شعراء الوطنية |
ومن أحق من مؤرخ الحركة الوطنية في مصر "عبد الرحمن الرافعي" بأن يؤرخ لشعراء الوطنية فيها؟ |
وقد يكون من تحصيل الحاصل الإشادة بمؤلفات هذا الباحث الكبير، ولعلّه يكفي أن أشير هنا إلى مؤلفه الضخم في تاريخ الحركة القومية في مصر، وهو في أكثر من عشر مجلدات، تعتبر أوفى مرجع لتاريخ مصر الحديث. |
وكتابه هذا "شعراء الوطنية" يحوي تراجم شيقة لخمسة عشر شاعراً من شعراء مصر منذ القرن الماضي "التاسع عشر" حتى العهد الأخير. |
وكأنما أحس بعد أن اشتهر وعرفه الناس متفرغاً للناحية السياسية أحس أن الناس لا بد أن يتساءلوا عن بواعث تأليفه كتاباً عن شعراء الوطنية فنراه يقول: |
"عندما أرخت الحركة القومية في أدوارها المتعاقبة تبينت مبلغ ما للشعر الوطني من أثر عميق في التمهيد لها وبعثها وإذكاء الروح الوطنية في نفوس المواطنين وتسجيل الحوادث الهامة في تاريخ مصر القومي ومن يومئذ وأنا تواق إلى أن أخصص لشعراء الوطنية سفراً منفرداً يجمع معظم ما جادت بهم قرائحهم من الشعر الوطني مع التعريف بشخصياتهم وذكر المناسبات التي أنشأوا فيها قصائدهم الوطنية. |
أما طريقته في التعريف بشخصيات هؤلاء الشعراء فهي طريقة المؤرخ الباحث المستقصي، فهو يلخص حياة من يترجم له منهم دون أن يفوته أن يشير إلى أهم ما ينبغي أن يشار إليه من الحوادث التي مرت بحياة الشاعر، ثم لا يفوته أن يحلل، إلى جانب ذلك، ويوازن ويبدي رأيه صريحاً في شعره دون أن نلحظ في نقده أي غض من مكانة الشاعر المنقود. |
يتحدث عن رفاعة رافع الطهطاوي ويبدي رأيه في شعره فيقول: ".. وهو أول رائد لنهضة العلم والأدب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان شاعراً رقيقاً بالقياس إلى عصره، أشربت نفسه الوطنية منذ نعومة أظفاره، تلقاها من إيمانه الصادق، وحب الوطن من الإيمان.. ومن فطرته السليمة، وخلوص نيته، وقد استثار رحيله من مصر إلى فرنسا عاطفته الوطنية العميقة المتأصلة في نفسه الحساسة فجادت قريحته وهو في باريس بقصيدة عبر فيها عن الحنين إلى الوطن وأهله والإشادة بمفاخره قال في مطلعها: |
ناح الحمام على غصون البانِ |
فأباح شيمة مغرمٍ ولهان |
|
ثم يقول عنه في آخر الترجمة: "وإذا تأملت في شعر رفاعة رافع الذي نقلنا طرفاً منه وجدت فيه تقدماً نسبياً إذا قارنته بأسلوب شعراء المدرسة القديمة التي سبقته كالشبراوي، والعطار، والخشاب، وغيرهم، ويعد شعر ودور الانتقال إلى دولة الشعر الحديثة التي حمل لواءها البارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ. |
حقاً إننا إذا وضعناه إلى جانب شعر شوقي مثلاً لجاء في المرتبة الثالثة أو الرابعة ولكن يجب ألاّ ننسى أن رفاعة نشأ في عصر كانت اللغة العربية وآدابها في دور تأخرها واضمحلالها فله على نهضة الشعر والأدب فضل لا ينكر. |
بهذا الأسلوب الرقيق ينقد عبد الرحمن الرافعي شعراء كتابه، ويوازن بينهم، ويضع كل واحد منهم في مكانه في إنصاف، إنه أسلوب في النقد يجب أن يُحتذى! |
