الشاعر محمود غنيم
(1)
|
الشاعر الذي أريد أن أتحدث عنه في هذا المقال، وأستعرض شيئاً من شعره في القومية والسياسة والاجتماع، هو شاعر مرموق، من شعراء مصر حاملة لواء النهضة الفكرية في عالم العروبة والإسلام. |
محمود غنيم.. شاعر معاصر من شعراء مصر، ومصر خليقة بكل إعجاب وإكبار، بمن أنجبت ولا تزال تنجب منذ أوائل عصر النهضة الحديثة في العالم العربي؛ من قادة للفكر، وأساطين في العلم والفن، ونوابغ في الشعر والبيان. |
وحقيقة، قد يمكن أن يقال إن محمود غنيم، ليس أشعر شعراء مصر اليوم، وحقيقة قد لا يعده بعضهم في الرعيل الأول.. وقد يقول فيه بعض نقاد المدرسة الشعرية الحديثة أشياء وأشياء، ولكن الذي لا خلاف فيه، هو أنه شاعر مصر الاجتماعي الأول، في هذا الأوان، أو هو -بحق- خليفة شاعر النيل "حافظ إبراهيم"، كما قال عنه ذلك كاتب عربي مهجري، معروف في الأوساط الأدبية، هو الأستاذ توفيق ضعون. |
ولست أبعد، إذا قلت: إن شهرة محمود غنيم كشاعر، وعلى الخصوص فيما هو خارج حدود مصر من الأقطار العربية، هذه الشهرة قد بذت غيرها.. ولعلّ مرد ذلك هو إلى انفراد الشاعر بمزيتين، أولاهما: ميله الواضح إلى الوضوح، مع قوة في الأداء، وارتفاع في الأسلوب، وحسن انتقاء للألفاظ.. إلى جانب صدق العاطفة والإحساس وعدم إهمال الفكرة، أو الإغضاء عن وحدة الموضوع. |
وطبيعي أن يتواءم مع هذا الميل إلى الوضوح، ابتعاده عن الرمزية.. وما الرمزية إلاّ بدعة شعرية، نشأت أول ما نشأت في الغرب، ووفدت إلى هذا الشرق العربي، أول ما وفدت، في مطلع القرن العشرين ولكن أُتيح لها أن تبقى في ربوعه إلى اليوم، وإن كانت هي في وطنها الأوروبي الفرنسي -كما يظهر- لم يبق لها الآن، ما كان لها بالأمس من قيمة أو احتفال. |
أما ثانية هاتين المزيتين للشاعر محمود غنيم، فهي شعره الاجتماعي والقومي، إذ الواقع أن هذا الشاعر يكاد ينفرد بين شعراء الجيل الجديد في مصر، بأنه أكثرهم اتجاهاً إلى مواضيع الاجتماع، وإلى المواضيع القومية، فإذا كان ما يحدثه شعر الشاعر من أثر قوي في النفس، دليلاً على صدق الشاعر في تعبيره الشعري، كان لنا أن نقول عن شعر محمود غنيم الاجتماعي والقومي: إنه شعر صادر عن إحساس عميق، وعاطفة جياشة، وإيمان بما يقول.. فلا تعمل ولا افتعال. |
وديوان محمود غنيم "صرخة في واد" -وهو الديوان الذي نال جائزة الشعر الأولى، في مسابقة مجمع القاهرة للغة العربية لعام 1947، كما أنه الديوان الأول للشاعر- حافل بمجموعة من أجود الشعر.. وهذه المجموعة لا أظنها كل ما نظمه الشاعر، وإنما يبدو أنها مختارات من شعره من أول عهده بالشعر، حتى عام 1947م. |
ولعلّ طابع المحافظة.. -وهو ما يحاول شعراء المدرسة الحديثة في مصر أن يلصقوه بالشاعر محمود غنيم- يبدو جلياً في طريقة الشاعر في تقسيمه لديوانه، إلى أبواب تسعة.. في "الحرب" و "الاجتماع" و "الوصف" و "المرأة" و "عبرات" و "تحيات" و "زفرات" و "دعابات" و "أشتات".. وهذه الطريقة هي الموسومة بها مدرسة حافظ وشوقي في مصر، والرصافي والشبيبي في العراق. |
