-48- |
حدّثني الأستاذ عبد الله خوجه فيما حدثني من قصصه المضحكة الرائعة التي لا أعرف مصدر روايتها فقال: |
ذكروا أن قروياً أتم دراسته في المدينة، وتسلّم الشهادة التي عاش يتمنى الحصول عليها، فبيّت العزم على ترك المدينة لينشر علمه بين مواطنيه.. ولكن أستاذه كان لا يرى التعجيل بالعودة حتى يستكمل فهم الحياة ودراستها إلى جانب ما تحصل له من علوم الكتب. |
ولم يقتنع القروي برأي أستاذه، واستهجن أن يعترف بحاجته إلى جديد بعد أن أضحى العالم الفهّامة، فشد رحاله إلى قريته في غفلة من أستاذه. |
فلما كان في بعض الطريق أدركه وقت صلاة الجمعة، فدخل إحدى القرى ليؤديها في مسجدها، فاستمع في المسجد إلى الخطيب يلحن في قواعد اللغة، ولا يحسن قراءة الآيات. فثارت ثائرته، واهتاج غضبه، ووقف في حماس يغلظ القول للخطيب، ويعلن جهله بين المصلين في فظاظة قاسية. |
وترك الخطيب له مجال القول حتى أخذ منه الإرهاق مأخذه، وشرع الضعف ينتاب صوته.. وعندئذٍ استطاع الخطيب أن يتوجه إلى المصلين في تؤدة الرجل المدرب ليؤكد لهم أن هذه الثورة من أخلاق الكفار الذين يهاجمون الإسلام في أشخاص علمائهم وخطباء مساجدهم، وأن عليهم أن يتقربوا إلى الله بضرب هذا الرجل وإبعاده عن المسجد، فهاج المصلون غاضبين لدينهم، منتصرين لشيخهم. ولم يتركوا علامتنا الفهامة حتى أثخنوه جراحاً، وأوجعوه ضرباً، ثم سحبوه إلى خارج المسجد في أشنع صورة يمكن وصفها. |
وعندما أفاق ممّا غشيه، واستطاع أن يتحامل على نفسه.. ندم على تهوّره، وتمنى لو كانت له حكمة خطيب المسجد ودربته على اكتساب المواقف، وعندئذ أدرك أن علمه الواسع لا يصلح أن يكون كل شيء في مواقف الحرج، وذكر نصيحة أستاذه في المدينة، فأسف على غفلته عن دراسة الحياة كما أوصاه. |
فعوّل على أن يستأنف العودة إلى أستاذه القديم، علّه يستطيع أن ينتفع من مواهبه في فن الحياة. |
وقضى عاماً في المدينة لا شغل له إلاَّ أن يدرس الحياة كما يشرحها أستاذه، حتى إذا استوفى نصيبه من ذلك، وأذن له أستاذه بالرحيل، غادر المدينة في طريقه الذي عاد منه. |
وتفتق ذهنه عن حيلة يتنكر فيها بغير الزي الذي عرفه به أهل القرية -الذين تنكروا لنقده قبل اليوم، ليصادفهم في يوم جمع، ويستطيع أن يواجه خطيبهم بغير الأسلوب الذي واجهه به من قبل!! |
وبذلك انضم إلى جمهور المصلين في المسجد، حتى إذا فرغ الشيخ من خطبته، وقف في مكانه بعيداً عن المنبر يعلن سروره بهذا التوفيق الذي تجلى في خطبة الشيخ، ويبشر الجمهور بأنه أغفى إغفاءة قصيرة أثناء الخطبة، رأى فيها أحد الملائكة يشير إلى الخطيب، ويؤكد أنه من أهل الجنة.. وأن من ملك شعرة واحدة من جسمه كانت كافية لحاملها أن يجوز بها إلى الجنة!! |
ثم بكى ورجا الشيخ أن يمنحه شعرة واحدة من لحيته يجوز بها إلى الجنة، فلم يبخل الشيخ، وقطع شعرة من لحيته سلّمها إليه ممنوناً، فتسارع المصلون إلى الشيخ كل يرجو لنفسه شعرة، فاستطاع الشيخ أن يقطع شعرة بعد أخرى ليهديها إلى الطالبين، ولكنه لم يستطع أن يستمر في قطع الشعر فبدأ يعتذر إليهم. إلاَّ أن طلاب الجنة لا يرضيهم الاعتذار، فتكالبوا عليه، وهجموا على لحيته، ينتفون شعرها بين أنين الشيخ وصرخاته، ولم يتركوه حتى استحالت لحيته إلى لحمة حمراء تنزف الدماء. |
وحمل الشيخ إلى بيته في حال يبعث على الرثاء، ولكن المصلّين لم يظفروا جميعهم بأمنيتهم من شعره، فلحقوا به إلى بيته يرجون أهله شعرة من ساقه، أو إبطه، أو ممّا يتيسر من جسده.. وتسامع السكان في القرية من غير المصلين، فأصبح بيته محجة طالبي الشعر (جوازات الجنة) وأمسى جسمه عرضة للضعف والمرض!! |
واستطاع بطلنا أن يغتنم فرصة مرض الشيخ فيجتمع برواد المسجد، وفيهم من طلبة الشيخ عدد كبير، وشرع يقرأ لهم، ويعلم بعضهم قواعد اللغة العربية حتى استقامت لغتهم. |
ثم ما لبث أن تطرق إلى بعض الكلمات التي كان شيخ المسجد ينطقها ملحونة.. كان يستعرضها في هدوء الباحث ويحاولهم ليناقشوا في ضوء ما تعلموا مواقع الصواب والخطأ فيها، حتى إذا استبان لهم مبلغ جهل الشيخ تركهم يستجرون دهشتهم في أفواه فاغرة وعيون زائغة. |
وشاعت أخبار جهل الشيخ في القرية، فلم يتماثل إلى الشفاء من مرضه حتى كان قد فقد ثقة القرية في علمه، وتجرد أمام أهليها من ألوان الزور التي كان يتجمل بها. |
إنها قصة لا أعتقد أنها تعدو الواقع في شيء، ولكن معانيها تمثل جزءاً له قيمته بين وقائع الحياة!! |
وأروع ما يعجبني في القصة محنة الغرور التي يبلى بها كل ناشىء أكمل دراسته وشرع يضع خطواته الأولى في مدرسة الحياة!! |
إنه لا يستطيع أن يتخيل أن علومه في الكتب لا تعني كل الحياة التي يعيشها، وأنه ليس فيها ما يهيىء لملاقاة جميع أحداثها. |
إنه لا يستطيع أن يتخيل أن جهوده في المدرسة، والمعهد، والجامعة ليست عتاداً كافياً لمواجهة الحياة حتى يضيف إليها دروساً جديدة يستخلصها من وقائع الحياة. |
ولقد بلينا في فتوتنا بمثل هذا الغرور فتعرضت مقدراتنا لأحداث كنا في غنى عن لأوائها لو جانبنا كبرياءنا على الحياة، واعترفنا بحاجتنا إلى دروسها!! |
|