شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(8)
في مدخل ((فيلا)) محمود الخليلي، التي تبدو مثل قصر منيف من الخارج، ومثل متحف ثمين المحتويات من الداخل.. يمتد بهو طويل، في منتهاه غرفة مربعة، متوسطة الأثاث.. حملوا إليها الحقيبة الصغيرة التي جاءت بها ((ليال))، ودلّتها إليها خادمة فلبينية، تلبس فستاناً أثمن من الذي تلبسه ((ليال))، وقالت لها بلغة عربية عجمى:
- أنت تنام هنا.. غرفة إنت!
كانت الساعة قد شارفت على منتصف الليل.
الليلة الأولى في بيت أبيها.. وقد حلمت بها طويلاً، وتخيّلت أنها في هذه الليلة بالذات سيسامرها والدها وسيأخذها في حضنه، ويهدهدها!!
بعد خروج ((خالها)).. قال لها والدها:
- عن إذنك يا ((ليال)) عندي شغل سأنهيه في مكتبي، سأعود لتناول العشاء، البيت بيتك!
وفي أعقاب استئذان والدها.. تفرّقت العائلة، وبقيت معها أختها ((دلال)).
وجدت في أختها سلوكاً مختلفاً عن بقية العائلة..
تجاوبت معها.. وأخذت تسألها عن دراستها، وحياتها.
ألفت ((دلال)) شيئاً من الارتياح في نفسية أختها.. برغم نظرات أمها لها، بين فترة وأخرى، حينما تعود إلى الصالون، وتنظر إلى ابنتها شذرا.
ولكن ((ليال)) عانت في الساعات الأولى من غربة أليمة.. شعرت أنها في فلاة تشيع الصهد، والوحدة، والخوف.
حاولت أن تتجاوز بعض النظرات، وبعض الكلمات اللامزة.
سكنها إصرار على الاقتراب من أعماق والدها، مهما كانت النتيجة.. ولا بدّ أن تثبّت، وترسّخ أقدامها.
وحين عاد والدها.. رماها بنفس الابتسامة الباهتة.. ولكنه قال لها وهو يرى ((دلال)) تلتصق بها:
- ها.. ما شاء الله، أنت ودلال، صرتم أصدقاء!
- قالت له: وأطمع في صداقتك يا أبي!
لم يرد عليها.. وذهب يستبدل ملابسه، ليعودوا جميعاً، ويلتئموا حول مائدة العشاء.
وكانت أول ملاحظة، اقتنصتها عن أبيها!
رأته -قبل العشاء وبعده- يسكب شراباً أصفر في كأس، نصفه ثلج!!
وانفض الجمع.. ووجدت ((ليال)) نفسها في تلك الغرفة المربعة وحيدة، في أصداء شجونها، وحيرتها.. يلفها صمت المكان، وصمت مشاعر سكان المكان.
أخرجت من حقيبتها كراسة مذكراتها.. وابتدأت كتابة هذا الفصل الجديد، الغريب، المثير.. بكل انفعالاتها، ومشاهداتها، وانطباعاتها:
- ((أخيراً.. التقيت بهذا الرجل الذي اسمه ((أبي))، واسمه الكبير في سوق المال والثروة ((محمود الخليلي))!
إنّ هذا الرجل، هو تاريخي الذي انطلقت منه.. بكل أسف!
أقول.. بكل أسف.. لأنه مخلوق متبلّد الحس حتى مع أهله وأولاده!
ولعلّني أستغرب من وصفي هذا ((لأبي))، قبل أن ترتسم الدهشة على أي وجه يسمع مني هذا الوصف، أو يقرأه.
هو الذي اضطرني إلى نعته بهذه الخلاصة!
ولكن.. لا أريد أن أستبق الأحداث، أريد أن أرى ماذا سيحدث في الغد))!
وأطبقت الكراسة.. ونامت!
* * *
في اليوم الثاني.. طرقت ((دلال)) باب غرفة ((ليال)).
- قالت لها: تعالي الليلة لتنامي معي في غرفتي..
أثارتها عبارة أختها، فسألتها:
- لماذا؟!
- قالت دلال: أنتِ أختي، وأريد أن تعرف كل واحدة منا الأخرى!
- سألتها ليال: هل تجيبين على سؤالي بصراحة؟!
- قالت دلال: نعم.. أنا صريحة جداً.
- قالت ليال: هل تحبينني يا دلال.. هل شعرت بحبّك لي؟!
- قالت دلال: أنت أختي.. لا بدّ أن أحبك.
- قالت ليال: لكن أمك لا تحبني.
أصرّت ((دلال)) أن تأخذ أختها معها إلى غرفتها، وسارعت بحمل حقيبتها.
احتضنتها ((ليال)) والدموع في عينيها، قائلة:
- أعدت لي الثقة بالحب.
في المساء.. فوجئت ((ليال)) بدعوة أبيها لها أن تجلس معه في الصالون وحدهما، ليتكلما.
فرحت كثيراً بهذه المبادرة التي تدل على التغيير في معاملة والدها لها.
ورأت أمامه نفس الكأس.. يصب فيها كلما فرغت، وهي تتأمله، وتلاحظ تبدل والدها، وتبسطه في الحوار.. ثم تسمعه يضحك ويقهقه معها!
بدأ يعاملها كصديقة له.. ولكنّها تخوّفت منه!!
وعرفت أنه مخمور.. وحين يبلغ الكأس الثالثة، يبدأ في البوح لها.
