(17) |
وهاله.. بل وشد في ألمه، أن لا تجد ما تفتح به حديثها إلاّ شأنها معه..! فقد ابتدرت بعد التعريف به تقصُّ عليهم قصة لقائها به، وما كان من شأنه في طلب الطعام، وشأنها في إضرام النار له في الكهف، وما شأنهما معاً بجوار عشة العجوز!.. بأسلوب طبيعي غير متكلّف.. لم تتجاوز فيه معنى من المعاني التي طرقا، ولم تترك ناحية من النواحي التي يتحاشى مَن في سنّها وجَمالها من ذكرها.. إلى أن جاءت على حديث السحر الذي رآه يتألق في أجفانها الدعج، وما كان من تأثيره في تبخر حقيقته مع أول سيال شعَّ منه!.. في لغة لا تبدو فيها معاني الزهو والخيلاء بقدر ما تبدو فيها العفوية، ونقاء السريرة، وحب الصراحة والوضوح.. |
وانتهت من حديثها بما كان من رأيها في طبيعة الارتجال المتأصلة في الرجل، وما عقّبت عليه من الحديث عن ميولها الخاصة، وأفكارها الشاذة، وحبها العزلة. |
كان القوم ينصتون إلى حديثها وبسمة خفيفة يشيع ظلها على وجوههم. وكان (ابن الشيخ) يبدو في إنصاته ومتابعته الحديث.. شديد الغاية بروايتها، كما كان صاحبنا في إطراقه ووجومه وانطوائه على نفسه بين الجلوس.. يعبر عن مدى الخجل الذي يساوره، والأزمة النفسية الشديدة التي يعانيها. وعندما أوفت إلى ما أوفى إليه أمرهما، وهما يتركان الغدير في طريقهما إلى البيت، تركت عيون القوم تصوب أنظارها إلى ضيفهم الغريب، ثم انفتلت تعدو إلى خارج الغرفة وتصيح في الخدم تستعجلهم الطعام! |
وتحرك (ابن الشيخ) في مقعده. وقال وهو يخلل لحيته ويجعلها إلى أسفل وجهه: |
- مرحباً بالضيف.. حل وادينا ونزل بنا، ونسأله العذر فيما فرط مِن أختنا في حقه. وأختنا كما رأيت لا بالعاقلة فتحجزها على غرار المخدرات في بيوتنا، ولا بالمجنونة فنولي عنها!!
|
وتنفست كربة صاحبنا، وانجابت سحابة داكنة كانت تغشى محيّاه، وتفتحت نفسه للحديث فقال: |
- كنت أشفقت على صباها أن يزويه التجوال الضال.. فوددتها مصونة في بيتي معززة عند أهلي، ووددت أن ينتفع بآرائها في الحياة ملأ من حاضرتنا بين مكة والطائف. ولكنها أبت لنفسها ما وددت، وحال تفكيرها الخاص دون ما رأيت.
|
واعتدل أعرابي في زاوية المجلس، وقال وهو يشير بعصاه في وجه محدّثه على عادة الأعراب: |
- لو كنا نملك أمرها لاخترناها لأمثل شاب في فتياننا، ولو كنا نلمح الظن فيها لأقمناها بسيوفنا. إنها يا صاحبي عقيلة علم لا ينفد، وعقيدة إيمان لا يتسرب إليه شك، وإنها بعد ذلك رأي شاذ لا ينفك يسفِّه أفكارنا وآراءنا وعاداتنا، وبودّها لو جاءت عليها دفعة واحدة هدماً ومحواً.. كما تجيء العواصف الشديدة على غيضة واسعة الهشيم فتذروها!!
|
وعادت ((فكرة)) في هذه اللحظة، تجر صبياً في يدها، حتى وقفت على القوم وقالت توجه الحديث إلى (ابن الشيخ). |
- ما شأن هذا بالغرفة المقفلة؟!
|
فابتدرها أحد الحاضرين: |
- إنه يعصي أباه، ويأبى أن يسلس لطاعتهم. وقد جرَّبنا كل أنواع التهذيب المعروفة فلم تنجح؛ والعرب تقول: (آخر الدواء الكي). فلا أقل من أن نحبسه عن الشر إلى أن تلين قناته، وتكسر شباته.
|
فأرسلت الصبي من يدها وقالت: إنكم سترونه ينتظرني تحت الجدار المشرف على الغدير. في أدب الرجل الفاضل، وإنكم لو كشفتم في روحه عن الجوانب التي تكشَّفت لي، لعرفتم أي صبي مؤدب هو؟ إنه في جلسته -التي سترونها الآن.. لطيفة هادئة تحت الجدار المشرف على الغدير- لإطراقة تدل على مبلغ ما يتمتع به من تفكير سليم. ها هو يبدأ خطواته في أدب، ويمضي إلى حيث أشرت مطيعاً هادئاً، وإذا راهنتموني على غير ذلك فسأربح رهانكم دون شك!
|
كان الصبي قد أرسل من يدها في أعصاب تركها الإيحاء ترتخي ويتحلل توترها. وكان قد بدأ يخطو إلى حيث تشير، في ثقة المؤمن من جديد.. بفضائله، وأنه ذو جوانب لم تتكشف لآبائه، وتفكير سليم يدل عليه إطراقه وسهومه. خطا إلى باب الغرفة طيِّعاً هادئاً تتلاحقه أبصار القوم حتى انتهى إلى الجدار الذي أشارت، فجلس جلوس الصبي الذي عرفت منزلته من الصبيان، وأطرق إطراقة المؤمن بتفكيره، وبُعد نظره، وجَمال جوانبه التي ستتكشف الأيام عنها رائعة وهاجة! |
وقالت وقد أصبح الصبي على نجوة بعيدة منهم يسارق النظر إلى المعجبين بإطراقه: |
- إننا نغالي في تصوير الجريمة بقدر ما نغالي في مهمة العقوبة، وكثير منا مَن لا ينكر قوة العناد في نفسه، ويعرف كيف يحرن عندما يُستثار، ولكننا بالنسبة إلى الأطفال والمذنبين، ننسى هذه الحقائق أو نتجاهلها؛ فلنساعد الطفل بتصرفاته السيئة، ونحمله على أن يكون عنيداً، طاغياً لا تكسر شباته!!
|
إنه يخطىء كما يخطىء الكبير، فنغدو في تكبير خطيئته، إلى مدى بعيد، ونتركه يشعر أننا لا نفهم الأشياء على نحو عادل، فنستثيره ونعلِّمه العناد، ونضع فيه الجرثومة الأولى للشرور والآثام.
|
ولا يكلّفنا الأمر أكثر من نظرة عادلة، نتجاوز فيها عن أخطائه الصغيرة، ونغمره فيها بالعطف والحب والتوجيه والاستهواء!.
|
إذا استهويناه تركنا مشاعره تحس بأنه غير شرير، وتركنا واعيته الخفية تسجل أدلة صلاحه، فيعنو بالتدريج لما تركّز في واعيته، ويتكيّف سلوكه بالكيف الذي اعتقده عن نفسه. فيغدو مثال المهذب الصالح.
|
أما ونحن نبالغ في خطيئته الأولى، ونسِمُها بميسم الشر والإِثم، ولا نبالي بعقيدته في عدلنا، تصغيراً لشأنه، فإننا سنغدو منه على طرفيْ نقيض. نهيِّئه بذلك لخصومتنا، ونثير في إحساساته كوامن الدفاع عن النفس.. فيغدو عنيداً لا يعنو لأوامرنا، شريراً لا يبالي بنا.
|
لأمر ما كان العُصاة في الأرض، وكان المتمردون، وكان الشريرون الآثمون.. إنه المجتمع يُهيّئ الكثرة الساحقة منهم للشر. ويعلّمهم كيف يعصون ويتمردون، ويودون لو قلبوا بنا وجه الأرض.
|
إنه البذرة الأولى يبذرها الوالدان بكبريائهما على تفهم روحه الصغيرة، وعنتهما في تفسير ما يبدر من عبثه، لا يلبث أن ترعاها بيئته بظلمها وطغيانها عليه، فتتأصل فيه الكراهة والبغض، وينشأ على الحقد لكل ما هو كائن حي، فيتمرد ويستهين بالمعاصي، ويتعلّم الجريمة والإِثم، على أنهما عاملان من عوامل الدفاع عن النفس والثأر بهما من المجتمع الطاغي!..
|
ويأبى المجتمع على نفسه الفلسفة، ويأبى التبصّر في نفسيات الآثمين، ويستهين بأقدارهم فيمعن في حقارتهم ونبذهم.. فيمعنون في تسفيهه وكراهته، ويمضون في آثامهم حتى يستوي منهم المجرم العاتي، والفاتك المهصور!.. ليتنا ندرس فلسفة الأخلاق ونفسيات المجرمين، بقدر ما ندرس نظم العقوبات وقوانين الجرائم.
|
إذن، لجئنا على أكثر سجوننا هدماً وتدميراً، وانتفعنا بأكثر مواهبنا المغموطة في البناء والتشييد.
|
هذا صبيكم الشرير العاتي لا يهيئه العسف والطغيان لغير الجريمة والشر، ولا يهيئانه بسوء التقدير إلاّ للعناد والحرن، وإن فلسفة مبسطة لنفسيته.. تدلكم على مبلغ كبريائه وعظمة روحه، وإن في استطاعتكم توجيه هذا الكبرياء إلى الوجهة النافعة بشيء من الإِيحاء، وفي استطاعتكم إيهامه بأنه كبير في صمته، عظيم في إطراقه، وجيه فيما يبدو من أدبه، في استطاعتكم بمثل هذا الإيحاء صوغه على النحو الذي تريدون.. دون كبت أو تعذيب!! |
تعالَ.. إليَّ يا حسن، وطالع في هذه الوجوه تقديرك. إنهم الآن يكتشفون نواحيك الفاضلة التي أبيت إلاّ أن تسترها بعبثك وكثرة مجونك، وإنك بهدوئك هذا ستساعد على اكتشاف مناحيك الطيبة. وباستمرارك في مثل هذا الصمت، ستتجلى أوضح ممّا كنت وتمسي أكثر بياناً وجلاءً!
|
|