ما أعجلك يا رجل..! |
دعونا نمشِ في نشاط وقوة، فقد انبلج الصبح، وأوشكت الشمس أن تغمرنا من الحدود إلى الحدود، وتكوي مضاجع المتراخين منا. |
كنتُ في نقاش لي من يومين مع بعض أصحابي، فجاء ذكر الناهضين من أمم الحياة، وطفقنا نقارن بين تواكلنا ونشاطهم حتى استطرد الحديث بنا إلى ذوي العاهات والعاجزين. |
إنهم هناك لا يعترفون للعاجزين بعجزهم، ولا للناقصين والمكسورين بما نالهم. لا لأن لكل علة عندهم علاجاً فقط.. بل لأن لكل ناقص لديهم محاولة يستطيع أن يعوِّض بها ما ناله من نقص!! |
إن الأعمى لديهم لا يعدم وسيلة للتعليم، والتعليم الكافي.. فلديهم مدارس خاصة بالعميان تلقِّنهم كثيراً مما يتلقى المبصرون من فنون وعلوم، علاوة على كونهم قد استحدثوا لهم طريقة يكتبون بها، ويقرأون بحروف بارزة، فلا يفوت الأعمى أكثر ما يناله المبصر. بل إن كثيراً من العميان ظفروا من النبوغ والشهرة بما يحسدهم عليه المبصرون. |
واحتالوا للصم والبكم فاختاروا لهم أساليب يتلقَّنون بها معاني الحروف، ويفهمون الكلمات والجمل، فتمَّت لهم القراءة المستقيمة، أو ما يشبه المستقيمة.. حتى إذا انتهوا بهم إلى الحد الذي استطاعوا أن ينتهوا بهم إليه نقلوهم إلى صناعة تتَّفِق مع استعدادهم، ولا تبخل عليهم بالكسب الوفير الذي يغنيهم، ويسمو بهم عن أن يكونوا عالة على ذويهم أو أقاربهم. |
وفعلوا مثل هذا في الأبتر والأقطع والأعرج، فساعدوا كل نوع بما يتفق وعلته، واخترعوا لكل ذي عاهة ما يُصلحه ويُعينه على مسايرة الناس في الحياة ويقوِّيه على العمل المنتج في كثير من ميادين الربح. |
فماذا فعلنا لأصحاب العاهات عندنا؟ ماذا فعلنا للأعمى والأعرج والأبتر والأقطع والأصم والأبكم؟ هل تبرَّع أحد أغنيائنا فانتدب مَن يدرِّس الطرق المتَّبعة في العالم المتمدِّن لمساعدة سائر المنكوبين بعاهاتهم، وشرع ينشئ على حسابه الخاص، أو حساب زملائه من المحسنين بيوتاً تؤوي هذه الطوائف وتعلِّمهم وتدرّبهم على الأعمال التي تُغنيهم عن استجداء الناس؟ |
إن أقصى ما نفعله للأعمى أن نحاول تحفيظه بعض آيات القرآن، وندرِّبه على استعمالها كأداة للتكسُّب في أسلوب لا يتفق مع جلال القرآن، وطريق لا تليق برجل يريد أن يحترم نفسه بين معارفه ولداته. |
أما الأعرج، وأمّا الأقطع والأبتر، وأمّا الأصم والأبكم، فقد تركناهم جميعاً لتصاريف الأيام، توجِّههم أحداثها حيثما شاءت وكيف شاءت. |
حرام علينا أن نترك ضِعافنا لأحداث الأيام تصرفهم فيما تشاء، ونراهم يألمون لحرمانهم من الحركة النافعة في الحياة فلا نصيخ لآلامهم ولا يبدو علينا أي أثر يدل على عنايتنا بشأنهم كإخوان وشركاء لنا في هذا الوطن. إننا نفخر بكوننا مسلمين، ولكن جمودنا في مثل هذه المواقف لا يعطي عنا فكرة طيبة إذا قيس بدأب غير المسلمين على عون الضعفاء من أمثال هؤلاء وحرصهم على مساعدتهم وتشجيعهم. |
إن المتقدِّمين في جميع العالم المتمدِّنين يشعرون بأن أصحاب العاهات لديهم أعضاء في مجموع الوطن، وهم من أجل هذا لا يسمحون لهذه الأعضاء أن تظل مشلولة لا يُستفاد منها لصالح البلاد، وإنهم إلى جانب هذا يرون أن العناية بكل ضعيف عندهم إنسانية يسمو إليها كل مهذَّب، دقيق الإحساس.. فماذا نقول في شأننا؟ |
أنقول إننا غير تقدُّميين، وإننا من أجل هذا لا نُبالي لأوطاننا أفقدت هذه الأعضاء المشلولة أم لم تفقدها؟ |
أم نقول إن إنسانيتنا لم ترتفع بعد إلى الدرجة التي يجب أن يرتفع إليها كل حساس مهذب؟ |
إننا نُجلُّ أنفسنا عن كل هذا.. لأننا نعلم أن وطنيَّتنا لا تقل عن وطنياتهم، وأن شعورنا بإنسانيتنا لا يقل بحال عن شعورهم ولكن وعينا العام لم يستوفِ إلى اليوم نجاحه الكامل. |
كنتُ قبل اليوم أمرُّ في طريقي بأحد العميان وقد اتَّخذ له ما يشبه الدكانة الصغيرة، جمع إليها أنواعاً من المسلِّيات، فيها الحمص، واللوز، والفستق، والفشار، وأنواعاً أخرى مثلها.. فكان يتسلم نقود الشارين ويغرف بيده في الميزان من الصنف المطلوب الذي يعرف مكانه لطول ما تمرَّن، ثم يرفع ميزانه فيجيد الوزن كما يجيد الحساب، وقد قيل لي إنه يربح من دكانه مبالغ طيبة يُنفق منها بسِعة، فكنت أُكبِر فيه هذه الحيوية التي أبت عليه أن يستسلم للضعف الذي استسلم له كثير من أصحاب العاهات وذويهم وأقربائهم. |
وكنت أعرف رجلاً آخر يسلق البليلة، واللوبيا، ويجعلهما في إنائين إلى جانب الخل وبعض المواد الحرِّيفة. التي تروّج تلك الأصناف بين مشتريها من الأطفال، وكنت لا أمرُّ به حتى أجد الزحام حوله من الصِّبية المتكالبين على بضاعته. وقد علمت فيما بعد أنه حاذق فيما يصنعه حذقه في عدِّ الدراهم وفرزها، وأن ربحه مما يبيع على ضآلته لا يقل عن ربح حاذق من المبصرين. |
هذه حيوية لا غبار عليها. وهي إن كانت محاولة ضئيلة بنسبة محاولات أصحاب العاهات عندهم، ولكنها على عمومها إذا قيست بإهمالنا الفاضح لبقية أصحاب العاهات منّا عُدَّت مَكرُمة تستحق التقدير. |
دعونا نتوسع في إصلاح ما أفسدته الأمراض، ونتابع غيرنا فنهيِّئ من هذه الأعضاء المشلولة شيئاً نافعاً في حقل الوطن، وبذلك لا نُحسن إلى بلادنا فقط، بل نُحسن بجانب ذلك إلى معنوية هؤلاء المرضى ونبثُّ فيهم من الروح المعنوية ما يُعينهم في حياتهم ويساعدهم. |
كما نُحسن بذلك إلى سمعتنا كأمة يقظة في نظر الأجنبي الذي يرتاد بلادنا، ويتلمَّس في جوانبها مظاهر الحياة الحيّة ودلائل الرُّقي. |
كما نُثبت بذلك رقة أحاسيسنا، وشعورنا الرفيع بمعاني الإنسانية. بما في الإنسانية من كرم وعطف وحب للخير. |
ولا تكلفنا العناية بهؤلاء المرضى شيئاً مستحيلاً، فالمعروف أن الأبكم لا يعجزه العمل في أي حقل من حقول الحياة يستطيع الاستغناء فيه عن الكلام، فجميع الأعمال اليدوية لا يعجزه إذا تدرَّب عليها أن يبرز فيها.. بل إنني لأذكر أنني كنتُ أعرف رجلاً من البكم يرتاد السوق العامة للخضار والفاكهة فيشتري ما يلزمه لدكانه الخاص دون أن يجرؤ أحد على خداعه في أسعارها.. فقد كان يرقب حركات شفاه المساومين، ويعرف منها كل ما له علاقة بالأسعار، وكان لا يعجزه إذا انتهى إلى دكانه أن يتفاهم مع عموم زبائنه عن طريق الإشارة، وكانت شهرته بالحذق، وميله إلى المرح يساعدان على إقبال الزبون عليه ويُعينان على رواج بضاعته أكثر من جيرانه. |
ولا يبعد شأن الأعمى كثيراً عن شأن الأبكم، فإن شعوره بنقصه عن المبصرين يحفزه للعمل والعمل المنتج في كثير من ميادين الحياة. |
وقفت يوماً بسيارتي في أحد الشوارع فإذا منادٍ خلفها ينادي يا صاحب الشفر 54.. خذني معك، فالتفت فإذا أعمى يستأذن في الركوب! فعجبت لمعرفته موديل السيارة دون أن يراها، فسألته عن ذلك، فقال إني تعرَّفت بالتمرين على جميع موديلات السيارات وأنواعها، وإذا صادفني اليوم سيارة واقفة فإني لا أخطئ نوعها، وموديلها. عندما ألمسها، فهل تستغرب هذا؟؟ |
قلت: ولكن قصتي أعجب من هذا.. فإنني بالرغم من كوني مبصراً فإني لا أميّز أي نوع من السيارات، ولا أعرف موديله، ولو أن سيارتي ضاعت بين غيرها من موديلها أو غير موديلها، فإنه سيتعذَّر عليَّ معرفتها فهل تستغرب هذا؟ فما مَلَك أن ضحك حتى وقع على الأرض!! |
هذا مبلغ استعداد العميان بعد البكم في الحياة. وإذا علمنا أن مِحنة النوعين أبلغ من محنة غيرهما من أصحاب العاهات ظهر لنا أن معاناتنا مع غيرهم سوف لا تُرهقنا نصباً كبيراً ولا تُكلفنا عناءً جسيماً. |
إذا كنا عالجنا قبل اليوم شؤون هؤلاء المرضى بأساليب بدائية وفي نطاق ضئيل محدود. فهل يجوز لنا بعد اليوم ونحن في إبان صحوة جديدة أن ننسى واجبنا نحوهم، ونترك بلادنا تفقد في أشخاصهم الضعيفة أفراداً هي في حاجة إلى أثرهم في الحياة؟؟ |
دعونا نتابع غيرنا من أمم الأرض الناهضة فننتدب منا من يستقصي أحدث ما وصل إليه ابتكار المتمدِّنين في مساعدة هؤلاء لنقلِّده في بلادنا، وإذا كنا قد عُنينا إلى اليوم بانتداب المتخصِّصين في شتى نواحي العلوم والفنون فما يمنعنا أن نُضيف إليهم من يتخصّص في مثل هذه الناحية لنضيف إلى مياديننا الجديدة التي اعتزمنا فتحها ميداناً له قيمته في الحياة؟ |
أيقول بعد هذا متحذلق إننا لم ننتهِ بعد من شؤون الأصحّاء فما أعجلك أيها الرجل؟ |
إنها حذلقة لا يقرُّها عدل، ولا منطق، لأننا لا يجب أن نجرؤ على تصنيف الناس، ولا نقدمهم إلى الحياة إلاّ صنفاً بعد آخر، فالناس في نظر العدل سواسية، وإذا وجب أن نخطو فلنبدأ بضعفائنا، أو يشملنا السير بجميع أصنافنا. |
وإنها حذلقة لا يقرُّها منطق، لأننا لا يجب أن نستبعد نبوغ أصحاب العاهات بصورة تزيد نسبتها عمّا عرف بين غيرهم من الأصحاء. |
إننا نهيب بأصحاب الغيرة من المتموِّلين وأصحاب اليقظة من المثقفين، وأصحاب الاختصاص من المسؤولين أن يُعيروا ضعفاءنا من هذا النوع لفتة صادقة، ينقذونهم بها ممّا امتحنوا به، ويبثّون بها في أرواحهم من المعنوية، وفي نفوسهم من الثقة ما يساعد على بروزهم بيننا. |
نحن لا نُنكر أننا فيما نهضنا لا نزال عند الأبواب، كما لا نُنكر أن بلادنا التي أشقاها التأخر من ألف سنة لا تستطيع أن تقضي أوطارها طفرة.. نحن نعلم هذا، ولكننا نعلم أننا أشد ما نكون حاجة في خطوتنا هذه إلى النصيحة والتذكير فسيروا بنا.. سيروا بنا خفضاً ورفعاً.. سيروا بنا عنفاً وشداً. |
|