شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العثماني في أفريقيا
كان هذا من نحو خمسين سنة وكنت أعمل رئيساً لتحرير جريدة صوت الحجاز. ووافانا العيد في نهاية رمضان وكانت الجريدة قد أعدت لمناسبته عدداً ممتازاً.
وتوزع العدد ليلة العيد وبينما أنا في طريقي لبعض حاجاتي في السوق وكانت نسخة العدد الممتاز قد غمرت السوق أطرق مسمعي تعليق صحفي صادر من دكانة كنت واقفاً إلى جانبها وعندما التفتّ إذا المعلق (فقيه كُتّاب) يقع كتابه إلى غير بعيد من بيتي وكنت آخر من يتوقع أن يقرأ مثله جريدة ما أو يهمه ما فيها فضلاً عن أن يعلق على ما نشر فيها. ولهذا لذّ لي أن أتطفل على بعض تعليقاته من حيث لا يشعر لعلي أغير ولو بعض رأيي فيما كنت أتوقع منه فاقتربت من موقفه ورحت أرهف أذني لتعليقه فإذا هو يقول ((قرأت في أخبار اليوم من جريدة صوت الحجاز أن الدولة العثمانية (كذا) أسست حكومتها من جديد في أفريقيا بعد أن وصل إليها أحد أولاد الخلفاء القدامى وتولى فيها عرش الخلافة)).
هالني الأمر واشتدت غرابتي لخبر كهذا ينشر في جريدتي دون أن أطلع عليه فرأيتني في غير وعيي التفت إليه لأسأله متى وفي أي صفحة نشر هذا الخبر. فما زاد عليّ أن أولاني نصف وجهه وهو يقول (لو كنتم تقرأون الجرائد لما فاتكم أخبارها) قلت لقد قرأت جريدة اليوم ولكن ربما فاتني هذا الخبر فهل تتفضل فتطلعني عليه إذا كانت لديك صحيفة أو نشتريها من أحد الباعة. قال وقد التفت يواجهني في صدر مرفوع (حتى إذا قرأتم فأنتم لا تفهمون!!) أعجبتني النكتة فقلت وقد لذ لي كبرياؤه: (إذا كنت لا أفهم ما أقرأ فما على مثلك وقد أطعمه الله إلاّ أن يتولى فهمي) اطمأن لتواضعي فعمد إلى سجادة كان يتأبطها ليخرج منها نسخة العدد الممتاز وكانت مطوية بعناية لا مزيد عليها وراح يقلب صفحاتها حتى وضع يده على الخبر المزعوم وأشار بيده يأمرني أن أقرأ.. نظرت فإذا الخبر كتبته يدي نقلاً عن صحيفة خارجية وقد جاء كما يأتي:
(في بعض الأخبار أن لؤلؤة من ممتلكات الخليفة العثماني عرضت للبيع في أسمره بالمزاد العلني وقد تغالى في شرائها بعض التجار من أفريقيا الوسطى).
إلى هنا انتهى الخبر فاستطعت أن أفهم أن شيخنا اجتمع أمامه وهو يقرأ ذكر الخليفة العثماني وتجار أفريقيا فاستنتج أن ثمة (خلافة عثملّية كذا) ستنشأ في أفريقيا. فهل لمثلي أن يبدد خياله فيما فهم وأن يجرح كبرياءه فيما استنتج.. قال لي وقد انتفخت أوداجه بتأثير ما حاز من نصر -(إيش بك ليش ما تقرأ.. أقرأ سمعني).. تراءى لي في هذه اللحظة أن أتخابث فبعض المفارقات ترشح النكتة الضاحكة في أحلى ألوانها.. بدأت أقرأ الخبر على مسمع منه في لعثمة من لا يحسن قراءة الحرف.. كنت أعجن حروف الكلمة في بعضها فترتبك وتضطرب ولا يستقيم لها معنى أو بعض معنى.. قال وهو يشرع يداه في وجهي ليؤكد معنى ما يقول -(هذا طولك وهذا عرضك وأنت ما تعرف تقرأ).. قلت وقد راقني أن أمضي فيما تخابثت -(أبويا ما علمني أقرأ).. وبدا من سحنته المكفهرة أنه لم يسبق له معرفتي رغم أن كتّابه لا يبعد عن طريقي وأنا أمرّ إلى بيتي ذاهباً أو عائداً كما أنني مستاء لهذا القادم الذي لا يحسن قراءة الحرف فالتفت في لهفة يسألني ألديّ مانع أن أنضم إلى كتّابه وهو ضميني بأن يعلمني القراءة في أقصر وقت وراح يحاضرني ليقنعني بأنه لا يليق (بشحط) مثلي أن يعيش في مثل هذا الجهل الفاضح ويؤكد لي أن من العيب أن أستعين بمن يقرأ لي الجريدة أو أي جواب يصلني من أحد معارفي أو أن تضطرب حروف ما أقرأ بهذا الشكل المزري.. ولذت لي نكتة الموقف فأسرعت بالإيجاب ولم نفترق حتى يعين لي الساعة التي يجب أن أحضر فيها إلى كتّابه ليبدأ تعليمي القراءة.. وما حان الموعد المضروب حتى كنت على باب كتابه ونظرت فإذا غرفة صغيرة تضم نحو خمسة أطفال لا يتجاوز أكبرهم سناً التاسعة وإذا كل طفل يحتضن لوحه الخشبي أو طوح به يهدد أخوته وإذا أصوات تتعالى في جلبة تصك الآذان بينما اضطجع فقيهنا في ركن من الغرفة يتوسد بضعة ألواح من نوع ما رأيت في يد الأطفال وراح في إغراقة.. عميقة دون أن تؤرقه الجلبة الصاخبة أو تطرد عنه النوم.. وعندما طال وقوفي تطوع أحدهم فأيقظه بعد لأيٍ فقام بفرك عينيه ويتطلع إلى (الشحط) الشاخص أمامه.
أهلاً أخينا.. لقد كنت أحلم بك وأنت تقرأ أمامي.. بشارة خير إن شاء الله.. بكره تقرأ أحسن قراءة على يدي إن شاء الله.. إن شاء الله. (بكرة تحط الجريدة قدامك.. وتقرأ أخبارها بنفسك ومو بس كدا كمان تفهم معانيها زيّنا تمام.. قول إن شاء الله.. إن شاء الله).
- هات يا واد يا سعيد اللوح حقك وريني.
وأسرع الواد سعيد بلوحه فناوله فقيهنا فأمرني بالجلوس ثم أمرني بالزحف حتى اصطكت ركبتاي بركبته وشرع يلقنني لأتابع ما يقول:
- هادا أليف، أليف..
- باء -باء
- تاء -تاء
- ثاء -ثاء
وحسبني بعد أن تابعته في قراءة الحروف الأربعة أكثر من مرة أنني أعجز عن قراءتها معتمداً على نفسي فجعل يشير بإصبعه إلى موضع الألف ويسألني فأنطقها (جيم) -جيم أي يا أخينا.. احنا وصلنا الجيم.. هادي أليف.. ثم يشير إلى الباء ويسألني فأنطقها (صاد) -مين قال لك صاد ومتى وصلنا الصاد ثم يشير إلى التاء.. ويسألني أنطقها (قاف) -أنت أنت يا أخينا راجل بليد.. لا بدك علشان كدا ما تعلمت ثم يعيد من جديد قراءة الحروف الأربعة حرفاً حرفاً فأقرأ قراءة صحيحة.. ثم لا يكاد يتركني لأعتمد على نفسي في القراءة حتى يعاودني الارتباك فإذا الألف أقرأها صاداً أو لاماً وإذا الباء أختار لها أي اسم إلاّ اسم الباء وتكررت المحاولة عشرات المرات فلازمتني البلادة بشكل مثير حتى كاد التمثيل الكاذب ينسيني أسماء الحروف نسياناً كاملاً. استشاط الفقيه غيظاً ورأيت يده تتحسس بحكم العادة موضع الخيزرانة خلفه ولكنه ما كاد يفعل حتى بدا وكأنه قد تذكر أن تلميذه اليوم لا سبيل إلى تأديبه بالعصا.
وتفاقم غيظه فتوترت أعصابه وامتدت يده في عنف إلى اللوح الذي كنت لا أزال أتعثر في قراءته. من هنا كان الطريق..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :372  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 43 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج