شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قصة جديدة
كانت الشمس قد أوفت على الاستواء ترسل أشعتها من خلال الغمائم المتكاثفة فاترة هزيلة وكانت رؤوس الجبال على جنبات الوادي تبدو حالكة السواد طاعنة في الفضاء بقرونها في خيلاء وزهو.
وكنت ترى في زاوية من الأفق من ناحية الشرق بقعاً أرجوانية تلمع في صفحة السماء كأنها بحيرات صغيرة تصطفق فيها أمواج من الدم.
وكان الدخان الساطع من المنازل الريفية المتناثرة فوق النجود الصغيرة المجللة بأشجار التوت والإثل يتلوى قبل أن يسامت رؤوس الجبال وتنعقد حواشيه في غمائم رقيقة شفافة.
وكانت النغاري تثب وتنتقل مغردة في ثنايا الوادي بين شطآن وخلجان تتعرج وتندغم وتنبسط تكتنفها عرائش العنب وأشجار الرمان والخوخ بينما تنحدر أمواج من السيل في أخاديد كأنها الشلالات ثم تعرج وتلتوي بين الغياض والبساتين والمروج.
وكان سالم ينحدر بانحدار الأخاديد مأخوذاً بهذا الجمال الفاتن حتى إذا -انتهى إلى ساقية مهجورة على كثب من الأخدود طاب له أن يأخذ مقعده على طرف من بنيانها المتهدم.
ولاحت منه التفاتة نحو أقرب الآكام إليه فإذا ((مزينة)) تشرف عليه هابطة من بعض معارجها في قوامها الغض وثوبها الفضفاض وعينيها المتوقدتين حماساً وذكاء فلم يملك إلاّ أن يقف ليحييها ويمهد لجلوسها فوق بعض الأخشاب المهملة أمامه فتهالكت عليها في شبه إعياء.
وندت منه زفرة مكتومة فالتفتت إليه وقد أدركها شيء من القلق ورأت نفسها تسأله في حنان ورفق:
- أتتألم؟
- لا أتألم ولكني أفكر!
- فيم تفكر؟
- يذكرون هنا أنك كنت أستاذة في بعض مدارسنا العالية قبل أن تجتذبك هذه القرى بين جبال الطائف لتعملي فيها كمزارعة فيما ورثت من مخلفات أجدادك وهم يلاحظون عليك ألواناً من الشذوذ يرون أنه لا يتفق مع حظك الواسع في المعرفة، ويغالي بعضهم فيتهمك بالجنون. ولا أكذبك أني بت لا يشغلني شيء ما يشغلني دوام التفكير في شأنك وما ينالني من غريب تصرفاتك حتى كدت -ولا تؤاخذيني- أن أميل بميلهم.
- وتسميني مجنونة؟
- نعم.. ومرة أخرى أرجو أن لا تؤاخذيني.
- ألديك فكرة صحيحة عن الجنون!
- أبداً.. فالمسألة بالنسبة لي وأمثالي لا أكثر من تواطؤ تواضع عليه الناس.. هناك تصرفات شذت على قواعد الحياة فدلت على خلط أو دخل في القوى العاقلة اتفق الناس على وسمها بالجنون..
- أتعني أن الحياة سنت لنفسها قواعد أم أن شيئاً آخر غير الحياة سن لها ذلك.
- ليست الحياة عاقلة فتنظم لنفسها وإنما هم أبناء الحياة. أو إن شئت صفوتها منهم.. تواطؤوا على تنظيم الحياة ضمن حدود لا يخرج عليها إلاّ شاذ أو مدخول.. وبالاختصار مجنون!!
- وأنت هل تزكي كل ما تواطأ عليه الناس؟
- لم أقل هذا..
- أتقول أنه إذا تواطأ الناس على ما يسمونه بالجنون فأنت تخالفهم؟
- ولم أقل هذا!
- أرجو تحديد ما تقول.
- إذا تواطأ الناس على مثل ففيه ما يحتمل الصواب والخطأ.
- وأنت شخصياً تحكم بما يحتمل الصواب والخطأ.
- لم أقل هذا.
- أرجو تحديد ما تقول.
- لا أريد أن أحدد شيئاً ولا أن أقول شيئاً وإلاّ ضعت معك في متاهات لا نهاية لها.
- وتريد أن تسمع.
- سأسمع وذلك شأني كلما جلست إليك.
- إذا وضع الحكيم العاقل نواة قاعدة في الحياة فالمفروض أنه يستوحي حكمته.. فما هي حكمته هذه؟.. إنها قواه العقلية متأثرة بمجموعة كبيرة من عوامل محيطة، فعبَّاد البقر والبوذيون وهمج الأمم البدائية فيهم حكماء يشرعون لأممهم قواعد في الحياة يستوحون فيها من سخافات محيطهم.. ومع هذا فهي قواعد، وهي سنن في الحياة وهي نظم لها رعايتها.
فإذا كنت فيهم فهل من رأيك الخروج عليهم فيها أو متابعتهم فيما يسنون.
إن كنت الأول فأنت مارق خارج مجنون، وإن كنت الثاني فأنت مدسوس على نفسك مغبون لغيرك.