ثم ينتقل الرافعي إلى عبد الله النديم الذي يرى أن المعاني الوطنية تجددت في شعره، بعد أن ظل الشعر في مصر خالياً منها بعد وفاة رفاعة رافع. |
ثم يتحدث عن البارودي في إيجاز، ويشير إلى حياته في المنفى، فيقول: |
".. وتجلت في منفاه صفاته العالية من الشمم، وعلو النفس، واحتمل آلام النفس بشجاعة وإباء، وصبر وإيمان، وله في ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية قال وهو في سرنديب: |
لم أقترف زلة تقضي علي بما |
أصبحت فيه فماذا الويل والحربُ |
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني |
ذنبُ أُدان به ظلماً وأغترب |
فلا يظن بي الحساد مندمة |
فإنني صابر في اللَّه محتسبُ |
أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت |
أيدي الحوادث مني فهو مكتسبُ |
لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية |
ولا يشيد بذكر الخامل النسبُ |
|
تأمل أيها القارئ في قوله "أثريت مجداً" الوارد في البيت الرابع وترحم معي على أول من أقام للشعر العربي في العصر الحديث دولة شامخة البنيان؟! |
ونلاحظ أن الرافعي يتخير من أجود ما قاله شعراء كتابه.. حتى ولو كان من شعرهم الذائع المشهور، كما ترى في هذه الأبيات التي يكاد كل متأدب يحفظها عن البارودي وهي: |
امطري لؤلؤاً جبال سرنديب |
وفيضي آبار تكرور تبرا! |
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً |
وإذا مت لست أعدم قبرا |
همتي همة الملوك ونفسي |
نفسُ حرٍ ترى المذلة كفرا |
|
ومن شعر البارودي في منفاه قصيدته الخالدة: |
ردوا على الصبا من عصري الخالي |
وهل يعود سواد اللَّمةِ البالي |
|
والتي يقول فيها: |
لا عيب فيَّ سوى حرية ملكت |
أعنتي عن قبول الذل بالمال! |
قلبي سليمٌ ونفسي حرة ويدي |
مأمونة ولساني غير ختال |
بلوت دهري فما أحمدت سيرته |
في سابق من لياليه ولا تالي |
حلبت شطريه من يسر ومعسرةٍ |
وذقت طعميه من خصب وإمحالٍ |
|
ويقول أيضاً: |
علام أجزع والأيام تشهد لي |
بصدق ما كان من وسمي وإغفالي؟ |
راجعت فهرس آثاري فما لمحت |
بصيرتي فيه ما يزري بأعمال! |
فكيف ينكر قومي فضل بادرتي |
وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي؟ |
أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به |
وإن غدوت كريم العم والخال! |
|
ويتحدث الرافعي عن "إسماعيل صبري" أستاذ الشعراء فيقول عنه: "كان علماً من أعلام الطبقة الأولى من شعراء العصر الحديث وثانيهم بعد البارودي". |
ومن شعر إسماعيل صبري هذه الأبيات، وهي تدل على مقدار ما يحمله من إباء وعزة نفس وإحساس بالكرامة، يقول: |
أيها التائه المدل علينا |
ويك! قل لي: من أنت؟ إني نسيت |
لو فرشت الطريق دراً لأخطو |
فوقه نحو داركم ما رضيت |
أنا أغنى من أن يقال فلانٌ |
وفلان تزاورا.. ما حييتُ |
|
ثم يتحدث عن شوقي وحافظ فيقول عنهما في ترجمته لشوقي: |
"بلغ الشعر الوطني ذروته على لسان شوقي وحافظ، فقد حملا لواء النهضة الشعرية في العصر الحديث، وتغنيا بالوطنية، وكان للحوادث الكبرى التي وقعت في مصر والشرق صداها في شعرهما، وكلاهما كان له أثره وفضله في تغذية الحركة الوطنية بعيون الشعر الوطني، سطع نجمهما في عصر واحد، وغرَّدا في جيل واحد، وانتقلا إلى جوار ربهما في عام واحد "1932" ولم تمض على وفاة حافظ ثلاثة أشهر حتى لحق به شوقي في الرفيق الأعلى". |
ثم يقول بعد ذلك عن شوقي مشيراً إلى تلقيبه بأمير الشعراء، وما يحسن أن يلقب به الآن. |
سمي شوقي أمير الشعراء، إلى أن يقول: إن شوقي أكبر من أن يمجَّد بهذا اللقب.. ثم يقول: فهل نسميه زعيم الشعراء؟ إنه ولا ريب أقدر شعراء عصره، ولم يكن ينازعه في زعامة الشعراء أحد من أنداده ومعاصريه، فلقد عقدوا له لواء الزعامة، وبايعوه عليها في المهرجان الذي أقيم له بمصر سنة 1927م وجمع أقطاب الشعراء من العالم العربي وخاطبه فيه صنوه حافظ بقوله: |
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً |
وهذي وفود الشعر قد بايعت معي |
|
على أن لقب زعيم الشعراء لا يكفي للتعريف به، والتنويه بمكانته، وخير لقب له أن يسمى "شاعر العربية الأكبر" وأن نسميه في هذا الكتاب "شاعر الوطنية الأكبر". |
هذا ما يقوله عبد الرحمن الرافعي، فما رأي أعلام الأدب والنقد في ذلك؟ |
وقد أكثر المؤلف في الاختيار من شعر شوقي فبلغت صفحات التعريف به وبشعره (54) صفحة من الكتاب على حين أن البارودي كان نصيبه أقل من الربع من هذه الصفحات. |
ثم يتحدث عن شاعر الحرية "خليل مطران" فيقول عنه "شاعر الحرية والعروبة، حمل لواء التجديد في الشعر نيفاً ونصف قرن من الزمان، وبلغ الذروة في عالم الشعر والفن والبلاغة والخيال". |
ثم يقول عنه: "كان إنساناً في شخصه وفي أخلاقه، وفي شعره وفي أدبه، كان في شعره ينشد الكمال، ويحلق في أجواء الحرية والوطنية". |
كان يستلهم شعره من المثل العليا، وفي ذلك يقول عن نفسه في الاحتفال بيوبيله الذهبي سنة 1948م: |
كان في الشعر لي مرام خطيرٌ |
فعدا طوقي المرامُ الخطيرُ |
هائم في الوجود أسأله الوحي |
كما يسأل الغني الفقير |
أكبروني ولست أكبر نفسي |
أنا في الفن مستفيدٌ صغيرُ |
لا يضق صدر شاعر بأخيه |
يكره الفضل أن تضيق الصدور |
والسماوات لو تأملت فيها |
ليس تحصى شموسها والبدور |
|
ثم يقول الرافعي عن الخليل: |
"وبهذه الروح العالية، والنفس الصافية، والود الخالص، والإيثار، والأريحية، عاش محبوباً من معاصريه، يحبهم ويحبونه.. وينشد لهم الخير والكمال. |
وقد أرخ في شعره الوطني العذب مراحل النهضة المصرية والشرقية وسجل حوادثها ووقائعها، وترجم لرجالها وأشخاصها، وغذى بقصائده الروح الوطنية جيلاً بعد جيل". |
ثم يتحدث عن "أحمد محرم" و "أحمد نسيم" و "أحمد الكاشف" وهم الشعراء الثلاثة الأحامدة المعاصرون من شعراء الحزب الوطني وأولهم محرم. |
ويقول الرافعي عن أحمد محرم: "شاعر ملهم من شعراء الوطنية والأخلاق كان أدباء الجيل يضعونه في صف حافظ ومطران". |
وقد عرف عن محرم أنه إسلامي النزعة إلى جانب أنه شاعر وطني كبير، وهو ما لم يتفق لسواه من معاصريه، إذا استثنينا شوقي ومصطفى صادق الرافعي! |
شاعر آخر وطني شهير، كان له دوره، وخاصة في ثورة مصر سنة 1919م إنه الشاعر البدوي كما يصفونه: محمد عبد المطلب. |
يقول عنه الرافعي: "ولد سنة 1870م.. لأبوين عربيين مصريين من سلالة قبيلة جهينة إحدى قبائل جزيرة العرب". |
وشاعرية محمد عبد المطلب قوية، وشعره جزل يحاكي فيه القدماء، وأكثر موضوعات قصائده في الوطنيات وفي ثورة مصر 1919م. |
يقول من قصيدة في هذا المعنى: |
مصر أمي فداء أمي حياتي |
سلمت أمناً من العاديات |
يا رياح الحياة في مصر هبي |
روحينا بطيب ريَّا الحياةِ |
يا سماء الحياة في مصر جودي |
أنفساً فوق نيلها صادياتِ |
ما لأم الأمصار حمَّلها |
الدهر صنوف الآلام والموجعات |
|
إلى آخر هذه الأبيات.. |
وللشاعر أحمد زكي أبي شادي في هذا الكتاب مكان مرموق! |
ثم عبد الحليم المصري من الشعراء الضباط وقد توفي هذا الشاعر في ريعان شبابه عام 1922م. |
ثم شاعر الشباب والحرية والوطنية: عزيز فهمي: الشاعر الحر المجاهد الطموح. |
إن شعر عزيز فهمي يهز النفس حقاً، إنه في الصميم من شعر الوطنية فلنستمع إليه في أبيات من قصيدة نظمها وهو في السجن سنة 1946م يقول: |
ذكرت مصر فهاجتني مواجعها |
وعزني الدمع حتى كدت أبكيها! |
يا لائمي وأنا الجاني على كبدي |
دع عنك لومي فإن اللوم يغريها |
كل يغني ليشجي سامراً وهوىً |
وقد يغني لأوطار يرجِّيها |
وليس لي سامر فيها ولا وطرٌ |
ولا زعمت جوادي من مذاكيها |
وإنما هي آلامي أكتمها |
حتى يضيق بها صدري فأحكيها |
نزحت عنها فلم أعدل بها وطناً |
وبات قلبي أسيراً في مغانيها |
وصنت شعري إلاّ عن مفاتنها |
وهمت في الأرض مسحوراً بواديها |
ورق شعري كما رقت جداولها |
وراق وصفي كما راقت مجانيها |
وما رأيت كناساً في جؤذره |
ولا ذكرت غزالاً في مراعيها |
|
إلى أن يقول: |
جارت عليها صروف الدهر واختلفت |
أيدي الرماة.. فآهاً من أعاديها |
راشو لها السهم مسموماً فشتتها |
وكاد لولا يد الرحمن يصميها |
وأثخنوها جراحاً في مقاتلها |
يا للجريمة من عدوان آسيها |
|
ثم يقول: |
فزعت من شرك يلقيه غاصبها |
قبل الجلاء لعلّ الوعد يغريها |
وما الجلاء إذا شُدت بسلسلة |
من القيود وشرط الحلف يمليها |
تشعب الرأي والأحزاب سادرة |
ومصر صابرة والصبر يضنيها |
وكيف تنهض من أسر يكبلها |
والقيد آمرها.. والقيد ناهيها |
|
شاعر آخر من شعراء الوطنية أشاد به المؤلف عبد الرحمن الرافعي وأعني به "علي الغاياتي". |
والغاياتي من شعراء الوطنية الأوائل، وله ديوان مشهور اسمه "وطنيتي" حكمت عليه المحاكم بسببه بالسجن، فاضطر إلى الهجرة إلى سويسرا. |
|