شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفاروق القائد
اللواء الركن محمود شيت خطاب
-1-
ناحية بارزة من نواحي شخصية الفاروق، خصها مؤلف هذا الكتاب القيم اللواء الركن "محمود شيت خطاب"، بالدراسة والتحليل..
تلك هي ناحية الحرب في سيرته.. أو بعبارة أدق: براعته في فن الحرب، وامتيازه في قيادته العسكرية..
وفي الحق أن المؤرخ الباحث، اللواء خطاب، قد أوفى على الغاية في بحثه هذا الماتع الطريف، عن عبقرية الفاروق في الحرب، وتفوق قيادته العسكرية..!
ولم يكن هذا غريباً -في الواقع- من رجل درس فن الحرب، وتمرس بأعمال القيادة، إلى جانب دراساته الواسعة في تاريخ الإسلام والعرب، واهتمامه -على الخصوص- بوقائع الفتح الإسلامي، وتراجم أبطالنا الفاتحين..
ومن سنوات أخرج اللواء خطاب كتابه القيّم عن "الرسول القائد" صلوات الله وسلامه عليه..
ثم أصدر أول جزء من كتابه الضخم: قادة الفتح الإسلامي في الشام ومصر.. كما أنجز حتى الآن معظم أجزاء كتابه هذا، عن القادة الفاتحين العرب في البلاد الإسلامية الأخرى..
ولقد ظفرت هذه الكتب في أنحاء العالم العربي والإسلامي بما هي جديرة به من إقبال القارئين..
ومن كتبه التي ستصدر تباعاً، كتبه عن "الحرب والسلام في الإسلام" و "الصديق القائد" و "الإمام القائد" علي بن أبي طالب و "القادة الراشدين" وغيرها.
وليس من شك في أن هذه جهود تستحق الإشادة، وتستحق الإعجاب..
فما أحوجنا في هذه الآونة حقاً إلى المزيد من هذه الدراسات، وهذه البحوث..
* * *
وفي هذا الكتاب الشيّق عن الفاروق القائد، نجد المؤلف الفاضل يحرص على تناول هذا الموضوع في أوسع ما يمكن من شمول..
وفي إيمان، وفي حرارة، وفي إحاطة، وفي عمق، يحدثنا في الصفحات الأولى من الكتاب عن طريقة الفتح الإسلامي العربي، حديثاً موضوعياً أصيلاً رائعاً، يملك المشاعر ويهز النفوس..
ويمضي -بعد ذلك- في حديثه عن الفاروق: قائداً عبقرياً ملهماً، موفقاً في رسم الخطط، بصيراً بأسرار الحروب..
يتحدث عن الفتح الإسلامي العربي.. فيقول في ما يقول:
الفتح الإسلامي نسيج وحده في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح، ولا يدانيه، ولا يقاس به.. ولم ينقل المسلمون الأولون بهذا الفتح الإسلام إلى الأمم.. بل نقلوا به الأمم إلى الإسلام..!
فقد خرج المسلمون يعلنون كلمة الله، ويبشرون بدينه، ويبذلون في سبيل ذلك دماءهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم، لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً..
كانت غايتهم إصلاح البشر في أخلاقهم وأرواحهم وعقولهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم، فإذا قبلوا الهداية كفوا عنهم، وإن لم يقبلوا فرضوا عليهم الجزية، وإن أبوا قاتلوهم..
إذا حاربوا حافظوا على شرفهم.. لا يغدرون، ولا يمثلون ولا يجهزون على جريح، ولا يقاتلون امرأة، ولا يعرضون لعاجز، ولا يمسون معبداً، ولا يؤذون متعبداً، ولا يخربون داراً، ولا يفسدون ماء..
لا يلهيهم عن غايتهم مال، ولا يشغلهم جاه، ولا ينسيهم هذه الغاية خطر.. يعملون لله وحده، لا لجاه، ولا لذكر، ولا لمال..
لا يترفعون بشيء على المغلوبين، فكل من دخل في دينهم له ما لهم وعليه ما عليهم..
كانوا لا يعلنون عن السلام بألسنتهم فحسب.. ولكنهم كانوا في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة حية، وترجمة عملية لتعاليم الإسلام..
لذلك لم ينجل الإسلام عن غالبين ومغلوبين، كما هو الحال في كل فتح.. وإنما انجلى عن أمة واحدة لها رب واحد، ونبي واحد وقرآن واحد، وسنة واحدة..
ولذلك استقر الفتح الإسلامي وخلد، وبقيت البلاد المفتوحة للإسلام، فكان هذا الفتح فتحاً مستداماً، لأنه كان فتح خير وبركة وهداية.
لقد سجل التاريخ قبل الفتح الإسلامي حروباً كثيرة للآشوريين والبابليين والفراعنة، واليونان والرومان والفرس وأهل قرطاجنة وغيرهم..
وسجل التاريخ بعد الفتح الإسلامي حروباً كثيرة، لجنكيزخان وهولاكو، وتيمورلنك، وللصليبيين، وحروب الاستعمار الحديث الشرقي والغربي، وحروب هتلر وموسوليني والميكادو وغيرهم..
سجل التاريخ قبل الفتح الإسلامي وبعده، حروباً عاصفة عاتية، تهب على الكون مخربة مدمرة.. ثم تضعف العاصفة وتضمحل، فلا تدع وراءها غير الخراب والدمار.. ذلك لأن الحرب لم تدر رحاها إلاّ ابتغاء أرض يضمها الغازي إلى أرضه، أو شعب يحكمه مع شعبه، أو غنائم ينالها، أو ثأر يطلبه، أو خيرات يستولي عليها، أو كنز يملكه..