وليس الغرض هنا، أن نتحدث حديثاً شاملاً عن هذا الديوان، فقد يكون لهذا الحديث مجاله الآخر.. وإنما نريد أن نلقي نظرة على شيء من شعره الاجتماعي، وبخاصة ما كان منه في الصميم.. من المواضيع الشرقية والإسلامية والعربية، وما يمس النضال بين الشرق والغرب، والحرية والاستعمار، وما يتصل بالحرب والسلام، واصفاً أهوال الحرب، وآلام الإنسانية من فعلها الوحشي الرهيب، وآمال الإنسانية في السلام، أو في سراب السلام.. انظر إلى الشاعر، كيف يخاطب السلام في قصيدته "فجر السلام" هي التي أنشأها عندما وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها، فيقول: |
أدرك بفجرك عالماً، مكروباً |
عوذت فجرك أن يكون كذوبا! |
يا أيها السلم المطل على الورى |
طوبى لعهدك، أن يحقق، طوبى! |
ما بال وجهك بعد طول حجابه |
يحكي وجوه العاشقين شحوبا |
رحماك طال الليل واتصل السرى |
حتى تساقطت النفوس لغوبا |
لفحت لظى الحرب الوجوه فطف بها |
كالزهر نفحاً والنسيم هبوبا |
لم يبق في مجرى الدماء بقية |
شكت العروق من الدماء نضوبا |
طحنت فريقيها الحروب بضرسها |
لا غالباً رحمت، ولا مغلوبا |
|
وعلى هذا النسق يمضي الشاعر في تصويره الدقيق لما جرته تلك الحرب من أهوال على العالم بأسره، أفراداً وجماعات إلى أن يصل إلى.. إلى يوم النصر! فيتساءل في مرارة عميقة، وألم دفين، عن أعراس هذا اليوم أين نقيمها؟ |
أعراس يوم النصر أين نقيمها؟ |
المدن صرن خرائبا، ولهيبا |
هيهات أن تنسى البلاد حدادها |
أو تسترد جمالها المسلوبا! |
تعدو الحضارة.. وهي داء فاتك |
وتسير في خطو الكسيح طبيبا |
|
إلى أن يقول: |
أمم بنت ركن الحضارة عالياً |
ما بالها، لم تأله تخريبا! |
الأوصياء القيّمون على الورى |
تركوا الورى بدمائهم مخضوبا |
فرض القوي على الضعيف رقابة |
من ذا يكون على الرقيب رقيبا؟ |
من للرعيل ومن لقادته؟ لقد |
ضلّ الجميع مسالكاً ودروبا! |
خلوا مقاليد الشعوب لأمة |
عزلاء، تقنع بالكفاف نصيبا |
القوت عنوان الحياة فما له |
أمسى يبيد ممالكاً وشعوبا؟ |
|
وهكذا يعجب الشاعر من أمم بنت ركن الحضارة عالياً، ولكنها ما تنفك تعمل على تخريبه.. ومن أوصياء جعلوا من أنفسهم -تطوعاً واحتساباً- قيمين على الشعوب، ناسين أنهم تركوا الشعوب مخضوبة بالدماء. ومن قوي فرض رقابته على ضعيف.. ثم يسأل في سخرية ممضة -وأكبر الظن أنه نسي في هذه اللحظة الشعرية هيئة الأمم المتحدة- إنه يسأل، ويسأل: من ذا يكون رقيباً على الرقيب؟ |
وأنت لا ترى الشاعر إلاّ ضارباً على هذا الوتر، كلما عرض في شعره لقضية الحرب والنصر والسلام، ففي قصيدته "لاح الهلال" يقول: |
الغرب أولع بالدماء، فما ترى |
إلاّ قراعاً فيه إثر قراع |
يبتاع بالعمران نصراً زائفاً |
حضرت لعمرك صفقة المبتاع |
لا حربه أبقت، ولا بسلامه |
شفيت لنا كبد من الأوجاع |
ويح السلام جنى القوي ثماره |
وكوى الضعيف بجمره اللذاع |
ما بال من أبدى الشجاعة في الوغى |
خاض السلام.. فكان غير شجاع |
|
إلى أن يقول: |
خطوا الوثائق في المحيط فحينما |
أمنوا العدو.. رموا بها في القاع |
مضت الحروب بقدسها. فإذا بها |
في السلم بضعة أسطر ورقاع |
كتب الشقاء لأمة مهضومة |
تجري وراء سرابها الخداع |
|
وفي قصيدته بعنوان "جنازة السلام" ينعي هذا السلام، وينعي معه أوروبا، ويتحرق أسفاً على: |
طفل بريء ذاق من |
يد أمه كأس الحمام |
|
وليست أم هذا الطفل البريء، إلاّ أوروبا التي يقول عنها: |
وضعته أوروبا لنا |
يا ليت أوروبا عقام! |
|
ويستمر في وصف هذا الطفل البريء، ويقول: |
لهفي عليه ممزق الأ |
وصال منتثر العظام! |
عصفت به ريح الوغى |
عصفاً وغطاه القتام |
|
إلى أن يقول: |
ليس السلام بسائد |
ما دام في الدنيا حطام! |
ما الناس إلاّ الناس في |
عصر الضياء أو الظلام |
سيان من سكن القصو |
ر الشم أو سكن الخيام |
بسوى الدم المسفوح لا |
يروي لظامئهم أوام |
وأحب ما وقعت عليه |
عيونهم جثث وهام |
وهو ابن آدم ينتشي |
من خمرة الدم والمدام |
الذئب كالإنسان لو |
يتعلم الذئب النظام!! |
|
أما قصيدة الشاعر "ثورة على الحضارة" فلعلّها من أروع ما قيل في موضوعها فكرة وأسلوباً، فاسمع: |
ذرعتم الجو أشباراً وأميالاً |
وجبتم البحر أعماقاً وأطوالاً |
فهل نقصتم هموم العيش خردلة؟ |
أو زدتمو في نعيم العيش مثقالا؟ |
|
إلى أن يقول: |
إني أرى الناس ما زادوا رفاهية |
في العيش؟ زادوه تعقيداً وإشكالاً |
تجاوز العرف والعادات حدهما |
فأصبحا في رقاب الناس أغلالا |
يا طالما حدثتني النفس قائلة |
أنحن أنعم أم أجدادنا بالا؟ |
|
ولك أن تتأمل بعد.. في هذا التصوير الصادق لمعائب الحضارة.. هذا التصوير الذي يتسم بسمة الشاعر الأصيلة في الميل إلى الوضوح.. ولكنه الوضوح الذي يتسامق على أصحاب الرمزية.. وأنصار الغموض على اعتبار أن الرمزية والغموض لديهم، هما معيار التجديد، ومقياس الفن، وميسم الجدة.. وعلامة المستقبلية.. فأي تصوير بلغ ما بلغ، يجعلك تتمثل أمامك ما تحسه في نفسك وتطالعه صباح مساء، من مثالب حضارة القرن العشرين المادية، كالذي تراه في هذه الأبيات: |
تحضر الناس، حتى ما لمكرمة |
قدس لديهم ولكن قدسوا المالا |
في كل مملكة حرب منظمة |
تضم جيشين: ملاكاً، وعمالا |
يد السياسة. بالأخلاق قد عبثت |
وقوض العلم صرح الدين؛ فانهالا |
البدو أكرم أخلاقاً.. وأحسبهم |
للَّه أكثر تقديساً وإجلالا |
قالوا: تألق نور العلم، قلت لهم: |
بل ناره أصبحت تزداد إشعالا! |
|
ثم يقول: |
ابن الحضارة، جسم دون عاطفة |
يكاد يحسبه رائيه تمثالا |
رسالة الغرب، لا كانت رسالته |
كم سامنا باسمها خسفاً وإذلالا |
تغزو الحضارة أقواماً، لتسعدهم |
والزنج أسعد من أربابها حالا |
|
وقبل أن أختم هذا المقال، لا بد لي من أن أشير إلى قصيدة "مجد الإسلام أو وقفة على طلل" التي يقول في أولها: |
ما لي وللنجم يرعاني وأرعاه |
أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه |
لي فيك يا ليل آهات أرددها |
أواه لو أجدت المحزون، أواه! |
لا تحسبني محباً يشتكي وصبا |
أهون بما في سبيل الحب ألقاه |
إني تذكرت -والذكرى مؤرقة- |
مجداً تليداً بأيدينا أضعناه!! |
أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلد |
تجده كالطير، مقصوصاً جناحاه! |
ويح العروبة كان الكون مسرحها |
فأصبحت تتوارى في زواياه |
كم صرفتنا يد كنا نصرفها |
وبات يملكنا شعب ملكناه |
كم بالعراق، وكم بالهند ذو شجن |
شكا، فرددت الأهرام شكواه |
بني العمومة. إن القرح مسكمو |
ومسنا.. نحن في الآلام أشباه |
|
ولعلّ بيت القصيد الأول، في هذه القصيدة -وكل بيت من أبياتها بيت قصيد- هو قوله: |
ما بال شمل شعوب الضاد منصدعا |
رباه.. أدرك شعوب الضاد، رباه! |
|
|