في الهند جماعة يذبحون البقرة وآخرون يقفون مذهولين يسأل بعضهم بعضاً ما يمنع الجبال أن تميد والأرض أن تبيد بهذا النفر الطاغي الذي يذبح الآلهة ويطعم منها أهله وأولاده؟
هذان خصمان عاشا في بلد واحد ونهلا العلم أو الجهل من معين واحد وأترع كل جانب منهما بالحكماء والمشرعين والعقلاء فما منع الحكمة أن تجمعهما على حقيقة واحدة. لا شيء سوى أن العاقل لا يستوحي حكمته إلاّ متأثرة بالعوامل الفعّالة الشائعة في بيئته الخاصة ولو لم يكن هذا لكان أبناء الحياة على غير هذا النحو -وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (هود: 118).
إني لا أزكي نفسي.. لا أزكيها لأني إذا كنت أعقل بعض المفاهيم وأجدف على بعضها فإني لا أزال رغم ذلك متأثرة بأكثر من عوامل أحاطت تربيتي ونشأتي.. وها أنت ذا تراني مثلك إلى حد ما عبدة لكثير مما أحاط بي وينكره عقلي.
ومع هذا فإذا رأيتني في نظر غيرك أشذ على بعض القواعد العامة فكن أثبت من أن تجاري التيار وتخلّص مرة واحدة من مؤثراتك المحيطة لتستطيع أن تراني على حقيقتي بعينك المجردة وتحكم في شأني بغير عقلك المشوب!
- قال: وقد اعتدل في جلسته يواجهها: لقد قيل في شأنك ما قيل فذكرت أني كدت أميل بميلهم ولكني لم أفعل بعد على أمل أن يكون لي رأي خاص في تصرفاتك.
- قالت وإذا أردتني أن أفرغ من أمر القواعد المرتجلة التي دشنها من سميناهم عقلاء وكانت كل أخطائهم لا تتجاوز أنهم كانوا متأثرين بعوامل محيطهم فما رأيك في بعض الطغام من أصحاب الرأي الفطير والفكر الفَسْل تناولوا الحياة بحكم منازلهم فيها من الجاه أو السلطة أو الثراء فأوسعوها نظماً وقواعد وخلقوا لنا فيها أرتالاً من التقاليد والأعراف تطغى مئات المرات على ما سنته العقول المرتجلة.
بكل هذه الأرتال انتظمت الحياة وأصبحت بمرور الحقوب والأجيال قواعد لها حكمها ولها قدسيتها وحرمتها رغم ما فيها من آراء خطيرة كما أصبح الخروج عليها شذوذاً أو إن شئت فسمه جنوناً!!
- وما شأن الطغام من هذا النوع بالتقنين يقتحمونه.
- إنه شأن الناس قبل أن يكون شأن الطغام.. فالناس في كل زمان جبلوا على تقدير خاصتهم من أصحاب المكانة والجاه والثراء يلتمسون الحيلة بضعفهم أمامهم.. يلتمسون شتى وسائل الإغراء والتزلف فيتركون أمثال هذه المخلوقات تنسى لمجرد علو كعبها عن مستوى الأرض أنها محاطة بالزيف والكذب، وجعلوها تنسى جهلها وتمضي في شططها مطلقة العنان مقدسة في كل ما ترى، عظيمة في كل ما تشير وأغراها التقديس والتعظيم فأمعنت في الغلو بنفسها وانساقت وراء الهوى تقتحم صفوف الفلاسفة وتضرب في بيداء المتكلمين، تلفظ الكلمة ليرتفع لها ألف صوت وتقول الرأي فتعنو له ألوف الجباه.
وتواتي الحياة بعض ما تواتيه وتقلب ظهر المجن لمن تقلبه لهم فيعفي التاريخ ما أعفته الحياة ويواتي ما واتته فيرهف التاريخ أقلامه ليسجل من عبثهم حكماً ومن آرائهم الخطيرة قواعد لا تلبث أن تحتضنها الأجيال ويتوارثها الأحفاد كما يتوارثون كل مقدس لا يخرج عليه إلاّ مارق أو مجنون.
- لشد ما تتجنين على التاريخ.
- في سبيل الشيطان ألوف المجلدات مما زوّر وزيّف بجانب القليل والقليل جداً الذي كان نزيهاً في نقله.
ترى ماذا كان يفعل التاريخ بهتلر لو أن الحياة شايعته يوماً واحداً على أبواب العلمين وتركت جيوشه تمضي في فتوحاتها إلى نهاية الحرب.
أتظن صفحة واحدة مما تخرجه مطابع أوروبا كانت تكون خالية من ذكر أمجاده والثناء عليه بشتى النعوت.
مع هذا فليس هو اليوم أكثر من مجموعة مثالب سيظل التاريخ يتلكأ في ترديدها حتى يغمرها النسيان فيطويها كما تطوى اللجة أقذار الشاطئ.
قالت هذا وهي ترتفق سياج الساقية ثم ما لبثت أن مالت بعنقها على كتفها فبانت سحنتها أشبه ما تكون بسحنة المريض في وجه ضامر كأنما دهمه داهم مفاجئ فانكفأ لونه وانطبعت آثار الجهامة على جبينها العالي والذبول على شفتيها الرقيقتين وخدها الأسجح الجميل ثم حجبت وجهها بطرف خمارها وتحاملت على نفسها حتى وقفت لتوليه ظهرها وهي تنحدر بانحدار الأكمة دون أن تلتفت إلى ندائه خلفها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :385  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.