بين قرى الطائف |
قال هذا وهو يشعر أنه تخاذل في نفسه بصورة مرهقة. ونظر إليها فإذا هي ترنو إليه بلحظ ساهم ونظرات حائرة.. كانت قد مالت بعنقها على كتفها فبانت سحنتها أشبه ما تكون بسحنة المريض في وجه ضامر كأنما دهمه دهيم مفاجئ فانكفأ لونه وانطبقت آثار الجهامة على جبينها العالي وبان الذبول في زوايا شفتيها الدقيقتين وانطفأ بريق خدها الأسجح الجميل.. ثم حجبت وجهها بطرف ردائها بعد أن أحكمت لثامها.. وندت منها آهة طويلة عميقة وهي تقول: |
- أتخافني يا ابن الخال؟ |
أتخاف الإشعاع في عيني والإشراق في جبيني؟ ترى ماذا تركت؟.. ماذا تركت لذات الخلخال والقرط؟ |
أتراني ألتمس كينونتك كرجل هصور فلا أجدها. إن هذا شيء لا أفهمه. كنت أحسبني أجد فيك مفخرة أطاول بها أقيال الرجال. |
لا هلاماً يتبخر مع أول إشعاع، وغازاً يُغْنِي في أول سيال. |
كنت أحسبني أصافح فيك الرجل لا لتتغزل اليوم في فتنتي وغداً أنت مأسور لفتنة غيري. |
كنت أحسبني أناجي فيك الرفيق الذي يصحبني إلى مراتع الجمال الأخاذ نتنسم طراءة الوادي الأريج تتكسر أضواء القمر على حواشيه.. نقف على شطآن الغدير نلتقط ما ترك القرويون من ثمار الخوخ على جوانبها نقضمه ونتقاذف نواه أو نرجم به الضفادع في قاع الغدير فنثير نقيقها أو نجلس تحت شجرة البستاني التي غرستها عمتك في صباها الغابر نتأمل أوراقها الزرقاء تلمع كأنها قطع قُدّت من أديم السماء وقت صفائها. |
قالت هذا فتركته شارد اللب تركبه الهموم طبقاً عن طبق. ونظر فإذا هي توليه ظهرها منحدرة إلى الطريق السابلة وسمعها تهيب بعجوز تجمع أفواف الورد من بستانها، سوف ألحق بمن سبقني إلى حفل الزواج، وكأنها تريد من فتاها أن يسمعها. |
استيقظ وعيه على صوتها واستطاع أن يتحامل على نفسه ليقف وكأن عليه أن يسأل العجوز عن وجهة الفتاة وعن القرية التي ستحضر احتفال الزواج فيها فإذا العجوز لا تعرف شيئاً عما سأل أضاف إلى همومه هماً ولكنه ما لبث أن تذكر أن فتاته عاملة كمندوب للضمان الاجتماعي وأن رئيسة الضمان النسوي تسكن في قرية لا تبعد كثيراً عن مكانه فلو زارها لاستطاع أن يعرف منها الاتجاه الذي انقلبت إليه الفتاة. |
قادته قدماه إلى الطريق الذي رآها من كثب تتصدر منه.. كان النسيم يهب بليلاً رخياً. وكان فوج الزهر يعطر الجو بأريجه.. إلى غدير صغير. درب مجلل بالأشجار الباسقة فانتهى منه إلى غدير صغير تناثرت على حوافه بعض القرويات يملأن القرب أو يغسلن الأواني فانتبذ منهن ناحية بعيدة تهالك فيها على حافة الغدير وأدلى ساقيه يغمرهما بالماء كأنه يطفئ لهيباً تستعر وقدته في أعماق نفسه. |
وشعر بعد لأيٍ ببرودة الماء وقد أطفأت من حرارته وأن شيئاً من النشاط بدأ يسري في مجاري الدم من جسمه فوثب من فوره قائماً ليصافح الطريق. |
وأسلمه الطريق إلى وهدة مطمئنة على شاطئ الوادي تجللها أشجار الطلح وخاض به الوادي في جادة ضيقة تلتوي بين مدارج السيول ثم ترتفع بين تلال أو نجود صغيرة تتخللها البيوت من الطين أو الحجر على مسافات تتقارب أو تتباعد بقدر ما تلتوي بينها الجادة. |
كان يسير وحده يؤنسه أزيز السواقي آتية من مخارف الوادي وكان يلتقي بين كل فترة وأخرى بالرعاة يسوقون قطعانهم بين المروج أو يرسلونها إلى العشب المخضل بين -ليات الوادي فكان لا يفتأ يسأل عن قرية يجهل اسمها تقيم حفلاً للزواج فتشير له الأصابع إلى البعيد من وراء الهضاب الصغيرة. |