لذلك بقي الفتح الإسلامي خالداً مستداماً، وعفت الأيام على حروب الآخرين.
إن الحروب الإسلامية "فتح" لأنها حروب لحماية نشر الدعوة ولإقرار أركان السلام، فهي حروب خير وبركة وتحرر وانطلاق..
أما الحروب الأخرى، فهي "استعمار"، لأنها حروب أطماع شخصية، تثيرها العصبية العرقية أو العصبية الدينية، أو المطامع والمنافع أو حب الأمجاد والمغانم، والأسلاب، فهي حروب خراب ودمار، واستعباد وتحكم.. وشتان بين "الفتح" و "الاستعمار"..
* * *
يمضي المؤلف، فيتحدث عن عوامل انتصار المسلمين الفاتحين.. وينتهي إلى تقرير أن هذا الانتصار كان انتصار عقيدة لا مراء.. وأن الذين انتصروا بالعقيدة كانوا رجالاً أولي خبرة وقدرة، يؤمنون بها، ويعرفون كيف يتغلبون بها على أعدائهم.
إنها عقيدة منشئة، كما ينقل المؤلف عن الأستاذ العقاد..
وقد دفعت هذه العقيدة إلى نفوس المسلمين جميعاً -كما يقرر المؤلف- حمية سمت بهم إلى الإيمان بأنه لا غالب لهم من دون الله، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصراً دونه كل نصر، كما بعثت فيهم الاعتزاز بالنفس والشعور بأن عليهم رسالة واجبة الأداء للعالم..
ويواصل المؤلف حديثه عن عوامل انتصار المسلمين الفاتحين، إلى أن يقول:
"لقد انتصر المسلمون بعقيدتهم المنشئة البناءة، التي حملها إلى الناس حماة قادرون، قادة وجنوداً".
* * *
يتحدث عن جذور الفتح الإسلامي، وعن الرسول القائد، صلوات الله وسلامه عليه، أبي الجيش الإسلامي الأول، ومؤسسه وقائده ورائده، ومنظم صفوفه، ومدرب رجاله، وباعث كيانه، وراسم أهدافه ومخططها.. ثم يشير إلى تاريخ الجيش الإسلامي الأول، جيش المهاجرين والأنصار، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى أنه يتلخص بأربعة أدوار: دور التحشد من بعثته صلى الله عليه وسلم سنة 610م إلى هجرته إلى المدينة سنة 622م واستقراره هناك.. ثم دور الدفاع عن العقيدة، من بدء إرسال الرسول سراياه وقواته إلى القتال إلى انسحاب الأحزاب عن المدينة بعد غزوة الخندق.. وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين، فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم ضد أعدائهم الأقوياء.. ثم دور الهجوم، من بعد غزوة الخندق إلى غزوة "حنين"، وبهذا الدور انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في البلاد العربية، فاستطاعوا سحق كل قوة تعرضت للإسلام..
ثم الدور الرابع: وهو دور التكامل، من بعد غزوة حنين إلى أن التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى.
وبهذا الدور تكاملت قوات المسلمين فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد لها متنفساً خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة "تبوك" إيذاناً بمولد الدولة الإسلامية..
ويقول المؤلف هنا -وما أبلغ ما يقول!- : لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة من بعثته حتى هجرته "توحيداً من أجل الجهاد"، وكانت حياته المباركة بالمدينة المنورة من هجرته إليها حتى التحاقه بالرفيق الأعلى "جهاداً من أجل التوحيد"!
ثم عمل أبو بكر، رضي الله عنه، لتحقيق أهداف النبي صلى الله عليه وسلم، وسار قدماً نحو إنجازها..
ولم يزل أبو بكر الصديق في كل عمل من أعماله منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة، مؤسساً لهذا البناء الشامخ، الذي كان هو أول من قام عليه بعد بانيه عليه الصلاة والسلام.
وفي سنة ثلاث عشرة هجرية، بينما كانت جيوش المسلمين تدك معاقل الروم في أرض الشام، وتنتصر في معركة اليرموك -أول معركة حاسمة من معارك الفتح الإسلامي- في تلك السنة مات القائد الأعلى الثاني لجيوش المسلمين بعد أن بدأ الفتح بداية موفقة، منفذاً خطة القائد الأعلى الأول محمد بن عبد الله صلوات الله وتسليمه عليه..
فماذا فعل القائد الأعلى الثالث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لتنفيذ خطة الرسول القائد، في حمل رسالته السامية إلى الشرق والغرب..؟
* * *
يقول المؤلف: "كان عهد الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عهد الفتح الإسلامي الذهبي.. فقد حالف النصر فيه أعلام المسلمين، فامتدت دولتهم، حتى جاوزت أفغانستان والصين شرقاً، والأناضول وبحر قزوين شمالاً، وتونس وما وراءها من أفريقيا الشمالية غرباً، وبلاد النوبة جنوباً.. لقد فتح عمر العراق وإيران، وأكثر مناطق أرمينية، وبلاد الشام بما فيها سوريا ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين، ومصر وليبيا والنوبة.. وخاضت جيوش المسلمين في أيامه ثلاث معارك حاسمة من معارك الفتح الإسلامي: معركة القادسية التي فتحت للعرب والمسلمين أبواب العراق والأهواز، ومعركة بابليون التي فتحت لهم أبواب مصر وليبيا والنوبة، ومعركة نهاوند التي فتحت لهم أبواب إيران كلها.. كل هذا الفتح العظيم أنجز خلال عشر سنوات من سنة 13 هجرية إلى سنة 23 هجرية!
".. في هذه المدة القصيرة فتح عمر كل هذه الفتوح، فلا عجب أن يذهل هذا الفتح عالم يومئذ، ويدهش المؤرخين الذين فصلوا حوادثه، وحاولوا استقصاء أسبابه، فذكروا أن من هذه الأسباب: العقيدة الإسلامية التي رفعت نفسية ومعنويات المسلمين، وانحلال الفرس والروم، ونظام الحكم في شبه الجزيرة الذي تطور خلال السنوات العشرين التي تلت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، تطوراً مكّن الأمة العربية من مواجهة تلك الأحداث التاريخية الجليلة في طمأنينة زادتها اعتزازاً بنفسها وشعوراً بقوتها وإيماناً برسالتها العالمية".
* * *
كانت سياسة عمر أن يقوم بالفتح في حدود العراق والشام لا يتعداهما.. على أن الحوادث -يقول المؤلف- كثيراً ما تكون أقوى من الرجال وكثيراً ما حملتهم على تعديل اتجاههم وتغيير سياستهم، وقد حملت الحوادث عمر على تعديل سياسته بإزاء الفرس وبإزاء الروم، على كره منه بادئ الأمر، ثم ملأته حماسة للسياسة الجديدة بعد أن حالف النجاح هذه السياسة إلى مدى لم يتوقعه ولم يتوقعه أحد غيره..
ولكن هذا النجاح كان بفضل قيادة عمر الفذة؛ تلك القيادة التي امتازت بميزتين ظاهرتين: الأولى مقدرته المدهشة على اختيار القادة العامين، والقادة المرؤوسين.. الثانية: قابليته الموهوبة والمكتسبة على القيادة العليا، والقيادة التعبوية أيضاً..
ويتساءل المؤلف: وكيف كان ذلك..؟
ما هي المزايا التي كان يريد عمر أن تتوفر في القائد الذي يؤمره على جيوش المسلمين..؟
أولى هذه المزايا: أن يكون صحابياً.. لقد كان عمر لا يولي إلاّ الصحابة، ولا يرضى أبداً أن يعمل صحابي بإمرة غير صحابي..
فقد كان للصحابة بصورة عامة تجارب طويلة مفيدة في القتال تحت لواء الرسول القائد، اقتبسوا خلالها أعلى وأسمى ضروب التضحية والفداء، وأنبل وأرفع آداب الحرب والسلام..
* * *
كان عمر يفضل أن يكون القائد مكيثاً غير متهور، يعرف الفرص وينتهزها، ويعرف كيف ومتى يقاتل، ومتى يكف عن القتال. قال عمر لسليط: "لولا عجلة فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلاّ الرجل المكيث"..
وكان عمر يريد أن يكون القائد قوياً مسيطراً، ذا شخصية نافذة.. فإذا وجد رجلاً أقوى من رجل، فضل الأقوى على القوي.. فقد استعمل معاوية بن أبي سفيان على الشام، وعزل شرحبيل بن حسنة، وقام بعذره في الناس فقال: "إني لم أعزله عن سخطة، ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل".. وكان يقول: "إني لأتحرج أن أستعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه"..
وكان يريد القائد شجاعاً رامياً.. كما كان إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين أمر عليهم أميراً من أهل العلم والفقه.. ولا يرضى أن يؤمر أهل الوبر على أهل المدر..
تلك هي المزايا التي كان يريد عمر توفرها في القائد، ماضٍ ناصع مجيد في الحرب وفي خدمة الإسلام، له تجربة عملية في القتال، مكيث غير متهور، يعرف الفرص، ويدرك الوقت والمكان المناسبين لنشوب القتال، والكف عنه، قوي الشخصية، مسيطر على رجاله، شجاع رام، عالم فقيه.. وتلك هي نفس المزايا التي يلاحظها علماء فن الحرب قديماً وحديثاً..
لذلك نجح قادة عمر في مهمة قيادة الجيوش الإسلامية نجاحاً كان ولا يزال وسيبقى أعجوبة من أعاجيب تاريخ الحرب..
وكانت "الشورى" عنده مبدأ لا يحيد عنه.. للأغراض السلمية والحربية على حد سواء..
وبلغ به إيمانه القاطع بالشورى أنه كان يستشير حتى العدو -الذي لا يأمنه- كما فعل في سماع رأي الهرمزان في أمر الحرب الفارسية.. بل إنه كان يدعو حتى الأحداث يستشيرهم لحدة عقولهم.. وعمر هو القائل في المشورة: "الرأي الفرد كالخيط السحيل -أي غير المبروم- والرأيان كالخيطين المبرومين، والثلاثة مراراً.. لا يكاد ينتقض".
كان يطالب قادته دائماً بإطلاعه على تفاصيل المعلومات عن العدو، وعن الأرض التي يقاتلون عليها..
وكان يحيط علماً بتفاصيل ودقائق المعلومات عن جيوشه، وعن جيوش عدوه، وعن طبيعة الأرض.. فكان لذلك يصدر قراراته العسكرية على هدى وبصيرة..
* * *
وكان عمر يحرص غاية الحرص على مصائر جيوشه، فقد كان يخشى الله أن يسأله عن أي إهمال يؤدي إلى ضياع الأرواح.. كما أن تكوينه الطبيعي، وخلقه ونفسيته، كانا نموذجاً رفيعاً للحرص على مصائر الناس..
لقد بلغ من حرصه على أرواح المسلمين أنه لم يوافق على الانسياح في بلاد العجم إلاّ في الوقت المناسب، وبعد تأكده من ضرورة الانسياح الملحة.. كما لم يوافق على ركوب البحر، وعاقب العلاء ابن الحضرمي على ركوبه خلافاً لأوامره الصريحة..
وكان حين يتوقع اصطدام جيوشه بالعدو، يعيش في دوامة من القلق والاضطراب، من شدة حرصه على مصائر المسلمين.
وكانت له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، ويرى أن "من لم ينفعه ظنه، لم تنفعه عينه".. وتروى له روايات في أمر هذه الفراسة، قد يصدق منها القليل، وتتسرب المبالغة إلى الكثير.
وكانت له فطنة الرجل العليم بنقائص الأخلاق، وخبايا النفوس.
عاشره أُناس من الدهاة فخبروه وحذروه.. قال المغيرة ابن شعبة لعمرو بن العاص: والله ما رأيت عمر مستخلياً بأحد إلاّ رحمته.. كان عمر والله أعقل من أن يُخدع، وأفضل من أن يَخدع"..
لقد كان عمر كما وصف نفسه: "ليس بالخب ولكن الخب لا يخدعه"، والخب الخادع الغشاش.
على أن القدرة الذهنية التي امتاز بها عمر -والقول هنا للعقاد ينقله المؤلف عن عبقرية عمر- في غنى عن الاستدلال عليها بما قال وما قيل فيه وما دار بينه وبين القوم من المساجلات والمحاورات.. إنه عمل ما لم يعمله إلاّ القليل من أقدر الحكّام في تاريخ بني الإنسان، وكفى بذلك دليلاً على قدرته الذهنية.
ولكن أعظم ما يدل على بعد نظره وحدة ذكائه هو: في تركه السواد -الأرض الزراعية في العراق- غير مقسوم، ووضعه الخراج عليه، وتركه أرض مصر غير مقسومة أيضاً، لتكون تلك الأرض للمسلمين كافة، لا لأفراد منهم.. هذا أولاً.. وتدوين الدواوين ثانياً.. وفكرته الملهمة في تقسيم المال ثانياً فقد قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء والمهاجرين".
ثم كثرة إنجازات مصيرية خالدة، كل إنجاز منها دليل قاطع على ذكاء خارق، وبعد نظر فذ.. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عمر: ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر، وقال: إن الله جعل الحق على لسان عمر..
* * *
ويتحدث المؤلف عن شجاعة عمر، ويذكر نماذج منها.. ويقول: هل تحتاج شجاعة الفاروق إلى دليل..؟
- كان عمر يتحمل مسؤوليته كاملة، ويشعر شعوراً عميقاً بثقل أعبائها.
- كان يتحمل المسؤولية قبل توليته الحكم، وبعد أن أصبح أميراً للمؤمنين.
- حين أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألسنا على الحق؟" فقال "بلى"، فقال: ففيم الاختفاء؟ فخرج المسلمون إلى البيت العتيق يعلنون دعوتهم، فأصابت قريشاً كآبة شديدة لم يصبهم مثلها..
- لقد كان يعرف تماماً عظم مسؤوليته وضخامتها حاكماً للناس عليه حقوق وواجبات لا تحصى..
- خطب يوماً فقال: "والذي بعث محمداً بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات، خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب".
- لقد كان عمر رجل دولة مثالياً.. يعرف تفاصيل مسؤوليته ودقائقها، ويتحمل هذه المسؤولية كاملة، ولا يتهرب منها، ويحاسب نفسه وعماله محاسبة عسيرة، قبل أن يحاسبه ويحاسبهم الناس، ويسهر على مصالح المسلمين ناسياً مصلحته الشخصية، ومصالح أهله وذويه..
وكان أحد خريجي مدرسة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم في ممارسة فنون الحرب، ومعاناة أهوالها..
كان عمر قبل إسلامه كأي عربي، ليس غريباً على ساحات الوغى، وأخبار الحروب، ولكن هذه المعلومات الابتدائية عن المعارك صقلها وهذبها بالممارسة الفعلية، وبالتوجيه العلمي والنظري لسيد القادة، وقائد السادة، عليه الصلاة والسلام.
ولقد كان لعمر طبيعة موهوبة للجندي الممتاز.. فاجتمع لديه، بعد تجاربه الطويلة للحرب بعد إسلامه، الطبع الموهوب، والعلم المكتسب.. وبذلك أصبح قائداً مثالياً له مزايا القائد المثالي، علماً، وعملاً.
-2-
في هذا الفصل، عرض إجمالي لبقية الفصول الرائعة في هذا الكتاب القيّم الفريد.
عرض إجمالي بسيط لا أراه يغني بأي حال عن تأمل الكتاب نفسه، في صفحاته المئتين لمن أراد المزيد!
إن القارئ لهذا الكتاب لا يملك نفسه من إعجاب شديد لا يعرف الحدود بشخصية عمر إنساناً عظيماً، وأميراً للمؤمنين، وقائداً شجاعاً حكيماً واسع الأفق عميق الفكر بعيد النظر في كل ما يمت إلى "فن الحرب والقيادة" بصلة من قريب أو بعيد!
ولنستمع إلى المؤلف الفاضل وهو يتحدث إلينا عن دور عمر في عهد الصديق.. يقول اللواء خطاب:
"كان أبو بكر يستشير عمر في تعيين القادة الذين يوليهم قيادة جيوش المسلمين..
وكان يستشيره في تسيير الجيوش إلى الجهاد.. وكان يستشيره عند إعداد الخطط السوقية الاستراتيجية لجيوشه فكان عمر يعاونه في ذلك أعظم المعاونة.
ولما حضرت الوفاة أبا بكر دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: "أخبرني عن عمر" فقال: "إنه أفضل من رأيت ولكن فيه غلظة" فقال أبو بكر: "ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه، وقد خبرته.. فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضى عنه.. وإذا لنت له أراني الشدة عليه"".
* * *
وأصبح عمر بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه القائد الأعلى لقوات المسلمين، فكان أول ما عمل أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس، وكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود.. فأمره على الجيش وأمر المثنى بالتقدم إلى أن يقدم عليه أصحابه.. وبذلك.. طبق "عمر" مبدأ "التحشد" تطبيقاً رائعاً.
وقال عمر لأبي عبيد: "إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية.. تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعملوه، وأحرز لسانك.. ولا تفشين سرك.. فإن صاحب السر ما يضبطه متحصن، ولا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة".
وهذا يدل -يقول المؤلف- على أن عمر كان يعرف تفاصيل دقيقة عن الحالة الاجتماعية لعدوه.. لذلك أوصى قائده بالحذر واليقظة، وأرشده إلى مفتاح كل ذلك.. وهو "كتمان السر" حتى لا يعرف عدوه نواياه قبل الأوان!
لقد طبق عمر في ذلك مبدأين من مبادئ الحرب المهمة: مبدأ "التحشد" وذلك بحشد أكبر عدد من القوات في ربوع العراق.. ومبدأ "توخى الهدف" وذلك بالإصرار على فتح العراق مهما يكلفه الأمر، ومهما تكن الظروف والأحوال..
واختار عمر سعداً بن أبي وقاص لحرب العراق بعد مشاورات طويلة أجراها مع خاصة المسلمين وعامتهم.. وكتب عمر إلى سعد ومن معه من الجنود:
"أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال.. فإن تقوى الله أفضل العلاة على العدو، وأقوى العدة في الحرب.. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم.. فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم.. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، لولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم.. فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة.. وألاّ ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا".. إلى آخر ما ورد في كتاب عمر لقائده سعد من أوامر ووصايا.
ولما فرغ سعد بن أبي وقاص من أمر القادسية أقام بها بعد الفتح شهرين، وكاتب عمر في ما يفعل. فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى "المدائن" وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق وأن يجعل معهم جنداً كثيفاً، وأن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم..
وفي هذا الأمر المختصر، يقول المؤلف: "طبق عمر مبدأ "اختيار المقصد" و "إدامته" ومبدأ "التعرض" -ومعناه الهجوم على العدو لسحقه- ومبدأ "تحشيد القوة" ومبدأ "الاقتصاد بالمجهود" ومبدأ "الأمن" ومبدأ "إدامة المعنويات" ومبدأ "الأمور الإدارية". ولا أعلم رسالة قليلة الكلمات كثيرة الفائدة، مثل هذه الرسالة الموجزة".
* * *
ويمضي المؤلف في حديثه إلى أن يقول: "لقد كان عمر جندياً ممتازاً، وقائداً مجرباً.. يعرف تفاصيل التعبئة الصغرى، ويتحلى بمزية الضبط المتين، ويعرف مزايا رجاله ويوليهم المناصب استناداً لتلك المزايا فقط، ويطبق جميع مبادئ الحرب المعروفة بشكل مثالي، وبكل حرص في الحرب".
لقد كان قائداً فذاً لا يتكرر على تعاقب الأيام والعصور إلاّ نادراً وقد لا يتكرر أبداً.. لقد أنجز "عمر بن الخطاب" كل واجباته قائداً أعلى.. بشكل يدعو إلى التقدير العميق.. والإعجاب الشديد.
تهيأت له الأسباب الجوهرية لإنجاز تلك الواجبات بكل جدارة:
- كان يؤمن بالشورى فلا يستقل برأيه ولا يبالي أن يأخذ الحكمة من أي وعاء.. وهذا يقلل من فرص الخطأ والإهمال.
- وكان يحرص على جمع المعلومات من منابعها بشتى الطرق والأساليب.. وهذا يجعله يعمل على هدى وبصيرة، ولا يسير أبداً مغمض العينين.
- وكان فطناً عالماً بعيد النظر، ومن نتائج ذلك استكمال دراساته العسكرية بدقة وإتقان، مع إدخال أسوأ الاحتمالات في الحساب.
- وكان شجاعاً يعد لكل أمر عدته، ثم لا يحجم عن تنفيذ خططه ولا يتردد ولا يتراجع.
- وكانت له تجارب طويلة للحرب جندياً وقائداً، ومرؤوساً، يتحمل أعباءها، ولا يتهرب من نتائجها، ولا يلقي بأعباء تلك النتائج على الآخرين. وكان مستشاراً خبيراً للرسول القائد، ولخليفته من بعده.. كما كان خبيراً بمبادئ الحرب مطبقاً لها، عالماً بتفاصيلها حريصاً على مراعاتها.
تلك هي الأسس الموضوعية التي تهيئ لكل قائد أعلى فرصة النجاح في إعداد "الخطط السوقية" والتي تهيأت لعمر بشكل واضح وملموس، قلّ أن نجد له مثيلاً في تاريخ الحروب بكل زمان ومكان.
فلا عجب -بعد ذلك- أن تكون خططه "السوقية" دقيقة متكاملة عملية بعيدة عن المخاطر، ولا عجب أن تكون نتائجها فتحاً "مستداماً" لم تتراجع راياته منذ أربعة عشر قرناً حتى اليوم.
لقد كان عهد عمر عهداً ذهبياً للفتح الإسلامي العظيم.
كان دستوره في الحرب أن يضع الأسس العامة، ويعهد في تنفيذها إلى ذي خبرة وأمانة، ولا يتخلى عن تبعته العظمى، في مصائر الحرب كل التخلي اعتماداً على القائد وحده.. إذ ليس القائد بالمسؤول الوحيد عن المصير.. فإذا رأى القائد العام رأياً وخالفه هو في رأيه، أعانه بالمدد والمشورة على الأخذ بالرأي الذي دعاه إليه، وأبطل معاذيره بتوضيح الأمر، وإعانته عليه.
ولقد كان إلى جانب السهر على الميادين العامة، لا يغل يد القائد في ما يحسن أن تنطلق فيه، فإذا تجاوز الأمر سياسة الحرب العامة من فتح الميادين، وفك الحصار، وانتظار الهجوم، فمن حق القائد عنده أن يختار لنفسه ولا ينتظر الرجوع إليه، وأن يجري في إدارة المعركة على الوجه الذي تمليه ضرورة الساعة.. استشاره أبو عبيدة في دخول الدروب خلف العدو، فكتب إليه: "أنت الشاهد وأنا الغائب.. والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.. وأنت بحضرة عدوك، وعيونك يأتونك بالأخبار، فإن رأيت الدخول إلى الدروب صواباً، فابعث إليهم السرايا، وأدخل معهم بلادهم، وضيق عليهم مسالكهم، وإن طلبوا إليك الصلح فصالحهم".
فهو يضع القواعد العامة للحملة كلها منذ بدايتها، وهو يختار القائد الضليع بتسيير تلك الحملة، وهو بعد هذا لا يعفي نفسه من التبعة.. ولا يعفي القائد من واجب الرجوع إليه في المواقف الحاسمة، ولا يغل يده في ما هو أدرى به وأقدر على الاختيار فيه ولا ينسى أن يعينه إذا خالفه في الرأي فيتفق الرأيان المختلفان، فإذا رجع القائد إلى الحصار الذي أزمع أن يتركه مثلاً، رجع إليه وهو مؤمن بصواب ما يعمل ليستمد من الإيمان بالصواب قوة لن يشعر بها وهو يؤدي عملاً يخالف الصواب في تقديره.
وهذه السياسة هي التي جرى عليها عمر في جميع بعوثه وغزواته وسراياه، وهي السياسة التي لا يستطيع الحاكم أن يجري على غيرها في حرب قديمة أو حديثة.. وقد جرى عليها فجعلته كاسب النصر كما يكسبه القائد في الميدان وجعلت بطل الفرس "رستم" المشهور في التواريخ والأساطير يقول: "إن عمر هو هازمه في الميدان وإنه هو الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل.. أكل كبدي، أحرق الله كبده".
وربما يتبادر إلى الأذهان أن عمر كان "مركزياً" في قيادته يشل أيدي قادته العامين، وقادته المرؤوسين، وهذا وهم ليس له من الحق نصيب.. إنه يضع الخطط العامة، ويترك لقادته التفاصيل، بعد أن يبذل قصارى جهده في اختيارهم لتحمل تبعاتهم بجدارة وقوة وإيمان. إنه يضع الخطط "السوقية" ويترك لقادته أمر وضع الخطط "التعبوية".
* * *
لقد كان عمر قائداً "سوقياً" يعد الخطط السوقية.. ويصدر أوامره ووصاياه إلى قادته العامين، وقادته المرؤوسين، مبيناً لهم السياسة العامة للحرب.. ثم يترك لهؤلاء القادة تحمل أعباء كل التفاصيل التنفيذية.
إن التاريخ ليذكر لنا نماذج حية رائعة من خطط عمر السوقية أصدرها إلى قادته: أوامر جازمة صريحة ووصايا حاسمة واضحة كان من نتائجها العصر الذهبي للفتح الإسلامي في أيام عمر الفاروق.
بعد معركة "اليرموك" في أرض الشام، استخلف أبو عبيدة على اليرموك "بشير بن كعب الحميري" وسار حتى نزل بـ "الصفر" (موضع بين دمشق والجولان).. فأتاه الخبر أن الروم وحلفاءهم المنهزمين اجتمعوا بـ "فحل" (موضع بالشام)، وأتاه الخبر أيضاً بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص فكتب إلى عمر في ذلك فأجابه، يأمره بأن يبدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت ملكهم ويشغل أهل "فحل" بخيل تكون بإزائهم، وإذا فتح دمشق سار إلى "فحل" فإذا فتحت عليهم سار هو وخالد إلى حمص وترك "شرحبيل بن حسنة" و "عمرو بن العاص" بالأردن وفلسطين.
تلك هي الخطة "السوقية" لعمر التي بموجبها فتحت أرض الشام "سورية والأردن ولبنان وفلسطين" ومنها يتضح أن عمر بدأ "بهدف الحركات الخطير" وهو مدينة دمشق عاصمة البلاد وبعد فتحها تتوجه الجيوش إلى الأهداف الثانوية ولكي يحرم الروم وحلفاءهم من تعاون قواتهم في مختلف مناطقها عند فتح دمشق أمر عمر بتخصيص قوات من الفرسان لمشاغلتهم أثناء محاولة المسلمين فتح دمشق.
ويفسر لنا المؤلف "هدف الحركات الخطير" بأنه الهدف الذي متى ما تم الاستيلاء عليه تنتهي الحرب، أو أن العدو يضطر إلى قبول الصلح.. وتؤلف عواصم البلاد هدف الحركات الخطير..
ثم يقول: لقد أدى تطبيق هذه الخطة السوقية إلى فتح أرض الشام بسهولة ويسر..
وقبل معركة "القادسية" الحاسمة أمر عمر أبا عبيدة بن الجراح أن يصرف جند العراق إلى العراق -وهم الذين شهدوا معركة اليرموك- وأمرهم بالحث إلى سعد بن أبي وقاص وذلك لتحشيد أكبر قوة ممكنة في الزمان والمكان المناسبين، فكان لحضور هؤلاء معركة القادسية أثر كبير في انتصار المسلمين في هذه المعركة.
إن مهمة القائد الأعلى هي أن يحشد أكبر عدد من الرجال قبل المعركة الحاسمة ليضمن لجيوشه النجاح والنصر.. فإذا كانت قوات العراق قد شهدت معركة اليرموك الحاسمة فلا مبرر لبقائها في أرض الشام بعد انتصار المسلمين في تلك المعركة وبعد فتح دمشق.. ومن الضروري أن تعمل تلك القوات في ساحة أخرى أكثر أهمية من ساحات أرض الشام.
ويتابع المؤلف حديثه عن خطط عمر "السوقية" -ترتيباته في سوق الجيوش- في كل من العراق والشام وفارس ومصر ثم يقول: "تلك أمثلة رائعة من خططه "السوقية" للفتح.. تصور لك: كيف نهض عمر بتبعات قيادته "قائداً أعلى" لجيوش المسلمين في عصرها الذهبي.. إنها تكشف لك عن السر في قدرته الممتازة على الاضطلاع بأعبائه الجسام على نحو لا يزال مثاراً لعجب الناس وإعجابهم.. كما تبين لك كيف كانت قابليات عمر القيادية من أهم الأسباب التي هيأت لامتداد الفتح ودفعت المسلمين إليه ورغبتهم فيه.. لقد كانوا يرون أمير المؤمنين خير كفيل بحقوقهم وبمن يخلفون وراءهم من عيالهم، وكانوا يرونه يؤثرهم على نفسه وأهله، ويؤدي لكل ذي حق حقه.. فلا جرم أنهم يندفعون إلى ميادين القتال وكلهم الطمأنينة إلى غدهم، وإلى مصير أبنائهم وذويهم.. وما ضر أحدهم أن يقتل في سبيل الله وفي سبيل الفتح الإسلامي، وهو على يقين أن بنيه سيجزون إذا استشهد بخير مما يجزون إذا ظل حياً.. وأنه ستفتح له أبواب الجنة بما وهب الله نفسه مجاهداً في سبيله.
وإذا كتب لخطط عمر "السوقية" النجاح الفذ، فلأنه بناها على أسس قويمة.. ولعلّ من أهم هذه الأسس هو تطبيقه مبدأ "التحشد" تطبيقاً بلغ حد الروعة عدداً وعديداً فكان قادته لا يخوضون غمار معركة قبل أن تتوالى عليهم إمدادات عمر: الخيل تتبعها الخيل.. والرجال تتبعها الرجال.. كما يقول عمر عن تلك الإمدادات.
* * *
يتحدث المؤلف بعد ذلك عن التشريعات الإسلامية التي وضع عمر أكثر أسسها، وكانت أثراً من آثار الفتوح.. ومن هذه التشريعات ما اتخذه من سياسة مالية قويمة وما أحدثه من نظام للعطاء إلى جانب إنشائه للدواوين، واستعماله للتاريخ الهجري وامتناعه عن تقسيم الأراضي الزراعية في البلاد المفتوحة على الفاتحين واعتبارها من المرافق العامة، إلى غير ذلك من التشريعات والترتيبات.. ثم يقول:
ذلك هو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، والقائد الأعلى للجيوش الإسلامية "يعد الخطط" السوقية لجيوشه، ويسهر على مراقبة تنفيذ تلك الخطط، ويحشد أكبر عدد ممكن من الرجال قبل خوض المعارك ليضمن لهم النصر.. ويمد جيوشه بالإمدادات المتعاقبة ويوحد العرب في شبه الجزيرة العربية ليطمئن إلى سلامة قاعدته الأمنية.. ويؤمن العطاء للمجاهدين وذويهم ويجعل الأرض المفتوحة كلها "رصيداً لهذا العطاء" ويضمن السكن للجنود ولعوائلهم. ولا يترك الجنود بعيدين عن عوائلهم أكثر من أربعة أشهر، حفاظاً على معنوياتهم ومعنويات عوائلهم ويخلف الغزاة بأهليهم.. ولست أعرف -يقول المؤلف الفاضل- قائداً أعلى كانت القيادة العليا بعض واجباته فعل أكثر مما فعله عمر في سبيل جيوشه مادياً ومعنوياً.
"ولقد طبق عمر الحرب الإجماعية"؛ تحشيد الأمة ومرافقها المادية والمعنوية للحرب قبل أربعة عشر قرناً.. فلا يزعم أحد أن الألمان أول من طبقها في الحرب العالمية الثانية 1939-1945م.
* * *
ولقد وضع المسلمون "الضمان الاجتماعي" للجنود موضع التنفيذ قبل أن تحلم به أوروبا وأمريكا بأربعة عشر قرناً.. فلا يقولن قائل: إن من مزايا هؤلاء ضمان الرواتب للجنود ولأسرهم في حياتهم وبعد موتهم، وضمان سكناهم وراحتهم في كل أرض يحلونها.. فقد كان نصيب المسلمين من كل ذلك في عهد عمر أوفر نصيب.
والحرب في الإسلام حرب إنسانية من دون شك، والشواهد على ذلك ما جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وما طبقه الرسول القائد عملياً في الحرب.
ولكن العبرة دائماً في التطبيق العملي لا في النظريات والتعاليم المكتوبة، وكثيراً ما يكون قانون ما مثالياً في أهدافه ومراميه ولكن الإساءة في تطبيقه تجعل من ذلك القانون حبراً على ورق ليس إلاّ..
فتعاليم الحرب في الإسلام تحتم الوفاء بالعهود، وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والخفاء، واحترام الإنسانية وتكريم البشرية والدعوة إلى الإخاء الشامل واعتبار الفضيلة والتقوى أساس العلاقات الدولية في الحرب والسلم، والرحمة في الحرب والعدالة المطلقة، والمعاملة بالمثل، وإفساح الطريق للدعوة الجديدة ومنع الفتنة في الدين، وإقرار السلام.
تلك هي بعض تعاليم الإسلام في الحرب.. فكيف وضعها عمر في حيز التنفيذ العملي؟!
استدعى عمر سعد بن أبي وقاص بعد تعيينه قائداً عاماً في العراق وأوصاه بقوله: "يا سعد، سعد بني وهيب! لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه.. فإن الله عزّ وجلّ لا يمحو السيئ بالسيئ وليس بين الله وبين أحد نسب إلاّ طاعته.. فالناس شريفهم ووضيعهم في دين الله سواء: يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فإنه الأمر".
هكذا يوصي عمر سعداً بالالتزام بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه إلى ميدان القتال!
ثم يفيض المؤلف في حديثه في هذه الناحية منوّهاً بالكثير من وصايا عمر لقوّاد الفتوح في وجوب تقيدهم بتلك التعاليم ومراعاة تنفيذهم لوصاياه.
* * *
آخر الفصول في هذا الكتاب الرائع "الفاروق القائد" عنوانه "عمر في التاريخ" يقول فيه:
بوفاة عمر رضي الله عنه، ختم أروع فصل في تاريخ الإسلام والمسلمين منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر الدهر، فلم يعرف المسلمون، وما أراهم سيعرفون في يوم من الأيام خليفة يشبه عمر من قريب أو بعيد؛ فقد رأيت أنه كان أزهد خلفاء المسلمين وملوكهم في الدنيا، وأشدهم لها ازدراء وأعظمهم منها نفوراً.
لقد فتح بلاد الفرس كلها، وفتح الشام والجزيرة ومصر وبرقة.. ولم يستطع خليفة بعده أن يزيد على ذلك إلاّ ما كان من فتح إفريقية أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن المضي في هذا الفتح إلى المحيط.. ومن فتح الأندلس أيام بني أمية.
ولم يعرف المسلمون بعد عمر خليفة أو ملكاً جعل بيت المال ملكاً للمسلمين ينفق منه على الجيوش المحاربة ويعين منه من احتاج إلى المعونة.. ويوفر ما بقى منه ليشيعه بين المسلمين رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يأخذون منه أعطياتهم كل عام.. تسعى إليهم هذه الأعطيات، دون أن يتكلفوا مشقة في طلبها، سواء في ذلك منهم القريب والبعيد.. وقد رأيت أنه كان يحمل بنفسه المال إلى البادية القريبة من المدينة ومكة فيعطيه للناس في أيديهم، وقد رأيت كذلك في عام الرمادة أنه كان يحمل الطعام على ظهره ويسعى به إلى الأعراب النازلين حول المدينة وربما طبخه لهم بنفسه ولم يعرف المسلمون ملكاً أو خليفة بعده عني بحماية الذميين والرفق بهم في أمرهم كله.. كما عني به عمر.
.. ولم يكن عمر يعرف قانوناً إلاّ القرآن الكريم والسنة الشريفة ولم تكن له شرطة يستعين بها على حفظ الأمن والنظام، ولكنه ساس المسلمين على نحو جعلهم جميعاً شرطة له في المدينة، وشرطة لولاته في الأمصار.. فليس غريباً -وهو الذي فعل هذا كله وأكثر من هذا كله- أن تكون الفاجعة بموته عظيمة والخطب به جليلاً.
".. لم أر عبقرياً يفري فريه" كلمة قالها النبي عليه السلام في عمر رضي الله عنه.. وهي كلمة لا يقولها إلاّ عظيم عظماء خلق لسياسة الأمم، وقيادة الرجال.
لقد أتعب الخلفاء من بعده حقاً، وقد مضت القرون ولم تلد النساء مثله.. ولا أراها ستلد مثل عمر.. إن فضائل عمر التي يذكرها له التاريخ بإعجاب أي إعجاب، وتقدير أي تقدير، كثيرة لا تعد ولا تحصى.. في أيامه ظهرت عبقريته الفذّة في توطيد أركان الدولة الإسلامية وتوسيع نفوذها وإشاعة الحق والعدل والحرية والمساواة في ربوعها.
.. وكان من نتائج الحرب "الإنسانية" التي خاضها العرب المسلمون في عهد عمر: الحرية التي كفلها الفاتحون لأهل البلاد المفتوحة في أمر العقيدة.. مما دعا الفرس والروم وغيرهم للإقبال على الإسلام، وعلى اللغة العربية، وزاد في إقبالهم ما فرضه الإسلام من المساواة بين المؤمنين على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعاداتهم وما قرره من أنه لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى، ومن أن المؤمنين إخوة.. وهذه الحرية والمساواة أدت كلها إلى انتشار جو ضاعف من قوة الوحدة في الدولة الإسلامية.. وتضاعف في ظله نشاط كل جزء من أجزائها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2085  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج