شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يوم كنا نجامل الغبي
كنتُ في حديث مع أحد المتخرِّجين من حملة الشهادات العالية.. فساقنا البحث إلى ذكر منصبه الذي يتمتع براتبه الضخم، فسمعته يُثني على هِمَّة كبير من رجالنا المعروفين بالشهامة، ويُقدِّر فيه ما بذل من جهد لمعونته في الظفر بهذه المرتبة.
ولعلّه كان ينتظر أن يرى أثر حديثه على صفحة وجهي.. فرأى جموداً لا ينطق بمعنى، وصمتاً لا يُعبِّر بحرف. فهاله الموقف السلبي، وأبى إلاّ أن يسمع تعليقي في الموضوع.
قلتُ ليس لي ما أعلّق به على صاحب الفضل في مساعدتك.. خصوصاً وأنا أعلم أن شهامته تتَّسع لأي شخص قصده غيرك، فهو عظيم من غير شك في أخلاقه، كما هو عظيم في وجاهته.. وهو الرجل الذي لا يبخل بمركزه على محتاج، ولا يضنُّ بجهده على قاصد، ولكنني أنعى بهذه المناسبة حياة المحرومين الذين لا تجمعهم بأمثال هذا العظيم جامعة، ولا يعرفون من حقيقته ما يُجرئهم على أن يقصدوه!!
أنعى حياتهم لأن المؤهّلات التي حسبوها ترشِّح للمناصب العالية، كان ينقصها في بعض الأحيان وساطة أمثال هذا الشهم، والاستعانة بوجاهته!!
ما أحوجنا في هذه الفترة الناهضة من حياتنا إلى أن ننقّي تقاليدنا من هذا اللون، وأن نعترف للكفاءات بحقوقها المكتسبة، وأن نسمو بأخلاقنا فوق جميع الاعتبارات.. التي لا تشرِّف شعباً يتحفز للحياة الصحيحة.
يجب ألاّ نحرم الشاب نصيبه من الجهود التي يُبذلها ليستكمل عِدَّته في الحياة، ولا نتركه يكفر بنتائج الكفاح، أو يعتقد أن نجاحه مرهون بيد تمهّد له طريقه في الحياة وتهيِّئ له وسائل الظفر فيها.
إن شيوع مثل هذا اللون في الأمة دليل ناطق على عدم استكمالها شروط الرقي، وهو إلى جانب ذلك يُشير إلى معاني الضعف في مقوِّماتها الحيوية.
دعونا نتسلَّح بالأخلاق المتينة التي تقوى على مواجهة الحقائق في ثبات وصراحة.. لا تشوبهما مواربة ولا تُفسدهما مجاملة.. فحسبنا ما عانينا من الآداب الزائفة طوال قرون قضيناها في مؤخرة الصفوف. لا يؤبه لأمرنا ولا تُقوَّم بين الشعوب بوزن.
قالوا إن هتلر عندما صنَّف الأمم في مؤلَّفه (كفاحي)، جعل كثيراً من شعوب الشرق الأوسط لا تستأهل أكثر من المرتبة الثالثة عشرة بين مراتب الأمم.. وكانوا حسبوه قد تجنّى فيما صنَّف.. ولو كنا نملك من متانة الأخلاق ما يُثبتنا أمام الحقائق ويُشجعنا على مواجهتها بصراحة لما ساءتنا جرأته، ولاستطعنا أن نضع يدنا في يده مؤمِّنين على ما يقول مؤيّدين ما يدَّعي!!
أكنا -نحن مجموعة شعوب الشرق الأوسط أو أكثريتنا إذا شئنا التحديد- نستأهل أن نرقى إلى أكثر من المرتبة التي ادَّعاها هتلر؟
دعونا نُحاسب أنفسنا ونجرؤ على الكلمة الصادقة فيما له علاقة بحقيقتنا لنعرف إلى أي مدى كنا متقهقرين في ميادين الحياة، وإلى أي حد كانت تهبط معلوماتنا بمقوِّمات الرقي من نواحيها الأخلاقية والاجتماعية والعلمية.
إننا لا نريد أن نتشاءم بعد أن خطونا خطوتنا الأولى. بل ولا نريد أن ننكر أننا اليوم في موقف المتوثِّب الذي يتحفَّز للحركة في أقوى معانيها. ولكننا نريد أن نقول إن فيما ورثناه من تقاليد أخلاقية، وقيم اجتماعية رواسب خليقة بالعناية والبحث، جديرة بالعلاج الحاسم الذي يستأصل الجراثيم من مَواطنها فيه، ويُطهِّرها بأقوى أنواع المطهِّرات النفَّاذة.
ليس بعيداً ذلك العصر الذي كنا نتبادل فيه الأدب الكاذب في جميع مناسباتنا.. ليس بعيداً ذلك العهد الذي كنا نُصانع فيه السخيف ونُسمّي آراءه سديدة، ونُجامل الغبي فنصفه بالذكاء، والجاهل فنصفه بألقاب العلم، والظالم فنضفي عليه مزايا لا تُقوَّم بفضل، ولا تُقاس بشمائل.
كنا نجري في ذلك على سنن من أراد أن يُربِّينا هذه التربية ليستفيد من ضعف أخلاقنا لسياسته، ويربح من هواننا لكبريائه.
أمّا اليوم وقد انبثق فجر الحياة في ربوع الشرق.. فأي معنى لبقاء أمثال هذه الرواسب في دمائنا؟
دعونا نعرّضها لوهج الشمس الضاحية لنُبيدها، ونقضِ على جراثيمها، ونتمتَّع بعدها بدم طاهر نقي لا تلوِّثه الشوائب.
دعونا نستشعر القوة، ونعتمدها كأساس في حياتنا العامة.. لا نتخاذل أمام الحق، ولا نهن في مواقف الصدق، ولا نضعف إذا دعانا داعي القوة.
إذا أشعرنا أنفسنا هذا القدر من المزايا الحية استطعنا أن يواجه بعضنا بعضاً بحقائقنا، وأن نتبادل الصدق في جميع ما نتعامل، وأن نجرؤ على الصراحة في أدق المواقف المحرجة..
استطعنا أن نفي صاحب الحق حقه.. فلا نُهين الضعيف، أو نستغل عجزه، ولا نُجامل القوي أو نُداهن مركزه.
تلك خِلال الأمم التي صدقت نواياها للعمل المنتج في الحياة، ووطَّدت العزم على بلوغ أهدافها البعيدة فيها فإذا راق لنا أن نتابعها..
فدعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :365  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.