كان الريح يهب عليلاً فاتراً فيعبث بأشجار التين على أكتاف المروج فيسمع لحفيف أوراقه نغماً شجياً رخيماً، وكانت الشمس صاحية تنقل خطاها بين أكتاف الجبال ورؤوس التلال وتترك النجود الصغيرة غرقى في وهجها، وكان أطفال القرويين ينتشرون بين مهابط الماء ومساقط السيل في طول الطريق يحملون سلالهم على رؤوسهم أو بين أكتافهم يجمعون فيها أفواف الورد بين حمراء وبيضاء ويلتقطون ما تناثر من ثمار الناب فيجعلونه في أفواههم ويتراشقون بنواه في مرح ولعب. |
وطال به الطريق واشتد وهج الحر وكان الجوع وطول الطريق قد أخذا منه مأخذهما فأبى إلاّ أن يواصل مسيرته إلى هدفه. |
وأنه لفي سيره وقد كادت الذبالة الرقيقة الباقية من مصباح النهار أن تنطفئ إذا بأصوات غنائية تصافح أذنه من وراء أدواح ملتفة فنظر وإذا بين يديه طريق يعرج به إلى مصدر الغناء في مدخل صخري فمضى يسير بسير الطريق دون أن يخالجه شك في أنه على الجادة إلى قرية العرس. |
وساقته الجادة إلى مسلك تغشيه أشجار السلم بين سلسلتين من الهضاب تنحدر منها صخور قائمة أو ماثلة بين جوانبها كانت بينها قطع فصلت عن الهضاب في عناية فبدت كأنما صبت في قوالب بيد أمهر الفنانين واستوت سطوحها كأنها نماذج لصناع أتقنوها في أشكال هندسية عديدة وتركوها شاهدة لما أتقنوا. |
وبرز الطريق به إلى ساحة انتهت في أحد أطرافها إلى بستان سوج بسور مرتفع من الطين النيء ونظر فإذا إلى جانب البستان مصطبة مفروشة بأنواع من الفرو الثمين جلس عليها شيخ من الأعراب في وجه ضامر ولحية طويلة شعثة وجبهة عالية يطالعك منها سمو المحتد وعراقة الأصل، استبان من هيئته أنه من أقرباء الفتاة على ضوء ما كان يسمع من أوصافه في ثنايا حديثها. |
انتصب الشيخ واقفاً في قوام فارع يحييه في وجه مشرق وديباجة لطيفة ثم دعاه إلى الجلوس. |
وابتدره الشيخ يسأل هل أنت مدعو إلى حفل الزواج في قريتنا فقال إني في نزهة خلوية لا أكثر، قال إن عمتك وفتاتها كانتا عندي إلى قبيل المساء ثم غادرتاني إلى الحفل في العدوة القصوى من القرية فحيهلا بك من ليلتك هذه وتعذرني إذا تركتك مؤقتاً لأحضر حفل الزواج ثم أوافيك قبل أن ينبلج الصباح لأجدك وربما صحبتني عمتك وفتاتها. |
قال هذا وهو ينادي خادمه ليوصي به فقاده الخادم إلى داخل الدار فإذا غرفة واسعة فرشت أرضها بالبسط المجدولة وتناثرت في أركانها المتكآت من القطيفة. |
وما يكاد يجلس حتى حملت إليه مائدة.. فبلغ منها ما استطاع ثم أدى فريضته على أمل أن ينام ولكن الكرى أبى إلاّ أن يخاصم جفونه فقد تخايلت له ابنة عمته في أبهى زينتها تبدو في محياها الجميل علامات الرضا وملامح الاستياء في صورة استعصى معها الهدوء فطفق يتقلب في فراشه حتى صافح أذنيه نداء الفجر. |
وتنفس الصبح يتضوع الأريج الشذي في نفحاته فقام إلى كوة تشرف على الأودية المتموجة بالخضرة والزهر وأرسل نظره فإذا سحابة تسحب ذيولها على رؤوس الدوح وقطرات من الغيث تتساقط على المروج فيعبق أريجها ويملأ الجو بفوحه العطري. |
وما كاد يذوب في سحر ما يرى حتى استيقظ وعيه على صوت فتاته تحييه تحية الصباح ونظر فإذا هي أمامه يفتر ثغرها عن ابتسامة اختلطت معانيها عليه فما أسرع أن اتجه بكليته إليها وحاول أن يرد تحيتها ولكن معاني الكلمات ذابت في فمه فلم يربكها حياؤه بل شجعها على أن تمد يدها لمصافحته وهي تبادره: |
- كيف أصبحت يا ابن الخال.. أحسبك بت تصلي بينما بتنا فيما عانيناه من تعب الزواج. |
- من أين لك أني بت أصلي وأتعبد. ترى هل بدأت تتهكمين. |
- من قال أني أتهكم.. وأنت تفهم ما أعني.. أنت تعرف أن العبادة ليست بمعناها المصطلح فقط.. وإنما هي إلى هذا استغراق في ملكوت الله. |
إن في هذه التلال القائمة على حفافي الوادي، وهذه الأدواح الذاهبة في طبقات السماء تصالح أقدامها الجداول الصافية، وتلتوي على سوقها العساليج الخضراء وألواح البرشومي يترقرق فيها الندى، والعنب يتسلق أوراقه ما صنعت يد الإنسان من هياكل، وثمار السفرجل والرمان والكمثرى تتدله في أشجار تدله النشوان كلما عبث النسيم.. إن كل ما رأيت استغراقة لا تجدها في سجادة بطنت بأنعم ما في المصانع من حرير. |
إن في الأريج الفوّاح من المروج المخضلة، وفي أشعة الشمس المنعكسة من خلال أغصان التين، وفي رقرقة الجداول المنسابة بين الجذوع، وفي شقشقة العصافير وتغريد القمارى، ونقيق الضفادع وخرير مياه السواقي تسابيح لا يقولها لسان، وآيات لا يقوى عليها بيان، وحجج دامغة لا يعدل بها كل ما كتب العلماء والفلاسفة عن حقيقة الإيمان بالله. |
كانت تقول وليس في صوتها النبرة الرقيقة والألفاظ المتكسرة على شفتي فتاة كاعب فما ملك أن تاه أمامها في بيداء واسعة.. ماتت الكلمات على شفتيه وغاصت المعاني في فؤاده. وظل على حاله وقتاً لا يدري أنه طال حتى استرعت سمعه جلبة ضج بها الوادي. |
كانت الحياة قد دبت في مسالك الوادي، وبدأ ثغاء الماشية يختلط برغاء الإبل وأخذ البدو والفلاحون ينسلون من معارجهم بين النجود الصغيرة ليواجهوا أعمالهم بين المروج. |
ونظر فإذا ضيوف الحفل الساهر يتقاطرون من وراء التلال عائدين إلى بيوتهم بعد نهاية الحفل. |
وسمع صوت والد الفتاة ينادي خادم البيت ليفرد مهجعاً يضطجع فيه بعد ليلته الساهرة فاستيقظ وعيه للصوت وأسرع يحييه فصافحه الأب في ود وربت على كتفه في سرور واضح. |
ووجد نفسه وحيداً في غرفته بعد أن تركها الوالد إلى مضجعه وتركتها الفتاة إلى ما لا يدري فراق له أن يجمع شتات ذهنه ورأى نفسه يتساءل ما معنى كل هذه المعاناة في سبيل فتاة لا أعرف مكاني منها إلاّ كطالب يتلقى ما يحلو لها أن تسميه دروساً في الحياة.. ترى هل تشعر بمثل شعوري بها وهل أجدني أملك نصيبي من دخيلة نفسها؟ |
قال هذا وهو يؤكد لنفسه أن لا بد من وضع حد لكل هذا ولا بد من حسم أتقدم به إلى والدها طالباً يدها فإما جفاء بعدٍ وإما وفاء حتى تضع المعاناة أوزارها.. |
وتراءى له أن معدل النجاح سيكون أوفى لو بدأ بوالدتها فهي عمته وقد عاشت تبره ومثلها في برها وودها سوف لا تضن عليه بهناءته وسعادة فتاتها. |
وعندما انتهى من قراره كان كما لو نشط من عقال وفي لحظة كان بين يدي عمته يبثها لواعجه ويرجو سعيها لإتمام ما يؤمل. |
ذهلت العمة لما سمعت. ثم ما عتمت أن غلبتها ضحكة هستيرية وهي تقول: لا أحسبك تجهل أن فتاتي أختك فقد رضعت معها من ثديي هذا أكثر من عشرين مرة. |
|