(6) |
كانت الشمس قد مالت إلى الاستواء، وعكست أشعتها من فوق التلال على المروج الخضراء الممتدة بامتداد الوادي، وكنت تسمع رغاء الإِبل، وهي ترزح تحت أحمالها من العنب والسفرجل، آخذة طريق الطائف إلى مكة. وكانت الفتاة عن كثب من صاحبنا ممعنة، في مسارب الجبل لا تلوي على شيء، وكان يعلم أن صُرَّتها وموئل ذخيرتها في غير ما سلكت من السبيل، فإذا استمر تصعيدها، كوتها الشمس بعيداً عن مؤونتها، وفَقَدَ بدوره فيها أنيساً يقضي يومه معها بأمتع ما تُقضى به الأيام الجميلة!!. |
وضحك في نفسه لخاطره الأخير.. ثم دار على عقبه، وعاد أدراجه إلى كهفهما بالأمس، فجمع صُرَّتها بما تحوي، واتجه في طريقه إلى الجبل مترسماً خطواتها، حتى انتهى إليها وقد مال قرص الشمس وراء الأثلات البعيدة، فابتدرته مستبشرة متهللة: |
- حيهلا بك وشكراً.
|
- وسُعدى بلقياك، طيِّبة مسرورة، بعد الذي عانيت من نفسك.
|
قالت: لنمضِ في جمع الحطب، حتى إذا شبَّت نارنا، ونضجت قهوتنا، استأنفنا ما يحلو لك من حديث.
|
ومضت ساعة كانا في نهايتها قد تبلغا ما استطاعاه مِن طعام، وبدت فناجين القهوة يعقد عليها الدخان سُحُباً شفافة. واتكأ أمامها على صخرة ناتئة يستدرجها للحديث:
|
- أتحبين؟
|
- ما تعني؟
|
- أعني كل ما في هذه الكلمة من معنى..!
|
- أحب.. أحب الليل في هدوئه الغافي، والقمر تغشاه غمامة شفافة، والأفق المترامي لا يحده البصر.. أحب الجبال الشامخة كأنها تعبر عن كبرياء صامت. والسهول المنبسطة كأنها مطرَّزة بالوشي، والجداول الضافية يترقرق فيها ماء عذب.. أحب البكور تشقشق فيه العصافير المغردة، وأحب الشمس في صحوتها تظللني من سعيرها دوحة فينانة، وأحب الأصيل تنعكس فيه الشمس أشعة ذهبية براقة، أحب كل ما هو طبيعي في الحياة لم تصقله يد محترفة، وكل ما هو صحيح لم تزينه الصناعة المبهرجة.
|
أحب الرأي مصدره المنطق السليم، والقوة مبعثها الحق، والفضيلة يصدع بها رجل بريء من الشهوة والغرض. أحب في الحياة محمداً صلى الله عليه وسلم.
|
أحبه لأن أغراضه شريفة ما التوت قط، ولأن سيرته صورة من تعاليمه، وتعاليمه بيضاء نقية لم يُكدّرها إلاّ أهواؤنا.
|
أحبه لأنه كان قوياً على نفسه، قبل أن يكون على غيره، أحبه لأنه كان صادقاً في سره كما هو في علانيته، أحبه لأنه كان عادلاً بلا ميزة لأصفى أصفيائه، ولا استثناء لأقرب أقربائه.
|
ليناً من غير ضعف.. رفيقاً دون تكسر.. فقيراً ما لانت قناته لجبار في الأرض.. غنياً ما شبع قط من طعام الدنيا.. عفًّا ما برَّ أهله بشيء من لذاذة الحياة.
|
قال، وقد اعتدل في جلسته وتوجّه إليها بوجهه: |
- أمامي إذن شاعرة تعبد الله!!
|
- هو ذاك. فأنا شاعرة بهيامي في جمال الطبيعة، متعبدة لافتناني بالمثل الكامل، في حياة محمد صلى الله عليه وسلم. فهل هذا كل ما تريد أن تقول؟
|
- إنه ما أعنيه بالضبط، ويهمني بعده أن أعرف. ألا تحبين حب أهل الدنيا، وتعبثين عبثهم؟
|
- لست نبيّة ولا ناسكة! وليس في حياتي ما يصفو من العبث، إلاّ لمحات أصفو فيها لوجداني كما يفعل كل مؤمن.. أما الحب. حب أهل الهوى.. فحب تقليدي ربما عابه كثير من السخف، وقد كنت من غواته. لأني سخيفة أحب نفسي.
|
قال: وهل الحب يبلغ من السخف القدر الذي تتصورين؟ |
- قالت: يا هذا أنت مدنف مغرم بقيادي إلى ما يشوّقك، وعلى رغم أنك تراني أجملْته.. تأبى إلاَّ أن أسهب، عساي أرضي ناحية في وجدانك!
|
- ولكنك لم تجملي شيئاً ممّا تشعرين أني معنيٌّ به من فلسفة الحب.
|
- لا بد لإيضاح الفكرة من ترتيب منطقي.. هناك الحب الصافي الذي تبرُّ به أهلك وذوي الفضل ممّن تعرف، وهناك حب الجمال في الطبيعة الذي يشوِّقك مجالها من كل لون.. وعلى غير بعيد منك الجمال المشرق في وجه فتاة كاعب يتألق الإشعاع في أهدابها الوطف!!
|
الحب في صوره الأولى معناه الجمال شائع في كل ما استأنست!!. |
والحب في شكله الأخير.. حصر الجمال في حالة بذاتها تستثنيها لنفسك وتقيِّدها بك.. فأنت غاوٍ فيما استثنيت.. ظالم لما استأثرت. |
الحب في شكله الأخير غلطة الأجيال والحقوب.. تحدرت إلينا على نحو من المغالاة، كانت القصة والوضع أهم عناصره، وتركت الغلطة أثرها في وعي الأجيال حقبة بعد أخرى، حتى استوى العهد الذي حلَّت فيه الغلطة محل الحب الطبيعي.. فنحن اليوم نحب، بمعنى أنا نضفي الجمال في حيّز ضيق، ونحب بمعنى أننا نشقى بالتوفيق بين أرواح تتنازعها مشارب مختلفة باختلاف الأهواء والأغراض ومنافع الذات. |
شكا كثيِّر من عزة، وبكى جميل من بثينة، وجن قيس بليلى في صور لا ندري كم عانى الوُضَّاع والقصصيون فيها، ولكنك تدري أنها كيَّفت الحب في جميع العصور بعدهم، وصاغته في القالب الذي شاءه الوضّاع والقصّاص لقيس وجميل وكثيّر. |
ولو كنت قصصياً بارعاً ذا خيال واسع لاستطعت أن تضع للناس قاعدة جديدة للحب في قصة محبوكة، تجعل منها مثالاً للحب في أسلوبه الجديد. |
فالحب بمعناه التقليدي -عدا أنه أنانية جامحة، وحب للذات- أرى أنه فكرة سخيفة، تحدَّرت إلينا من أجيال ممعنة في القدم، غذَّاها خيال الرواة والقصصيين. وهو بعد هذا أو قبله؛ إن شئت؛ معرَّض للذل، والنزق، والتجنّي، كما هو إقحام متكلّف للمزج بين قلبين متحابين، وفي كل منهما نزعة متأصلة للاستئثار والأنانية!
|
بربك ما معنى الشكوى بين الحبيبين؟ ثم ما معنى اللوعة والأسى والبكاء؟ ثم ما معنى الجنون أو الموت؟
|
أليس ذلك نتيجة إقحام متكلّف على غريزة شخصين!؟
|
إنه ليس أكثر من أن تقول العادة، ويقول التقليد إنهما تحابّا، أمّا غرائزهما الشخصية، ففي منأى عن ذلك بما رُكِّب فيهما من حيوانية.
|
إنهما يتحابان اليوم، وينعمان معاً بتأثر هذا المخدر الوجداني، فلا تكاد الأيام تمضي بينهما، حتى تحيطهما بهنائها.. يتخيل أحدهما فيه أنه مغبون، وللخيال شطحات إذا وجدت من يستمرئها، وبدأ الوهم يلوِّن حتى البادرة البريئة ويستكثر القليل تجنبه، فيكفهر الجو بينهما، ولا تلبث سماؤهما أن تتلبد بالغيوم.. لكلٍ كرامته، يجب أن تصان، ولكلٍ ميزته لا يجب أن يهادن في تقديرها. |
لا بد في هذا الكون من سيد ليعيش المسود، ولا بد من ضعيف لتستقيم القوة، ولا بد من النفع لتبقى الحياة في الأرض!.. هذه عناصر كونية لا معدى فيها لمرتاب، إذا تحابَّ عاشقان، أو سمت أذواقهما عن كل القواعد، أو صفت من كل المكدرات؛ فلا معدى لهما من تخطي عناصر الكون الأولى. |
لا بد لهما من سيد ومسود، ولا بد لهما من ضعف يقابل القوة، ونفع يحفظ التوازن، فكن محباً أو محبوباً لتكون سيداً قوياً نفعياً، أو مسوداً ضعيفاً مسخَّراً.. وفي الأولى ظلم؛ وفي الثانية عذاب وذل!
|
هذا في عاشقين تبادلا الحب وصفا بينهما الود.. فما ظنك بهما طرفين أحدهما في السحاب والآخر في التراب؟! إنه منقلب وصفه المحب الشاعر عندما قال:
|
وعش واحداً فالحب راحته عَناً |
وأوله سقم وآخره قتل |
|
ونسلوه في ضناه وسقمه، وقد نواسيه بعد قتله، فنترحم عليه (.. كان رقيق الحواشي.. مهذباً ظريفاً، خفيف الروح.. تسيل أعطافه عذوبة وجمالاً).
|
وننسى أنه كان مجموعة أعصاب لا يستخذي لمنطق، ولا يحتكم لعقل، وأنه رحمه الله عاش مجنوناً ومات جباناً!! |
ولو كنا -ونحن نذكر للعاشق رقته وعذوبته- لا ننسى غيرته وحقده وأنانيته الجامحة؛ لتفتحت عيوننا على تُرَّهات الحب من هذا النوع، وعافت نفوسنا ما انطوت عليه من رذائل، ولكننا عبيد العادة! وقد انساق الحب إلى وعينا الخفي انسياق آلاف الرذائل غيره.. فنحن عبيد إلى أن تستقل عقولنا، وتخلص ممّا ران عليها من خرافة.. غير آبهين بما دسّ التاريخ في دمائنا من لوثة التقاليد الزائفة!!
|
تحرر يا صديقي من التقاليد السخيفة، وعد إلى طبيعة الإنسان الأول في الحب، تجد في الآفاق الواسعة متسعاً لهناءتك، وتجد في المتعة بها اللذة الرتيبة لا تعصف بها نزعة، ولا ينازعك فيها هوى ضال جامح. |
قالت هذا، وأسندت رأسها إلى الأرض ثم تركت جسمها الرخو يتهالك على نفسه، وأطبقت عينيها وفمها واستسلمت لصمت عميق كأنها تستجم من وكد واصب مرهق. |
|