله -عمر بن الخطاب- أن يحاسب "سيف الله" خالد بن الوليد على بعض أعماله، كان بلال هو الذي نزع عمامة خالد وأوثق يديه أمام جماعة المسلمين بالمسجد وهو يردد مشيئة أمير المؤمنين.
ولكننا لا نسمع بعد هذه القصة عن بلال إلاّ القليل حتى وصل عمر إلى الشام فنعلم أنه كان يصحب الجيش وأنه كان قد منح بجوار دمشق قطعة من الأرض، واعتزل الحياة العامة كل الاعتزال..
وكان معظم الصحابة قد فارقوا الدنيا، ولحق أبو بكر وخالد بالنبي في رضوان ربه كما لحق به آخرون ممن جاهدوا معه في معارك الإسلام الأولى.. ولم يكن الجيل الجديد على نمط الجيل الذي تقدمه في المعيشة.. فزالت أو كادت تزول من حياة العرب تلك البساطة البدوية التي درجت عليها، وظهرت بينها بدع من الترف الآسيوي لم تكن معهودة في ما مضى وتدفقت أموال فارس على المدينة كأنها سيل من الذهب.. حتى دمعت عينا الخليفة عمر، وهو ينظر إليها ويخشى منها الفتنة والحسد على رعاياه..
وخلال ذلك كانت العقيدة التي تعذب بلال من أجلها، ودان بها زمناً وهي لا تتجاوز حي أبي طالب، قد تجاوزت البرور والبحار إلى سورية وفلسطين وفارس وشهدها قبل أن يسلم روحه -إلى ذلك الذي لا ينام- وهي تسلك سبيلها إلى القارة الأفريقية، فتضمها إلى فتوح الإسلام.. وبهذا أصبحت دعوته الأولى -دعوة الأذان- مستجابة بين أقوام من المتعبدين من تخوم الهند إلى شواطئ الأطلسي.. وقرع فرسان الصحراء العربية أبواب كابل.. ولعلّ ولداً من ذرية بلال قد عاش حتى رأى الدولة تمتد على بقاع الأرض مسيرة مائتي يوم بين المشرق والمغرب.. وأن ما بلغته الفتوح الإسلامية -حتى في السنة الثانية عشرة للهجرة- لخليق أن يستجيش في صدر الشيخ الهرم حمية الدين التي عمر بها إلى ما بين جانحيه.
* * *
سكت صوت بلال عن ترديد الأذان بعد نبيه ووليه، لأنه رأى في حسبانه التقي أن الصوت الذي أسمع نبي الله، ودعاه إلى بيت الصلاة، لا ينبغي أن يسمع بعد فراق مولاه.. ولنا أن نتخيله في مأواه بالشام وإنه ليدعى مراراً إلى ترديد ذلك الدعاء الذي أعلنه لأول مرة تحت قبة السماء المضاءة بمصابيح الكواكب وأنه ليضطر مراراً إلى الإباء والاعتذار لأولئك الذين كانوا يجلونه إجلال القديسين وبودهم لو بذلوا أموالهم كلها ليسمعوه!
إلاّ أنه لما ذهب عمر إلى دمشق توسل إليه رؤساء القوم أن يسأل بلالاً إقامة الأذان تكريماً لمحضر أمير المؤمنين.. فرضي بلال وكان أذانه الأخير..! لقد كانت غيرة فتيان الدين الجديد في تلك الأيام غيرة يوشك ألاّ تعرف الحدود، ومن المحقق أن النبأ الذي سرى بينهم مبشراً باستماعهم إلى أذان بلال، قد أذكى في نفوس أهل المدينة الوردية الشذى حمية مفرحة لا نظن أن العالم المسيحي قد شهد لها مثيلاً في غير أيام الصليبيين.. فلما شاعت البشرى بين أبناء المدينة بسماع صوت المؤذن النبوي لاح للأكثرين ولا شك أن الظفر بسماع هذا الصوت غنيمة مقدسة، تكاد أن تضارع الظفر بسماع صوت النبي عليه السلام، وأنها أفخر أحدوثة في الحياة تروى بعد السنين الطوال للأبناء والأحفاد، وقد يكون في المدينة من تلقى النبأ بشعور لا يتجاوز التطلع والاستشراف ولكن الأكثرين الذين تزاحموا في صمت وخشوع واجفي القلوب مرهفي الآذان لسماع "التكبيرة" المعروفة قد خامرهم ولا ريب شعور أعمق وأقوى من أن يلم به النسيان.. وتزكي روايات العيان هذا الاعتقاد، لأننا نعلم من تلك الروايات أنهم بعد لهفة الانتظار في تلك اللحظة لم يلبثوا أن سمعوا رنة الصوت الجهوري تشق حجاب السكون وتتعاقب من حنجرة الشيخ الأفريقي بتلك الكلمات المحبوبة الباقية حتى بكى عمر.. ومن معه، وانحدرت الدموع على وجوه أولئك الأبطال المجاهدين وارتفع في زفراتهم نشيج عالٍ غطى في المسجد على دعاء الأذان الأخير.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1437  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 4 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج