الحج مؤتمر إسلامي كبير
(1)
|
قال الله تعالى في كتابه المجيد: وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ (الحج: 27-30). |
وبهذا لأمر الكريم تلقى نبي الله وخليله سيدنا إبراهيم الأذان في الناس بالحج، منذ أن أتم هو وولده سيدنا إسماعيل -عليهما السلام- بناء البيت الحرام، امتثالاً لأمر الله، ليكون هذا البيت المطهر مثابة للناس وأمناً.. إليه يتوافد المؤمنون، وفي جواره يؤدون شعائر الله.. يطوفون به، ويحجون إلى عرفة، ويقومون بسائر المناسك، ويلتمسون من ربهم وخالقهم، المعبود وحده دون سواه، العفو والغفران. |
إلى بيت الله يتوافدون، وفي رحابه يتعبدون، لا يشغلهم سوى الذكر والدعاء، والتهليل والتكبير، تتصاعد ألسنتهم بالتلبية، صادرة من أعماق قلوبهم: "لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". |
وكانت دعوة الخليل -قبل ذلك- لربه عندما أزمع على الرحيل من مكة تاركاً فيها ولده إسماعيل وأمه هاجر، كما جاء في الذكر الحكيم، رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم: 37). |
أجاب الله دعاء الخليل، وأضحت مكة منذ ذلك الحين، بلد الله الأمين، إليها تشدّ الرحال، وعلى أرضها المشرّفة، يتلاقى الوافدون... |
ويمضي الزمن.. وتتوالى العصور، ويظل الحج لمئات ومئات من السنين يؤديه الوافدون على نهج إبراهيم... |
ومع مضي الزمن، ومع تتابع العهود والعصور، تتغير أمور، وتجيء الوثنية.. إلى أرض الطهر.. فيتبدل الوضع حينئذ.. ويضيف الوثنيون على أعمال الحج زيادات غيرت من أصولها، وشوهت من صورتها.. زيادات ما أنزل الله بها من سلطان، من شرك، ومن عبادة لغير الله، إلى غير ذلك من ألوان التبديل والتحريف. |
لقد دام ذلك فترة من الزمن في عهد الجاهلية العربية.. فعاد الحج شيئاً آخر.. شيئاً يختلف عما كان عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. |
وجاء الإسلام الحنيف، وأشرق نوره في الوجود. جاء ليحيي دين الحنيفية الحق، ويقضي على الشرك، ويقاوم كل أنواع الانحراف، وليعيد إلى الحج صورته الأولى.. ليعيد إليه التزاماته وأصوله وأسسه. |
جاء ليجعل من الحج إلى بيت الله الحرام، الركن الخامس من أركانه الخمسة، جاء ليفرضه مرة في العمر على كل من استطاع إليه سبيلاً. قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 97). |
أنزلت هذه الآية الكريمة في السنة التاسعة من الهجرة. وفي هذه السنة أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أبا بكر أن يحج بالناس، ثم بعث في إثره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ليتلو على الناس سورة براءة، ثم كانت حجته صلوات الله عليه وسلامه، في السنة العاشرة وهي حجة الوداع وأول حجة في الإسلام قادها الرسول صلى الله عليه وسلم. |
وفي حجة الوداع، وفي ذلك اليوم المشهود، يوم الحج الكبر، خطب الرسول، عليه الصلاة والسلام، خطبة الوداع، بيَّن فيها الأسس التي يقوم عليها الإسلام، وأعلن فيها حقوق الإنسان لأول مرة في تاريخ الإنسان! |
كانت خطبة الوداع دستوراً شاملاً للمسلمين، دستوراً مستمداً من القرآن، كانت نبراساً يسيرون على ضوئه، ليحظوا بذلك بسعادتي الدنيا والآخرة، ويكونوا -كما أراد الله لهم- كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. |
أرشدهم فيها رسولهم الكريم إلى احترام الحقوق، ونهاهم عن الربا، وهو من أعظم الموبقات، وأوصاهم بالمرأة، وأوضح ما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، وأكد على وجوب صيانة روابط الأخوة بين المؤمنين، على أساس من المساواة والعدل، ودون نظر إلى عنصر أو لون. |
فأية عدالة هذه؟ بل أية مثالية هذه في حسن المعاملة، وصيانة الحقوق؟ |
إنها عدالة الإسلام، ومثالية الإسلام. |
مثالية لا يمكن أن تسمو إليها في عدلها الإلهي، أية قوانين من صنع البشر، أو أية فلسفات! |
مثالية تحقق بها الخلود للإسلام. فأصبح ديناً للإنسانية في كل زمان ومكان، ديناً للعبادة والحياة، للقوة والنماء، والتقدم في كل ميدان. |
فرض الله الحج، عبادة من أشرف العبادات، ووسيلة للتعارف، ووسيلة لاتحاد المسلمين. |
وفي كل هذا الذي يؤديه المسلمون في الحج، على صعيد واحد، وفي أيام معلومات، من عبادة لخالقهم، بعيدين عن أهلهم وديارهم، وفيما يظفرون به مضافاً إلى ذلك، من تعارف وتقارب، في كل ذلك من شهود المنافع -كما جاء في القرآن الكريم- ما يفوق الحصر، ولا تحده حدود! |
أجل.. ففي أيام الحج يتعارف المسلمون، فتنمو روابطهم، وتقوى صلاتهم، ويتأكد المعنى الجليل لوحدتهم الإسلامية. |
في يوم عرفة.. يوم الحج الأكبر، يكون هناك لقاء، ويا له من لقاء! لقاء تتمثل فيه الوحدة، كأروع وأجمل ما تكون! |
إنه لقاء العبودية لله، والأخوة في الله، لقاء المساواة في كل مظهر، وفي كل خطوة وكل حركة وكل اتجاه.. فلا كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا سائد ولا مسود، بل الكل سواء، في خضوعهم لربهم، يلتمسون رضاه، ويرجون منه المغفرة. |
وفي هذا اللقاء. أو في هذا الالتقاء، كما يقول الكاتب الإسلامي السيد أبو الحسن الندوي: "في هذا الالتقاء الديني الروحي الذي لا نظير له على وجه الأرض... وفي هذا الضجيج من الدعاء والذكر والتلبية والاستغفار، ما يعيد الحياة إلى القلوب الميتة، ويحرك الهمم الفاترة، وينبه النفوس الخامدة، ويشعل شرارة الحب والطموح التي انطفأت أو كادت تنطفئ، ويجلب رحمة الله". |
إن هذا اللقاء.. أو هذا الالتقاء، خليق به أن يصفه واصفوه، أنه المؤتمر الأكبر لأمة الإسلام. |
إنه، لا شك، أكبر مؤتمر، في تمثيله لسائر الجنسيات، ولجميع البلدان. |
وتلك أعظم منافع يشهدها الحجيج، ويشارك فيها معهم كل المسلمين. |
يشهدونها في مهد الإسلام، ومركز الدائرة في العالم الإسلامي. |
ثم إنه من الواضح أن من سمات هذا المؤتمر أنه بعيد عن تقاليد الرسميات، وبعبارة أوضح عن تقاليد المؤتمرات، فلا جدول أعمال فيه، ولا تصدر عنه قرارات أو توصيات.. وإنما كل ما فيه هو التعارف والتعاطف.. والحفاظ على الوحدة... |
يتواصى ضيوف الرحمن فيه، بأن يتعاونوا على الخير، وأن يحرص المسلمون دوماً في سائر أوطانهم على أن تظل فيما بينهم رابطتهم الكبرى هذه: بنيانها شامخ، ولواؤها مرفوع.. وأن يأخذوا بأسباب التقدم، ويذودوا عن إسلامهم وكيانهم، موحدي الكلمة والرأي لا يعتدون على أحد، كما لا يقبلون أن يعتدي عليهم أحد.. ينشدون السلام للجميع على أساس من الحرية للجميع، والعدالة للجميع. |
|