مصاحبة الصغار |
أخي محمد عمر |
لعلّك لم تنسها. قصة المرأة التي يغرق فراشها كل ليلة في بول زوجها.. فحين سأله القاضي أمن علة يا أبا فلان؟ نفاها وأكد السلامة. قال ففيم إذن؟ قال: إني أرى في منامي بحراً مضطرب الموج، في وسطه صخرة عالية عليها منارة طويلة، في رأسها رجل على جمل أضر به العطش ما يفتأ يميل بعنقه إلى الماء، مرتعش القوائم ليشرب، فأبول من الفزع. وصاح القاضي مختنقاً وما بك أنت من هذا؟ فقال متنهداً أنا راكب الجمل، يرحمك الله. |
وتزحزح القاضي عن موضعه وقال للمرأة انظري ما تحتي يا فلانة لقد تبرزت من هول الحكاية.. فكيف بمن تقع له. |
لقد كان موقفي من حكاية تعبك، ذات موقف القاضي من حكاية راكب الجمل، بزيادة طفيفة هي أني كنت المسؤول عن تنظيف الفراش، وهي زيادة من حسن العاقبة فيها أنها لا تجر غبطة ولا تثير حسداً ولا تكون مداراً للوفاق بين مختلفين، ولا للخلاف بين متفقين.. وهذا أدعى جوانب اليسر فيها إلى الدعة.. |
فهمت يا صديقي.. إنها الحالة التي تعرض لذوي الحس المرهف، والانتباه اليقظان.. التوتر الحاد الذي هو نتيجة اكتشافنا تفاهة دورنا في الوجود المبهم، سواء أكنا سعداء مرموقين، أو أشقياء منكورين. |
إنها صخرة "سيزيف!" في أسطورته المحزنة، رحلة شاقة دائبة بين القمة.. والسفح.. إذا تصورتها شقاء كبيراً. |
وأنها "بعرة" كل "جعران" ما يزال موكلاً بها، أو ما تزال هي موكلة به، إذا أردتها جهداً حقيراً.. يحلم باذله بتطهير الأرض من نجاستها.. |
هي هناك لعنة ونقمة.. |
وهي هنا فن.. ووهم.. وخيال.. وعذاب. |
الكل عذاب. لا يدفعه ملل، ولا ينجي منه أمل، ولا يعصم منه عمل، ولا هرب إلى رأس جبل.. |
لأمر ما هرب العارفون من متاعب الحياة وعذابها إلى متاعب الزهادة ورياضة النفس على التزام الحرمان والاستقرار عليه.. واستدبار الدنيا وما فيها.. |
لكن هذا الهرب حل غير ميسور إلاّ لذوي المواهب والعزائم، ولمن خار الله له فيه.. ولقد مات الزمن وأهله.. رفَّت على نفسي كلمة "الرخاء والجمال في أسمرا" رفيف النسمة الباردة في وقت الهجير. فما زال اسمها وما عرفت من حالها منذ ثلث قرن مهرباً من مهارب خيالي ألوذ به كلما أحسست الضيق والغثيان من الحياة التي أحياها.. |
ولكن حديثك عنها لم يطل. أفلم نفترق على اعتزام الهجرة إلى بلد يقل فيه تعقيد الحياة، والأحياء؟ فلتكن أسمرا.. ليكن أي بلد يجمع لنا أيسر ما نريد ويجمعنا.. قبرص.. مالطا.. بلد بعيد قريب لا يشتد فيه العسر على النفس فالمهاجرون العرب فيها أبرز عناصرها، وما أظن الحياة فيها فقدت بساطتها الممتعة.. ووداعتها الحبيبة.. |
فإذا كانت تؤثر ما أوثر من وضع حد لهذا التمزيق الداخلي الذي نعانيه، فابسط لي في رسالتك القادمة ما رأيته عن معدلات رخائها والنفعة الكافية فيها لدرجة متكاملة من العيش، وعن إمكانيات العمل التجاري فيها للقادم الجديد.. وعن ثمن العقار بها ونسبة دخله.. وعلاقات قوانينها بالغرباء المهاجرين.. وكذلك أسباب الحياة فيها. وتعداد سكانها.. لأن الازدحام مظنة تعقيد الحياة. |
وأدخل في حسابك اتصالها بما لم تر من مدن أرتريا.. والحبشة التي هي مصدر علاقات تجارية مفيدة بعدن.. وببلادنا في منتجاتها الحيوانية، الزراعية. |
إنه مشروع مثمر، مع ضمان الرفاهية.. وطلاقة الشعور.. نكون فيه شريكين، أو صديقين متساندين. |
أنا جاد إن كان بوسعك أن تستجيب لهذه الدعوة التي سيكون أثر توفيق الله فيها، اجتماع عزمنا عليها إن شاء الله. |
إن وضعي هنا على ما تعهده من انقطاعي التام عن الناس، والتوفير على الاشتغال بكفالة هذا المجتمع (الصغير) المعقد الذي أنزل من أفراده منزلة الأب، والأم، والمعلم، والرقيب. والدادة. والزميل. والخادم. والمهرج أحياناً ليست من الندرة بحيث تسلم بها الهيبة، وتدفع الجرأة على حرمة الأبوة وتضمن السلامة من بوادر السوء ونزوات النزق والجهل ومكاره العدوان. |
ولست أكثر منك علماً بأحوال الصغار، وما تجره مصاحبتهم من فقدان الرشد.. ونقصان الرجاحة.. والارتداد إلى عهد الطفولة. وانحلال القوام، وضعف الاشتمال بالحزم وسقوط جد السن.. وتخثر صرامتها.. ولعلي لا أدخل عليك بشيء من هذا، إلاّ وأنت صاحب أصوله وفروعه، السابق في مضماره، والمتعمِّق في أغواره.. والمتبحّر في أسراره.. والمتضلّع بأطواره، والمتمرّس بأخطاره -منذ شاء الله لي ولك أن نبلغ مدى السابقين في خدمة النوع، واتصال السلالة البشرية.. وإنها لمشيئة حكيم خبير، متفرد بالقدرة والسلطان. |
تحياتي إلى جميع الإخوان الأصدقاء.. وتهنئتي لك بعيد الفطر أعاده الله عليك وعلى أسرتك بالخير والبركة. |
|
|