(13) |
ثق أني لا أكتب شيئاً أتصنعه وإذا بدا لك أني أسخر وأتهكم فليس في الأمر إلاّ أني درجت في الحياة أعايشها على سجيتي فليس غريباً أن يترك هذا أثره لا في كتابتي وحدها بل وفي كل علاقاتي بالناس. |
عشت لا أتكلف التكتيك المتعارف بين الناس ولهذا كثيراً ما أبدو صفيقاً لمن لا يعرف بداوتي. |
وعشت لا أتكلف الحياة نفسها ولا أزاحم في مناكبها إلاّ بالقدر الذي لا يثير في نفسي هماً ولا يكبدني ما ينغصني فإذا أبت المسيرة إلاّ أن تجابهني خلال الطريق بما يكدر صفوي فإني لا ألبث أن أدير لها ظهري. |
فإذا دارت بإصرار لتواجهني ثارت السخرية في نفسي ورأيتني أضحك في تهكم من فرط قسوتها ويتداعى الضحك حتى تمتلىء به نفسي وتهتز لشدته جوانحي.. وكثيراً ما يلازمني الضحك حتى آخر الشوط وحتى يبدد ما غشيني من هموم. |
لعلّه يبدو لك من هذا أني لا أقاوم الحياة بقدر ما أزوغ منها وأني أجالد إذا جالدت بروح الساخر الذي لا يقاوم كما قلت -بقدر ما يزوغ ويضحك.. فإذا رأيت كتابتي تنطبع بما تراءى لك فثق أنها صورة مني. |
أنا استكنت بل قلت أني عشت أزاحم في مناكب الحياة بالقدر الذي لا يثير في نفسي هماً ولا يكبدني ما ينغصني فإذا بدا ما ينغصني هزئت وضحكت أو أدرت ظهري إلى مجال آخر أزاحم فيه إلى الحد الذي لا ينغص عيشي. |
وأستطيع أن أثبت لك ما قلت عملياً من واقع حياتي فقد بدأت عملي في الحياة مدرساً فلما أثقل عليّ العمل ببعض هموم التدريس جاهدت لأثبت لنفسي أثراً ولو صغيراً في حقل الأدب وحاولت حتى طلقت التدريس إلى العمل في صوت الحجاز ولما أثقلت عليّ هموم الصحافة وجدتني أزوغ لأمتهن التجارة وعندما تراءى لي أنني لا أملك أخلاق تاجر ضحكت ملء نفسي لما منيت فيها من مصاعب وأدرت ظهري لها بحثاً عن مجال لا يكدر صفوي فاخترت الوظيفة ولما أشقتني الوظيفة في خلال ما مضى وضعت أول مؤلف لتدريس القراءات العربية في المدارس وكان يدر عليّ من مكاسبه السمن والعسل فما عتمت المنافسة أن اشتدت حولي بصورة لا أريد تفصيلها اليوم فرأيتني أهرق مدادي وأختم على كتبي وهي من ستة أجزاء وأسخر من كل ما ينالني من مكاسبها ثم أدير ظهري. |
وكنت مطوفاً فأثقلت عليّ عجرفة بعض الحجاج ورأيتني أفشل من أن أجاري غيري ممن خلق لها فأعرت اسمي لغيري وقبلت منه فتات المائدة لأعيش بعيداً عما يكدر صفوي. |
وكان لا بد لي من عمل بعد أن أصبحت فارغاً فأسست مطبعتي فدرت عليّ من أخلاف الرزق ما لا أحلم به ثم ساقتني إلى الصحافة فزاولتها حتى دمجت الصحف فبعت نصيبي من الدمج تحاشياً من الخلاف وأدرت ظهري. |
وعدت بعدها أستأنف العمل الصحفي في مجلة قريش حتى إذا صدر الأمر بتأسيس المؤسسات الصحفية طلب إلي اختيار من يشاركني في مؤسسة قريش فخيل إليّ أني مقبل على عنت الشركة فتقدمت أطلب إحالة قريش إلى من يشتهيها. |
ورأى المختصون أن يضيفوا اسمي إلى أعضاء مؤسسة الندوة فاشترطت أن لا أنتخب مديراً ولا رئيساً وحسبي أن أساهم كعضو لا تتجاذبه المصاعب. |
وعندما جدت ملابسات ظننتني فيها أني أستطيع أن أعمل كمدير لإدارة الجريدة على أن يقاسمني أعضاء الإدارة مصاعبها إذا جدت، ما لبثت بعض الهموم أن واجهتني فلم أقض في عملها إلاّ بضعة أشهر ثم طلبت إقالتي ثم زغت وأنا أضحك. |
وعشت إلى هذا أتحاشى عضوية مجالس المطوفين بل وسائر المجالس التي تنشأ في مرافق البلاد إلاّ ما كان منها في شبابي المبكر.. لا أفعل هذا جحوداً لبلادي ولكني لا أميل إلى العنت أو الصدام.. يروق لي أن أعيش الحياة هازئاً. فإذا أبت مفارقاتها أو نوائبها إلاّ أن تمتحنني سخرت بها ما واتتني السخرية وحاولتها حتى أزوغ هارباً بنفسي منها وربما استعرت من سخريتي بعض القوة في القليل النادر أواجه بها من يناوئني لكني لا أكاد ألبث أن أزوغ. حتى حقول النقد الأدبي لا تكاد تجد لي مجالاً فيها.. قد تقول أني كثير الكتابة في النقد الاجتماعي.. وهذا صحيح ولكنه نقد يتناول عامة تقاليدنا لا أعني فيه شخصاً بذاته بقدر ما أعني مرئياتي في الأحوال العامة. أنت تعرف أن أحلام الشباب لا يتسع لها مدى في العادة ولا أكذبك أني كذلك كنت.. ولكن الأيام ما لبثت أن علمتني كيف أخفف من غلوائي.. وأما عني ككاتب فلا أكتمك أني كنت قد خططت لنفسي أن لا أنتهي من مؤلف حتى أبدأ غيره وكان لي جدول بأسماء المواضيع التي أنوي التأليف فيها ولكن تجارب الحياة أثبتت لي أني لا أستطيع المضي فيما خططت ذلك لأن ثروتي لا تساعد على إبراز ما تخيلت وظروف السوق لا تغري بالعمل الدائب والنشاط الجاد فما لبثت أن قنعت بما كان وأجدني اليوم استمرئ الكسل في لذة ورضا ولا آمل إلاّ أن أعيش ناعماً بما تهيأ لي من سقط الحياة. |
|