-24- |
صديقي: |
أتمنى لك المجد. |
إذا ادَّعيت لك أن الحب أنانية سخيفة جامحة لا ترعى الرأفة، ولا تعرف النِّصفة.. فلا تحمل دعواي محمل من يُلقي القول على عواهنه، فقد علَّمتني التجارب من فنونه ما لا يوفيه الحصر، ليتك تدري أن ((هبوب)) الجمال المترقرق، واللطف الفاتن، ينطوي على قسوة عاتية، وجبروت دونه جبروت الظالمين والطاغين. |
كنت ختمت خطابي إليك أمس، وأودعته اليد التي تتعهد رسائلي، ثم التفتُّ لأقابل الشيخ ((طبطاب))، وهو عفريت من أصدقائي الخلَّص كان قد لاحظ نجوتي بهبوب على كتف الكثيب الرملي، فابتدر يهنئني بهذه النجوة الحالمة في ابتسامة عريضة، وسحنة تتراقص على محيّاها مئات المعاني والرموز. |
قلت: ((يا طبطاب أأكلفك كثيراً إذا تمنيت عليك حملي على أكتافك في أعقاب ((هبوب)) فإن في نفسي أن أحملها على الدهشة من قدرتي على ملاحقتها وراء العدوة القصوى، وأن أتندر على حساب ذلك ما وسعني التندر والضحك)). |
وحملني العفريت فطوى بي ما بين الجبال والقلاع من قفار متشعبة، وشعاب قفرة، ثم وقف بي في غمزة الفرس على حافة القاع من ناحيته القصوى في بطن الوادي، وتمنيت عليه أن يستميل إلى صخرة تتسع لإخفائي وراءها لأنادي باسمها من مكان لا تراني فيه تندراً عليها.. لكنني ما كدت أفعل حتى سمعت صوتها يوافيني في صورة استحال فيها مرحي إلى اكتئاب، وتندري إلى غصة أليمة. |
لا يستبيح جماعة الجن في هذا الوادي لأنفسهم أن يكونوا أداة للتجسس فتلك خلال يحتقرونها حقارتهم لكل الخلال الرذيلة، ولكنها كانت لوناً من ألوان المزاح البريء أبت الصدفة إلاَّ أن تستخدمها في أسوأ ما تستخدم الجاسوسية المحتالة. |
وأتاني صوتها كأزيز قطعة من الماس في مرورها على صفحة الزجاج لتقطعها؛ وسمعتها تخاطب صديقتها وهي تعنيني: ((.. إنه من عالم الإنس)) وإني غرمت به، وفتنني حبه، ففكرت في استصفائه لنفسي.. فلم أجد أيسر من أن أستهويه بحذق، وأستميله بأشكال الرؤى الخداعة البراقة لها ألوان الحسان بردائهن وجاذبيتهن الفاتنة حتى هوى، واستسلم لأحلامه الواهمة في مهاوي الوديان وشعابها، ثم تركته يندمج في عالمنا وتتكشف له عوالمه المجهولة وتدرج به الأيام فينسى موطنه ويفتتن في عالمه الجديد، ويهنأ بعشرة قبيلنا فيه، ويسعد بما أعجبه من مبادئهم في الحياة.. استهويته بهذا الأسلوب وتركته إلى اليوم لا يشعر بأثري فيه.. واقتضاني الفصل الأخير من الرواية أن أتعرض له كعفريت يجهل شأنه لأرى موقع جمالي من نفسه ومكاني من فتنته. |
ودمدمت العجوز بمثل هزيم الرعود تسألها عن مدى ما انتهى إليه نجاحها فيما رشحت فيه نفسها، وسمعتها تجيب: إني بعد مغازلات تمنى فيها المسكين أن يرضيني فيها ما وسعت المغازلة أمثل اليوم دور المرغوب وأترك الأيام تتولّى إعداد النتائج في تؤدة المطمئن الواثق. |
أترى يا صديقي هذه الخلال في قبيل أزكّي خصاله، وأحمد مبادئه، وأشيد بسمو صفاته؟ |
أترى أية أنانية يتردى فيها المحبون بدافع من هواهم، وأي مركب قاس يركبونه تحت ضغط جبروته الظالم، وأحكامه العاتية. |
كدت أكفر بكل ما أسرني من خصال القبيل على إطلاقه.. لولا أني لا أجيز لنفسي الحكم على جمهور بتصرفات آحاد من أفرادهم خصوصاً وأنا أعلم ما في لوثة الحب من شذوذ، وما في شذوذه من ضغط لا يقوى على أساره إلاَّ واحد في كل مليون. |
وبعد فهل لديك ما أسمعه في هذا أو تشير به؟ |
أما أنا فلا أكذبك أنني: |
بت أشكو وأشكر فعله |
فأعجب لشاك منه شاكر |
|
لكنك سوف لا ترى محلاً للعجب، فالحب الذي أغراها بفتنتي واستمالتي هو الحب الذي أسأل الله فيه الرحمة بكل الممرورين، والمجانين، وعبيد أشجانهم وعواطفهم.. وهو الحب الذي يجب أن أقدره لها بكل جوارحي، وأنسى في سبيله كل ما عانت من حيل لتقربني إليها، وتدنيني منها. |
وأخيراً.. لا أرى لنفسي خيراً من أن أصارحها بما علمت، وأن أساومها عليه كمصلحة تتبادل منافعها على أسس ثابتة تتفق مع مبادئي التي كانت تنكرها وتجدِّف عليها حتى إذا ما انتهينا كطرفين متعادلين إلى ما يضمن النتائج فإني لا أرى شخصياً ما يمنعني من طلب يدها والعيش إلى جوارها سعيداً برقتها الجانية وجمالها الناطق في أهدابها الناعسة، وخدها الأسيل، وجبينها الشارق بالفتنة. |
|