وفي هذه الليلة الثانية.. لم يتركها إلاّ وهو يترنّح، ويتطوّح.. بعد أن جاءت زوجته تنهره، قائلة:
- قم إلى غرفتك.. كفاية هذا الهباب، فضحتنا!!
وعادت ((ليال)) إلى غرفة أختها، لتجدها تغط في نومها.
وتناولت كراسة مذكراتها.. وأخذت تكتب عن الليلة الثانية:
- ((هذه الليلة.. لم أجد أبي، كان أمامي رجل آخر، مخمور، مدمن على الشرب، يقهقه كمجنون، ويتفوه بكلمات لا يقولها رجل لحبيبته، ولا عشيقته.
الليلة.. جلس يصور لي -بعاطفة متدفقة- كل ما عاناه من بعدي عنه، وهجرانه لي. قال لي وهو ثمل جداً:
- أنت قطعة من قلبي. لا.. أنتِ قلبي كله، وأنا أحبّك كثيراً جداً!
- قلت له: يكفي يا أبي.. من أجلي، ومن أجل ولديك وابنتك الأخرى، أرجوك لا تشرب، إنك تدمر نفسك.
- قال وهو يهم بالبكاء: دعيني.. أريد أن أنبسط!
- قلت له: وماذا يزعجك؟!.. أنت مبسوط، لديك المال، والثروة، والأولاد، والبيت المستقر.. فماذا تريد؟!
- قال: لا أدري.. هناك شيء ضائع مني، أبحث عنه، ربما كنتِ أنتِ ذلك الشيء!
- قلت: أنا معك، وأنت أبي، ولو أردتني معك على طول، فأنت خيمتي، وحبي الكبير، وعمري!!)).
* * *
في الصباح.. وجدت والدها يتناول إفطاره، فأقبلت عليه تقبّله.
فوجئت به يعبس في وجهها، ويخاطبها من فوق أنفه!
- ترى.. ما الذي ارتكبته؟!
لم تسأله، وإنما حاورت نفسها، ولم تهتد إلى إجابة تفسّر هذا اللغز!
ولكنها عرفت في تعاقب الأيام التي عاشتها في بيت أبيها.. أنه حينما يفيق من سكره، كأنه لا يعرفها، ويعاملها كغريبة.. ولا يشعرها بأنها وسطهم حتى مجرّد ضيفة!!
أصيبت بخيبة أمل.. وعاودها الندم على مجيئها، وخايلتها اللحظات الأولى لاستقبال أبيها لها.
تحوّل حبها له إلى احتقار، واشمئزاز من رائحته التي يفوح الخمر منها كل ليلة.. ومن أفكاره الغريبة.. ومن سلوكه المتناقض.
وبعد تناول الغذاء.. اقتربت من أبيها بوجهه الصخري، والمتجهّم، وقالت له:
- إني أستأذنك يا أبي في الاتصال بخالي، لكي نسافر!
- قال لها: خالك سافر في اليوم التالي.. لأنني أخبرته أنك ستبقين عندنا شهراً، وأنا سأتولى أمر سفرك في حينه.
- قالت: ولكن يا أبي..
- قاطعها: خلاص.. أختك ((دلال)) تريدك أياماً أخرى.
وتعلّقت ((دلال)) بعنقها، وقبّلتها.
فاجأتها قبلة ((دلال)).. فاحتضنتها، وانسابت الدموع من عينيها!
وفي غرفة ((دلال)) سألتها:
- لماذا تريدين أن تسافري ((يا أبلا))؟!
- قالت: أولاً.. من فضلك، قولي لي: يا أختي!
ثانياً: هناك ((جَدَّتي)) عجوز، وعاجزة، واشتقت إليها، فهي التي ربّتني.
- قالت ليال: سترينها.. سأقنع بابا في ما بعد.
- قالت دلال: بابا يسافر دائماً، ويتركنا وحدنا. فقط.. مرّة في السنة يأخذنا إلى أوروبا، أو أمريكا.. طوال العطلة المدرسية!
- سألتها ليال: أنت الآن عروس في الخامسة عشرة، اجتهدي وادرسي، لتحصلي على الشهادة، وتتزوّجي، وتسافري مع زوجك إلى أي مكان تحبينه!
أجهشت ((دلال)) بالبكاء.. حتى أفزعت ((ليال))، واضطربت تسألها:
- ما بك.. لماذا تبكين؟
- قالت: أخاف على أبي من الموت.. إنه يشرب كثيراً ويسافر كثيراً.
ولم تنم ((ليال)) ليلتها تلك..
لم تكن تفكّر في أحزانها، وغربتها.. بقدر ما كانت تفكر -خوفاً- في حياة أختها الصغيرة المراهقة هذه.
خافت عليها من كسر القيود، عندما تثور على هذا الوضع.. وعندما تصل قناعاتها إلى ما وصلت إليه ((ليال)) من احتقار لأبيها.
ها هو ((رجل)) يضيع بالخمر، وبالسفر، وبالنساء!
وانقضى نصف شهر على معايشتها لهذا الواقع المؤلم، والتعيس.
اتصلت بخالها هاتفياً، وطلبت منه أن يحادث والدها بضرورة عودتها، لأن ((جدتها)) مريضة جداً، وتلح في رؤيتها!
وتشبّثت بها أختها ((دلال)).. حتى انتزعوها من أحضانها في لحظة الوداع الأخيرة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :452  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 130 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالله بلخير

[شاعر الأصالة.. والملاحم العربية والإسلامية: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج