شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(9)
كانت المرة الأولى التي شهد نفسه فيها طفلاً بعد أن بلغ مبالغ الرجال.. تربت على كتفه فتاة وتدللـه، وتضع له برنامجاً يسير عليه في حدود معينة، ثم رأى نفسه ينساق في الطريق الذي أرادت، وشعر أن نفسه تتضاءل أمامه وتصغر.. ومرَّ بأطفال يعجنون من الطين أقراصاً صغيرة يجففونها في الشمس. وقد وقف فيهم غلام يشير إلى مواضع النشر بين شجيرات الورد والكادي، فراقه عبثهم وهيمنة الغلام عليهم، وبدأ يزن نفسه بمقياسهم، فلم يرَ فارقاً كبيراً بين عبثه وعبثهم.. إلاّ أنهم يهيمن عليهم شخص من لداتهم، بينما تهيمن عليه امرأة من عرض السبالة، لا يعرف من هويتها إلاّ ما تحدثت به، وتربت على كتفه كما تربت الأم على كتف طفلها الغرير!!
وانساقت رجله مع السبالة كأنه لا يعرف لنفسه وجهة معينة، وكانت الشمس ترخي ذؤابتها في ظلال منعشة صفراء على رؤوس الهضاب، وطال به الطريق، وغابت الشمس وراء البيوت الصغيرة المنتشرة على قمة جبل بعيد، فحثَّ سراه في وجهة السابلة؛ يؤانسه رغاء الإِبل المثقلة بأحمالها من السفرجل، والخوخ، ويطربه أزيز صناديق العنب الموسوقة على ظهورها، في نغمة مطّردة خافتة.
وأشرف على الطائف بإشراف ذكاء على سهولها المنبسطة فأخذ سمته إلى داره، وقضى يومه بين زوجته وأولاده. سادر الفكر، ساهم النظر، يتلقى أسئلتهم المتلاحقة في غير وعي، ولا فهم، ويجيب عن بعضها في غير تدبر ولا تحديد، واستطاع أهله بعد المشقة والإِرهاق، أن يعرفوا أنه مسح فيافي واسعة، وجبالاً شاهقة في غير ما ضالة ولا قصد، وقنعوا بما عرفوا براً بأبيهم، واحتراماً لطيبته المعروفة عندهم بالكرامة والنبل.
وقضى يومين بعدها تنتابه نوبات من الحمّى فيها ما يشبه الذهول. وكان يهذي بكلمات متقطعة، لا يستقيم لها معنى. وفي الفترات القصيرة من الأصيل، كان يعاوده نشاطه، فيتبع نفسه إلى أقرب الضواحي من الطائف، وينتحي ناحية قصية مشرفة من مسيل العقيق، يناجي فيها نفسه بمختلف الأفكار والوساوس. ولقد قال لنفسه ألف مرة: إذا لم يكن كل هذا حبًّا، فأيّ شيء آخر يكون؟! وإذا كان حباً فما معناه؟ وأنا بعل زوج، ووالد أطفال يتقاضونني من العناية والسهر ما لا يتفق مع مثل هذا العبث؟
ثم مَن هو هذا الذي أحب؟ ما هويته، وما مشربه الصحيح في الحياة؟.. إنها لا تعدو أن تكون فتاة حائرة في الحياة، شاذة على أوضاعها، ناشزة عن لدَّاتها.
إلاَمَ يمضي بي هذا الهوى الطائش؟ وإلى أي حيرة تسلمني نفسي الهائمة؟
وعاودته النوبة فعاد إلى هذيانه بها، وحنينه إلى قهوتها اللذيذة ورشاقة حديثها وطلاوته، وجمال أفكارها الناشزة، وعاوده ذكراها بما فيه من صباحة وجه، وخفة روح، فتحرَّق شوقاً إليها، وتمنَّى لو حمله البرق إلى منازلها.
وظلت وساوسه على هذا النحو تتجاذبه بين مد وجذر طيلة ثلاثة أيام كاملة، وفي اليوم الرابع كانت عزيمته قد صحَّتْ على استئناف الارتحال والعودة إلى أرض الميعاد!.. فمهد في بيته لهجرة طويلة الأمد، وغادر الطائف يسوقه شوق ملحّ، وتلهبه عاطفة مشبوبة!!
وصادفته السماء بوابل مدرار، فلم يثنهِ ذلك عن المضي، وسالت الوديان حوله تجرف معها ما تحدر إليها من التلال من أحجار وصخيرات صغيرة، وتعذَّر المرور على حوافي المروج الخضراء، لما غشيها من غثاء السيل، وأقفر الطريق إلاّ من فلاحات انتشرن بين المروج، في أيديهن ما يشبه المعاول يصلحن ما فسد من مجاري المياه، أو يَلُذْن بحائط من حيطان السواقي، أو شجرة من أشجار التين الكبيرة، يتَّقِين المطر، ويرقبن عن كثب مجاري الجداول المنحدرة إلى البساتين.
ولاذت راعية بأغنامها في كهف مرتفع بجوار أحد البساتين، وكان المطر قد زادت شدّته وتعذَّر معه السير، فلم يرَ بداً من الانزواء ولو إلى لحظة مع الأغنام، فحشر نفسه بينها، وحيَّته الراعية بإفراج الطريق له، وإزاحة إحدى مِعْزاتها لإخلاء مكان له.
وانطوى على نفسه يفكر في هذا الطيش الذي ينساق فيه، وهذه الرعونة التي لا يدري مبلغ تقديرها عند (( فكرة )) ، فهي على ما أُوتيت من ذكاء وظرف وتقدير لفهم الأشياء، لم تفطر على الرقة وحساسية العاطفة التي يمكن أن تزن بها إقدامه في سبيلها، وتكبده المشاق سعياً إليها.
وإنه لكذلك، وإذا بصوت رقيق يصافح أذنه آتياً مِن مرج قريب من بطن الوادي.. مَسَّ أُذنه فكأنما مس زِرًّا كهربائياً سرى تياره من أخمصه إلى رأْسه، في رعشة قوية انقض لها واقفاً، ولم يدرك مدى المسافة التي تفصل رأسه عن سقف الكهف، فدق عنقه دقاً عنيفاً، وهوى على الأرض مسجّى يصب الدم من جرح عميق في رأسه!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :357  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج