(16) |
مضيا في طريق معبّد، ينحدر إلى وهدة مطمئنة على شاطئ الوادي، ثم صعدا ربوة تجلّلها أشجار الطلح اليابسة، أشرفا من ذروتها على وادٍ ضيّق، يتلوى في أحشاء السهل المخضل، ثم يلتوي فتحتضنه التلال، ثم يندغم في مهابط وخلجان بين الجبال تعرش على ضفافها الكروم، وتتشابك أدراج الخرنوب والكافور، ثم يستقيم ويستوي حتى ينمحي في مدى البصر من الأفق البعيد. |
وانحدر بهما الطريق من ذروة الربوة، إلى صخرة عريضة نائية قامت في زاوية من جانبها الغربي دار مهدَّمة تدل آثار بنائها القوي على عظمة شبابها، وأنها أحد منازل الأمراء من القبائل التي كانت الأيام تدين لهم في هذه الأصقاع بالعز والمجد.. بينما كان ظل المساء يسترق خطاه في هون وسعة، وينشر دثاره على سلسلة الهضاب ورؤوس الأشجار، فتبدو الوهاد والصخور وحواشي الوادي ساكنة جامدة، كأنها تشاركهم الأسى والجمود بعد الطلاقة والإِمتاع. |
وأخذا الطريق إلى الدار المهدَّمة، فألفيا لها باباً يفتح على ما يشبه الصالة.. على جوانبها غرف لم يُبقِ الزمان من سقوفها وحيطانها إلاّ على ما يدل عليها، أمّا الصالة فظل سقفها وحيطانها ونافذتان فيها محتفظة بقوتها، كأنها أرادت أن تكون أمناً لكل عابر ساقه الطريق المقفر أو البرد القارص إليها. |
ومضت ((فكرة)) تجوس خلال الغرفة، وتتفقد زواياها وأركانها كما لو كانت لها بها صلة سابقة، ثم التفتت إليه في صوت أذواه الأسى وقالت: |
- هنا يحسن مبيتنا.. إذا وقفنا على عشاء وقهوة!
|
سكت ولم يبدر منه حرف، وتركها تسمع نفسها. فدارت على عقبها، ثم اتجهت إلى النافذة وصاحت: يا سليم.. ولم يطل نداؤها كثيراً، حتى دخل عليها أسود عريض المناكب يلبي النداء في وقار وفرح فقالت: |
- امضِ إلى (ابن الشيخ) فأخبره أن
((
فكرة
))
في القصر الليلة، وأنها تدعوك إلى العَشاء والقهوة، فانحنى الأسود طائعاً وانفتل يعدو هابطاً بين الصخور كمن يستخفه فرح طارىء. |
اشتد العجب بسالم، وهاله أن تدعو (ابن الشيخ) إلى العَشاء والقهوة؛ في وقت لا تملك فيه كسرة تتبلغها.. ولاحت منها التفاتة إلى وجهه المكفهر، فقرأت في ملامحه ما دار في نفسه، وعلمت أنه لا يريد أن يبادرها في شيء اشمئزازاً من جفوتها، فعطفت في ود ظاهر، وحنان مرموق إلى ناحيته وهي تقول: |
- إن
((
فكرة
))
أختك لا تسيء التصرّف، فتدعو إلى عَشاء دون أن يكون لها مائدة.. إن مائدتي في بيت (ابن الشيخ) تطالعني بما يلذ وأشتهي، فاطمئن إليَّ، ولا يُساورك شيء ممّا يسوؤك!
|
وسبقته الكلمات رغم صموده دونها، وخلوده إلى الصمت فانفرجت شفتاه على حرد وقال: |
- أتعنين أننا سوائم، نفرض نفوسنا على كل مرج معشب!
|
- ولا هذا.. فهي مائدتي. وعندما أقول مائدتي، أعني ذلك بكل حروفه. فإن لي في هذا الوادي نصف بستان مِن أخصب ما يزرع الوادي، ولي قطيع من الماشية استثمرته من نصيبي في غلة البستان، وليس (ابن الشيخ) إلاّ قائم على مالي بتوكيل خاص مني، يغلّه ويستثمره، لقاء جُعل خاص.. فعندما أدعوه إلى العَشاء، أدعوه على خروف حنيذ، ليس له فيه إلاّ ما يبذله بناته في طهيه وإعداده، وستكون الليلة إلى جانبه في ضيافتي؛ موفور الكرامة، عزيز الجانب بعد الذي ظننت من جفوتي قبل الأصيل!
|
وإذا شاقك استئناف الحديث عن السحر الذي فقدت فيه ثباتك، وفقدت صدق عزيمتك، فسأستأنفه معك بما يروقك، على أن لا يخاطبني فيك إلاّ عقلك الناضج، ومنطقك السليم. أمّا عواطفك، وأمّا شاعريتك، وأمّا مَواطن الإِحسان الرقيق منك، فدعها الليلة في نجوة منا تحوم ولا ترود، وتشهد ولا يقترع لها بصوت. |
إنك يا صاحبي عظيم إذا فهمت، كبير إذا نقدت.. ولكنك سطحي إذا رغبت، محلول إذا هويت. بودي لو أنعى إليك حواشيك الرقيقة وإحساسك المرهف! ولكنكم معاشر الظرفاء، تجعلون لها المقام الأول في فضائل الرجل، وأسمّيها أنا مثالب لا يستوي معها نضج الرجل، ولا يستقيم له رأي أو عزيمة، أو عقل.
|
أتخافني يا صاحبي؟ تخاف أهدابي الوطف، وتسحرك جفوني الفاترة؟ وتتبخر حقيقتك في أول سيال شعّ من أجفاني الدعج؟
|
ماذا تركت لذات الخلخال والقرط؟ |
إني أفهم أن تتفتح نفسك لمرأى خلاّب، وجَمال مشرق.. أفهم أن تطرب، وتتلذذ، ويقع في نفسك السرور والغبطة؛ لجَمال طالعتك فيه ناحية مشرقة، وفتنة أخّاذة. |
أمّا أنك تتبخر، وتعود هلاماً أتلمس حقيقتك فلا أجدها، وكينونتك بصفتك رجلاً هصوراً فأفقدها، فذلك شيء لا أعرفه.. شيء يضيع فيه إدراكي، ويقصر عنه فهمي!! |
أريد يا صاحبي أن تكون لأختك مفخرةً تطاول بك أقيال الرجال، وتستعديك على مدلهمات الأمور.. لا هلاماً يتبخر مع أول إشعاع، وغازاً يفنى في أول سيال!
|
أريد أن أرى فيك الأخ الذي انتظرته طويلاً، وترقبته كثيراً، وحلمت به في ليالي الشتاء المقرورة.. يقرأ لي من شعر أمية ابن أبي الصلت، وأقرأ له من لزوميات المعرّي.. وتصوّرته في ليالي الصيف يرافقني إلى مراتع الجمال نتنسم طراوة الوادي الأريج.. تتكسر أضواء القمر على حواشيه.. نقف على شطآن الغدير، فنلتقط ما ترك القرويون من ثمار الخوخ على جوانبها نقضمه، ونتقاذف نواياه، أو نرجم به الضفادع الآمنة في قاع الغدير فنثير نقيقها، ونقلق سكينتها.. أو نجلس تحت شجرة البسياني نتأمل أوراقها الزرقاء تلمع كأنها قطع قُدَّت مِن أديم السماء وقت صفائها، فنمت في أديم الأرض، وأرسلت غصونها وأوراقها لامعة زرقاء، ويمعن تأملنا حتى يسمع هذا السهل المغشي بالفواكه والأثمار قامت على سوقها نتيجة تفاعل بين الأرض والماء.. أغلق سره على الكيماويين، ودفت حقيقته على المفكرين. |
لهذا كنت أرقبك وأنتظرك لا لتتغزل في فتنتي، بل لتشاركني متعة التأمّل الواسع.. فهل لنفسك مبتغى وراء هذا؟؟ أنت تريدني أن أكون (حليلة) لك، وأنا أستطيع أن لا أقصيك عمّا تريدني عليه، ما دامت مشيئة الله بيني وبينك..
|
ولكني أحس أني سأكون مطالبة لك بروحي ونفسي قبل أن أكون لك بجسمي!.. وإذا عرفت أني ربيت على نحو خاص في أحضان هذه الوديان التي لا حد لنهايتها، وأني أشربت حب الحرية والفكر الطليق، الذي لا تحده قيود الغلاة، ولا يقف دونه تقليد المقلّدين، عرفت أي خيال تبني عليه مآتيك، وأية هاوية ستشرف بي عليها! |
أنا فتاة قرأت ما قال الله، وقال الرسول.. وعرفت الدِّين في سماحته وبساطته التي عرفها فيه الرعيل الأول من رجال الإِسلام، ونشأت لا تعوقني سخافة، ولا يثبطني تقليد عن النظرة الصحيحة.. ففي أي مجتمع ستنظمني؟. -إنك ستمسي بي أضحوكة غدك، وأصبح وقد فقدت بك أقانيمي الثلاث، نفسي وعقلي وجسدي.. إنها صفقة خاسرة للشريكين أرى أن تقصيها عنا، وأن نبقى أخوين ما طاب لنا الإخاء، وحفظ علينا ديننا ومروءتنا. |
أرى أن الإخاء أبقى من نشوة زائلة بزوال الفتنة وأبقى بترفُّعه من لذة الحس، وأدعى للسعادة والخلود.
|
قالت هذا فتركته شارد اللب، سادراً لعقل تلج به أمواج من الهموم تعقبها أمواج.. نسي نفسه فيها كما نسي وجود صاحبته معه، وانثنى يزرع الصالة ذهاباً وجيئة لا يعرف من أين يبدأ ولا أين ينتهي!! كان يصافح النافذة فلا تحس قدماه بالاصطدام كأنه أحد أشباح الليل لا يعي ولا يشعر أن له وجوداً أو كينونة.. |
وقادته قدماه إلى عرصة الدار، وكانت مشرفة على السهل المنبسط وراء الأودية والسهول تكتنفه التلال والهضاب وأشجار السدر المثقلة بالنبق.. وكان النسيم يهب بليلاً رخياً، وصقيع المساء يغمر الأفق بطبقة رقيقة من الهواء الندي، وفوح الزهر يعطر الجو بأريجه، فانتعشت نفسه، وأثلج صدره، ولطفت برودة الجو حرارته، فاجتاز العرصة إلى درب منحدر في الربوة يصل ما بينها وبين حاشية الوادي في طريق مجلجل بالأشجار الباسقة، متشابكة غصونها، متدلية أفنانها، انتهى منه إلى غدير صغير، تناثرت منه على حوافيه بعض القرويات، يملأن القرب، أو يغسلن بعض الأواني، فانتبذ ناحية منهن بعيدة، وتهالك على نفسه فوق حجر ناتئ من الغدير، وأدلى ساقيه يغمرهما بالماء، كأنه يطفىء بها لهيباً، يشعر وقْدته في أعماق نفسه! |
أحس بخطوات رشيقة فوق الحصى على حافة الغدير، فالتفت ليرى ((فكرة)) تجمع ذيل ثوبها لتقترب إليه، فما مَلَكَ إلاّ أن قام في أدب يحييها، ويوسّع لها من مقامه فوق الحجر الناتئ، فقالت: |
- ليس هنا بالمكان الذي يسعنا، فإذا رأيت أن تتبعني فإن في القصر منتجعاً دافئاً، يقينا طراوة الليل، وندوة الغدير، وفيه متسع للتعقيب على ما فرط من حديثنا.. تعقيباً يجلو سوء الفهم، ويلطف من شدة الوطأة.
|
قالت هذا، ثم دارت على عقبها، متجهة إلى الطريق، ورأى نفسه يتبعها ويجتازان معاً الطريق الذي سلكه حتى انتهيا إلى الربوة، فأشرفا على نور قويّ يشع به القصر، وأصوات كثيرة تتجاوب في أنحاء الصالة، فعلم أن (ابن الشيخ) قد وصل، وأن القوم في انتظارهما. |
ومالت على أذنه قبل أن يبلغا باب القصر وقالت تُسِرُّ إليه في صوت خافت، تتعثر ألفاظه: |
لو كنت حادة الأعصاب، أستجيب للعاطفة أول ما تبدو لأعلنت على باب الدار قبل ولوجي خطوبتي منك، وأشهدت (ابن الشيخ) وقومه وتركتهم الليلة يحتفون بنا، ولكني أحب الأمور أن تمشي رتيبة في مدارجها من الروية والفكر، ولا أمقت شيئاً مقتي للتسرّع والهوج، وأخذ الأمور على عِلاَّتها!
|
قالت هذا.. ثم خطت إلى الباب دون أن تترك له فرصة الكلام، وبادر القوم إلى تحيّتها فكانت تصافحهم في حرارة، وتحييهم في طلاقة.. وعمدت إلى صديقها فعرفتهم به، وأحلته من المكان في الصدارة، ثم انثنت إلى زاوية من المجلس فأخذت مقعدها في إيناس وعِزّ، كأنها سليلة أحد الملوك في الصحراء، أو سيدة عظيمة من سادة القبائل في العهود الأولى. |
|