عدتُ إليها بَعْدَ نأيْ طالْ |
وامتدَ به الحنينْ |
أحملُ آلامي على ظهرِي |
وأعباءَ السنينْ |
لستُ وحيداً. لا |
فها هُنَّ معي.. حقيقة في واقعي |
هُنَّ بُنَيّاتي |
المشوقاتُ إلى أرضِ الوطنْ |
خمسُ صغيراتٍ. ضعيفاتْ |
كليلاتِ الخطى.. مِن الوهنْ |
ناءت بهنّ غربتي |
في المهجر القاسي الذي |
ضاعتْ أمانيّ به.. وثروتي |
بعد أسىً طالَ. وجهدٍ غاله الكلالْ |
* * * |
لقد غضبتُ من بلادي |
مُستفَزاً.. نافراً |
ورحتُ لا أدري إلى أينْ |
كما تهاجرُ الطيورُ من أعشاشِها |
تبحثُ عن معاشِها |
وخضُتها معركةًً رهيبة |
للعيشِ. للبقاءِ.. |
تفيضُ بالدموعِ بالعرقْ |
تغصُّ بالعناء.. بالأرقْ |
على هزيمِ الرقصِ والغناءِ.. والصخبْ |
حيثُ الرجالُ والنساء |
يسجدونَ للذهبْ |
ويعملونَ جاهدينَ هائمينَ بالثراء |
يتعبدونَ الأقوياءَ جهرةً... |
ويقتلونَ الضعفاءَ غِيلةً... |
حيث يساوون الحياءَ بالغباء.. |
لا شرعة إلا الرياء.. |
لخداعِ الأتقياءِ.. واستلابِ الغرباء.. |
في العيانِ والخفاءْ.. |
حيث ينامُ الكادحونَ الأُجراءُ المنتجون ْ |
جائعينَ.. في العراءِ. |
يرمقونَ السعداءَ الهانئينْ |
بالغذاءِ.. والكساءِ.. والخمورِ والطربْ.. |
حيثُ أرى المصيرْ.. |
نَفْس المصيرْ.. |
* * * |
ومثلما أحسّستُ بالضيقِ وأهوالِ الطريقْ |
ومثلما غَضِبتُ من ضيقِ مجالِ الفكرِ |
في بلادي!.. |
غَضِبتُ هَا هنا. |
من ضيقِ مَسْعى الهِممْ |
والقلمْ.. |
* * * |
واجتاحني موجُ الأسى.. والألمْ والندمْ |
وعندما بحتُ لجيرانِي بمأساتي |
في جوارِهم |
ألفيتهُم لا يفهمونَ لغةَ الغريبْ |
في ديارِهم!.. |
فانتشرَ الظلامُ بيننا.. وعدتُ لا أرى |
ولا أرى |
وهالني السُّرى. وانفجرَ الحنينُ في نَفْسِي |
لَظىً مُدمرا. |
وكانَ كُلُّ ما يحيط بِي.. وكُلُّ ما أراه |
يهيبُ بي صوتاً رتيباً.. |
باردَ الوقعِ.. رهيباً |
يا غريبْ! |
حَتّامَ تبقَى ها هنا |
على الشجنْ |
بلا وطنْ. ولا صديقْ.. ولا حبيب |
متى تعود؟ ألا تعودْ؟ |
إذن أعودْ.. |
* * * |
أعود عودةَ الأسيرِ الهاربْ |
يحلم بالنجاةِ.. والسبيلْ |
كلها عِثارْ |
أو الغريبِ الهائبْ.. يدلف في ترددٍ.. |
ممزَقِ الإزارْ |
وكان ماضيّ أمامي جثةً هامدةْ |
وظلمةً جامدةً راكدةْ.. |
مثل حياتي كلها منذ اغتربتُ واضطربتُ |
في بلادي.. وبلادِ الآخرينْ |
مفجعاً. مروعاً. بواقع الأحياءِ والحياة |
في سيرتها الكريهة الشوهاء |
وكانتِ الأشلاء |
مِن حولي. وقدامي |
ملء الأفق! |
أشلاء عمري. وأمانيَّ |
وغاياتي.. عبر الطرقْ! |
وأنا ذاتي، ما أنا؟ |
ألستُ شلواً من ألوف مثله |
كانت تسمى وطناً.. وأمة.. |
تاريخها ما زال يرويه الخلودْ |
طافحاً بالألقْ؟ |
فانتثرت.. وأهدرتْ.. |
ووطئت.. ونسيتْ.. |
ولم يعد يربطها بموطني.. حتى خيوط الذكرياتِ |
الواهية.. |
من عابرٍ. أو ذاكرٍ. أو منشدٍ. أو شاعرْ |
أو راوية؟ |
* * * |
وهِمْتُ في هذا الضبابِ. ساعةً كالأبدْ |
أحسستُ فيها بكياني |
قطعة من جمرْ. |
وما يزال ذلكَ الصوتُ الرهيبْ |
الباردُ الوقعِ الرهيبْ |
بِي يهيبْ |
حتامَ يا شريدْ.. يا طريدْ |
تَبْقى ها هنا |
بلا وطنْ.. ولا صديقٍ.. ولا حبيبْ |
متى تعود؟ ألا تعود؟ |
إذن أعودْ. |
إذن أعودْ عودةَ المهزومْ |
في ظل الغروبْ. |
بالجراحِ.. واللغوبْ |
فربما كان الظلامُ في بلادي.. لا |
فَمَا ليَ والظلامْ؟ |
فإنه سترٌ يواريني.. فيكفِيني |
شماتَ الشامتيْن، ورثاءَ الراحمينْ |
وملامَ العاذلينْ.. وفضولَ الساخرينْ |
* * * |
ألا تُراها قصةً تطولْ |
تطولُ لو رويتُها؟ |
ومَنْ يعي؟ |
ومَنْ يعي في زحمةِ العهدِ الجديدِ ما يُقالْ؟ |
فقد بدَا الماضي لعيني سُكوناً وظِلالْ |
مثل السكون.. والظلالْ |
حولَ تلكَ المقبرةْ |
تلكَ التي ضاعَ بها |
رفاتُ أمي، وأبي.. وإخوتي الصغار والكبارْ |
ولم أزرها |
منذُ أن أودعتهم فيها.. |
ولم أذرفْ دموعاً. |
* * * |
إذنْ نعودْ. |
نعود فالنهارُ ثوبك الزوالْ. |
بل استحالَ.. إلى ظِلالْ.. |
ظلال هاتيك القصورِ الباذخاتْ. |
والمبانِي الشامخاتْ. |
وجُنَّت الأبواقْ. |
وازدحم الطريقْ. |
فنحنُ في زوبعةٍ يلفها حريقْ |
كأنما الأضواءُ بحرٌ مِن بريقْ |
ليس به.. لُجّةٌ.. مما أرى |
إلا غريقْ... |
ولنمضِ بالصغارِ.. في ذلكَ التيارْ |
نبحثُ عن مبيتْ |
وعنِ الطاوينْ |
فما تزال في يدي بعضُ قروشٍ رُبّما |
أَجْدَتْ لتدبيرِ الطعامِ.. والمَنَامْ |
في الظلامْ |
وكانَ كُلُّ السائرينَ ينظرونْ |
إليَّ في فضولْ |
ويضحكونَ أو هكذا خُيِّل لي |
لعلهم يستفهِمونَ.. بالعيونْ |
مَنْ أكونْ؟ مَنْ نكونْ؟ والصغارُ |
يعجبونَ صامتينَ لاهثينْ.. |
يجولُ في عيونِهم سؤالْ.. |
عنِ المآلْ |
ماذَا أرىَ؟ أليس ثَمَّ عابرٌ يسألني؟ |
عَمّا أريدْ؟ |
وأينَ مَنْ أعرفهم مِن صاحبٍ وجارْ؟ |
وأين بيتي؟ |
إنّه كانَ هنا |
هُنا فمالي لا أراه؟ |
أيُّ قضاءٍ قد طواه؟ |
أرى.. ولا أعرف شيئاً |
ما الذي أصابَها؟ |
مدينتي؟ |
موطن أحلامي.. شَبابي.. ذِكرياتي |
وجهادِي لبلادي؟ |
أين الرجالُ السُّمْرُ بحارتِها؟ |
أين مَضَوا؟ |
أشُرِّدُوا مُذْ عصفَ التيارُ بالميناء |
أم جاعُوا طويلاً |
فَقَضُوا؟ |
أينَ الصغارُ المرِحونَ والطريقُ الملتوي |
الخالي على الدوامِ مِن زحامْ |
واحتدامٍ.. وضجيجٍ.. كالذي أسمعهُ |
ونورها الشاحب لا يُعَكِّر السكينة |
وصائدو الأسماكِ في الغروبْ |
سائرون للمدينة |
كأنهم أشباحها تحومُ حول سورِها |
الصامتِ في جلالهِ |
تنبحه الكلابُ أو تنبحُ مَنْ ناموا |
في ظلالهِ |
لعلي أخطأتُ. أو ضللتْ |
كلا إنه موضعها |
موضعها بعينهِ.. لكنها! |
ويا لهولِ ما أرى |
تغيّرتْ |
لعلها قد دُمرتْ.. أو طُمرتْ فهُجرتْ |
فبحرُها المطيف بالتلالِ ليسَ حولها |
ومَنْ أرى من هذهِ الجموعْ |
ليسوا أهلَها |
وطالَ صمتي.. وانكفأتُ حائراً |
لا أهتدِي |
وسألتْ صُغْرى بناتي "هند": |
أين بيتُنا؟ |
فقالتِ الكُبرى وقد ضاقتْ: |
"وأين أهلُنا؟" |
والأصدقاءُ يا أبي أين هُموا؟ |
أما دَرَوا أنك قد عُدت |
ألم تكتبْ لهم؟ |
وغلبتْني دمعة.. |
غالبتُها.. فانحدرتْ |
ولم أجبْ |
وأدرك الصغارُ من صمتِي.. |
خِتَام قِصّتي.. |
تلكَ التي رويتُها |
في غربتِي |
لهُُنّ |
كي يعرفنَ |
أنّ لي وطنْ!! |