شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سلوك أطفالنا
قال صاحبي ما رأيت كأطفال صديقي فلان يخافون كل شيء ويتوجسون من لا شيء وهي حياة لا آمن عليهم من نتائجها.. قلت إنها مأساة الشرق بصورة تكاد أن تكون عامة. فالأسرة في الشرق إلاّ ما ندر تحاول في سبيل ضبط سلوك أطفالها أن تثير فيهم الخوف وهي إذا أثارته من شيء حقيقي ملموس فكثيراً ما تثيره من أوهام أو سخافات أو أساطير لا أساس لها إلاّ في مخيلة المعتوهين.
أنا لا أنكر أن الخوف علة اجتماعية لا تكاد تسلم منها سلالة على وجه الأرض وأن الخوف لأسباب ظاهرة المعالم واضحة الحدود شيء لا بد منه في حياة البشر وربما أثار فيك رغبة الدفاع والصمود وأعدّك للمواجهة إذا وجد التوجيه النفسي.. أما مأساة المآسي فهو خوفك مما لا يستاهل الخوف خوفك من أوهام تخيلتها الأساطير وأمدتها بالصورة التي تستمد أهم أشكالها من الواقع الكاذب.. مثل هذا الخوف قائم عند كثير من الأسر في كثير من بلاد الشرق وهو علة تخلفنا وستظل آثاره في مقومات الحياة في نفوسنا حتى تقضي علينا إن لم نتدارك الأمر قبل فوات الأوان.
ترى ما معنى أن نخوف صغارنا بالبعبع والعسكري وأهوال تخلق بعضها لليل وأخرى للنهار وغيرها لكثير من قصص الأساطير؟ إذا صح هذا فلا يجب أن ننسى مدى ما سنخسره في صغارنا ومبلغ ما نهيئهم له من هوان الضعف وذلته واستكانته.. إننا بعد أن بذرنا بذور الخوف في هؤلاء وغذيناها بما نختلق من حكايات نصبغها بصبغة الواقع تركنا هذا الخوف يتأصل في مخيلة الصغار وينمو بنموهم. وذلك أن الصغير يتلقى معلوماتنا كقضايا مسلمة فلا يتسع مفهومه لنقاشها ولا يتسع إدراكه لتحديد معالمها ولا تقوى مخيلته على تتبع ما يصح منها ولا ما لا يصح.. فإذا انحدرت قضايانا إلى أعماقه كشيء مهيب عاش يهاب كل ما في معناها وبذلك ينعكس الخوف على سلوكه عند أدنى مناسبة فلا يكاد يواجه الحياة كإنسان له مسؤوليته حتى يشعر أنه أضعف من أن يواجهها ولا يكاد يحتك برؤسائه أو أقرانه أو شركائه في العمل حتى يدرك عجزه عن مسايرتهم فضلاً عن مسابقتهم فيضطر مرغماً لمجاملتهم ونفاقهم، وربما تضاءل فسعى في خدمتهم وتنازل عن مؤهلاته كرجل قرين لقاء أن يرضيهم وربما خيل له الخوف أن هوانه في سبيل استعطافهم أضمن وسيلة لنجاحه في معتركهم.. وبهذا سيألف الضآلة ولا يرى أن يواجه الحياة في شتى مجتمعاتها بما يجب أن يواجهها إنسان يتمتع برجولته ويثق بكفاءاته.. وتسيء الضآلة ويسيء الخوف إلى أخلاقه الضعيفة بصورة مزرية!! فهو إذا آنس عجزاً من إنسان ضعيف يواجهه تعالى عليه بشكل مفجع وكال له أسوأ الكيل كما لو كان عليه أن يستوفي ثأره عند الأقوياء من أول ضعيف يواجهه.
ما أروع أن ننشئ صغارنا على الثقة بالنفس والقدرة على مواجهة الحياة مهما كان لونها ونلقنهم دراسة الصعاب وتحليل مشاكلها في صور مبسطة تتسع لها مفاهيمهم لا نبذر بذور الخوف في نفوسهم فينشأوا على الاستكانة وتنتابهم الأوهام عند كل حدث مهما قلّ شأنه فتتراخى عزائمهم وليس كالتراخي ما يفسد حيوية الرجل ويمنيه بالهزيمة والفشل.
قلت لصاحبي وكنا في صدد أننا في سبيل ضبط سلوك أطفالنا كثيراً ما نثير فيهم الخوف والفزع حتى من الوهميات التي لا نجد لها أصلاً إلاّ في مخيلة المعتوهين. فنحن نخوفه ببزة العسكري ونصوره أمامه عتياً جباراً يسحق الأطفال وكان ينبغي علينا أن نكبره وأن ندلل له على علو شأنه وبسالته وأن نوحي إليه ليقلد رجولته ويهيئ نفسه لمثل رتبته في مستقبل أيامه لينشأ في معناه عسكرياً قائداً أو طياراً أو فدائياً أو مقداماً في أي نوع كان.
إن بذور الخوف إذا وجدت سبيلها في نفس الطفل نمت وترعرعت مع كل أسف وامتدت فروعها إلى مواطن التفكير في الشخص وتركت طابعها في كل مناحي حياته العملية فلا يكاد يخطو خطوة في أي اتجاه منتج حتى تنتابه الأوهام بشكل لا يحقق له نجاحاً ذا بال.
ونحن نشهد اليوم لا في بلادنا وحدها بل في كثير من بلاد المشرق أنه قل بيننا من يجرؤ على اقتحام مشروع له قيمته الحيوية بالنسبة لشخصه أو بلده؛ ذلك أن عوامل الخوف التي بذرت بذورها في طفولته ظلت تعايشه مدى حياته فلا يكاد يناقش فكرة أو يعتزم عملاً أو يهم بمشروع حتى تنتابه الوساوس الكاذبة ويحد من خطوه خوفه من شيء مجهول. يسألني أحدهم لم عشنا نبرع في التقليد فلا يكاد أحدنا يؤسس مصنعاً للمرطبات أو يبني محطة للبنزين أو ينشئ معرضاً لبيع السيارات المستعملة حتى يبادر لتقليده عشرات وعشرات فإذا شوارعنا غاصة بألوان المرطبات لا نهاية لها وإذا محطات البنزين تكاد تتلاحم وتتلاصق لكثرتها وإذا معارض بيع السيارات المستعملة تكاد تناديك القذة بالقذة. إن مشاريع الإنتاج في الحياة لا نهاية لها وليس من مصلحة المجتمع أن نزدحم على مناهل محدودة من هذه المشاريع ولكن المطبوعين على الخوف من نعومة أظفارهم تركوا الخوف يتسلل إلى مواطن تفكيرهم فباتت أفكارهم أعجز من أن تناقش رأياً جديداً في ميادين العمل الواسعة وتسلل الخوف إلى مواطن العزم من نفوسهم فباتوا لا يملكون الجرأة لمواجهة أي صعيد ينتج عملاً له قيمته في دنيا الإنتاج، وربما عنَّ لأحدهم أن ينسى خوفه إلى حد وأن يستلهم من ضعفه قوة يندفع بها إلى تأسيس أو بناء ورشة فلا يلبث انعدام الثقة في كفاءته أن تعرقل سيره أو بعض سيره إلاّ في القليل الذي يستطيع طرد أوهام الخوف من نفسه ويثبت لاستئصال عوامل التردد من جذورها.. ما أحوجنا اليوم وقد شهدنا أثر أسلوب التخويف في تربيتنا أن نعدل عنه إلى أسلوب منتج نوحي به إلى أطفالنا أنهم أقوى من أن تعرقلهم الوساوس الكاذبة وأن استعدادهم الطبيعي لا يعجز عن تأهيلهم لمواجهة أهم المصاعب. ما أحوجنا إلى أن نمرن الطفل من نعومة أظفاره على تحمل المسؤوليات الصغيرة التي تتكافأ مع سنه لينشأ كفؤاً في مسايرة الحياة وليتعرف على أهم ما يمكنه التعرف عليه من اتجاهاتها وليتعلم كيف يناقش ويبحث ويدرس ويستنتج في حدود تتفق مع عقليته كلما تقدمت به الأيام.
مثل هذا الطفل ينشأ إيجابياً لا يشوبه القلق النفسي عند كل خطوة يواجه بها الحياة ولا يهزمه الخوف من كل عزمة ينويها.
مثل هذا الطفل يستطيع أن يبني طريقه في وضوح وأن يمضي إلى غايته في الحياة بقدم لا تزعزعها الأوهام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :369  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج