من نفائس الأدب العربي |
السيد الحميري شاعر بني هاشم |
شاعر مهيب مكثر، ومع هذا فقد عاش مهجوراً مغمور الذكر، ومن الطريف أنه رغم تفوقه في الشعر وتقدمه على فحول زمانه من الشعراء في أوائل العهد العباسي فإن ذكره مات بموته أو كاد. |
كان أبوه أباضيّاً ولكنه ما كاد يبلغ أشده حتى تشيع للإمام علي بل وأفرط في التشيع حتى أصبح سبّاباً وأفرط في السباب حتى نال لسانه القذر بعض الأئمة من قريش فهجره الناس، وضاقوا بشعره حتى مات ذكره، وعفيت آثاره إلاّ القليل الذي تناقله الناس عن راويته الوحيد إسماعيل بن الساحر.. |
ذكروا أن ليطة بن الفرزدق قال: تذاكرنا الشعر عند أبي فقال: إن هنا لرجلين لو أخذا في معنى الناس لما كنا معهما في شيء، فسألناه من هما؟ فقال: السيد الحميري وعمران بن حطان الدوسي، ولكن الله شغل كل واحد منهما بمذهبه. |
وسمع الأصمعي شيئاً من شعره فاستزاد ثم استزاد طرباً لما يسمع، ثم سأل عن الشاعر فقيل: إنه السيد الحميري. فقال: قبحه الله ما أسلكه لطريق الفحول. |
وتذكر كتب الأدب أنه كان نتن الإبطين وكان جلساؤه يضيقون برائحتهما ولكنهم لا يجرأون على مواجهته بذلك حتى كان ذات ليلة يمازح فتى غليظ الأنف والشفة فقال السيد: أنت زنجي بأنفك وشفتيك، فقال الفتى: وأنت زنجي بلونك وإبطك فأعجبته جرأة الفتى وقال: |
أعارك يوم بعناه رباح |
مشافره وأنفك ذا القبيحا |
وكانت حصتي إبطي منه |
ولوناً حالكاً أمسى فضوحاً |
فهل لك في مبادليتك إبطي |
فأنفك تحمد البيع الربيحا |
فإنك أقبح الفتيان أنفاً |
وإبطي أنتن الآباط ريحا |
|
وقصة السيد الحميري مع قاضي البصرة سوار بن عبد الله العنزي التي تتناقلها بعض كتب الأدب تصور لنا إلى جانب ظرفه لوناً من فحشه في القول. فقد تقدم السيد إلى القاضي سوار ليشهد عنده، وكان القاضي يعرف من سوء سمعة السيد ما لا تجوز معه شهادة. فلما انتهى السيد إلى المجلس قال القاضي: ألست المعروف بالسيد؟ قال: بلى! قال: أستغفر الله من ذنب تجرأت به على الشهادة عندي. قم.. لا أرضى بك. فقام السيد مغضباً وكتب إلى سوار رقعة فيها يقول: |
إن سوار بن عبد الله من شر القضاة.. |
فلما قرأها سوار وثب من مجلسه وقصد أبا جعفر المنصور فسبقه السيد إليه وأنشد: |
قل للإمام الذي ينجى بطاعته |
يوم القيامة من بحبوحة النار |
لا تستعن جزاك اللَّه صالحة |
بأخير من دب في حكم بسوار |
لا تستعن بخبيث الرأي ذي صلف |
جم العيوب عظيم الكبر جبار |
تصحى الخصوم لديه من تجبره |
لا يرفعون إليه لحظ أبصار |
تيهاً وكبراً ولو رفعت له |
من ضعة كان عين الجائع العاري |
|
ودخل سوار والسيد لا يزال في إنشاده فلما رآه المنصور تبسم وقال: أما بلغك خبر إياس بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق واستزار في الشهود، فما أحوجك للتعريض للسيد ولسانه ثم أمر السيد بمصالحته. |
ويذكر الرواة أن سوار القاضي دخل على المنصور مرة فإذا بين يديه السيد الحميري ينشد قصيدته النوتية: |
إن الإله الذي لا شيء يشبهه |
أعطاكم الملك للدنيا وللدين |
|
وكان المنصور يضحك سروراً بما يسمع فحانت منه التفاتة إلى سوار القاضي فإذا وجهه مربد غيظاً. فقال المنصور: أرابك شيء يا سوار؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين هذا الرجل يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه. |
فاستاء السيد وأنشد على الفور يقول: |
يا أمين اللَّه يا منصور يا خير الولاة |
إن سوار بن عبد اللَّه من شر القضاة |
نعتلي جملي لكم غير موت |
جده سارق عنز فجره من فجرات |
وابن من كان ينادي من وراء الحجرات |
يا هناة أخرج إلينا إننا أهل هنات |
مدحنا المدح ومن نرم يصب الزفرات |
فاكفنيه لا كفاه اللَّه شر الطارقات |
|
فخرج سوار من مجلس المنصور وقد اشتد به الحنق ثم عاد في اليوم الثاني يطلب إلى المنصور أن يكفيه شر الحميري، فأمر المنصور شاعرنا الحميري أن يصير إليه معتذراً ثم أمر أن لا يتعرض أحدهما للآخر. |
وكما اشتهر السيد الحميري بحب بني هاشم ومدحهم اشتهر بتعففه عن طلب النوال لما يمدح وكان يزهو على الشعراء من معاصريه بهذا الخلق فقد وقف مرة على بشار وأنشده: |
أيها المادح العباد ليعطى |
إن للَّه ما بأيدي العباد |
فاسأل اللَّه ما طلبت إليهم |
وأرج نفع المنزل العواد |
لا تقل في الجواد ما ليس فيه!! |
وتسمي البخيل باسم الجواد |
|
ومن هنا يستطيع الباحث أن يستنتج أن إدمان شاعرنا على مدح الخلفاء من بني العباس والأئمة من بني هاشم لم يكن مصدره الحرص على استغلال عطاياهم بقدر ما كان إخلاصاً لمذهبه في التشيع وغلوه فيه. على أني لا أستبعد أن يجره هذا الغلو إلى الهوة التي تردى فيها فعاش سباباً فاحش الهجو لكثير ممن عادى آل هاشم، فخسر بذلك مودة الناس حتى مات ذكره وهجر الرواة أكثر شعره رغم جرسه الموسيقي المطبوع. |
قالوا إن بشار قرئ عليه بيتان من الشعر فطرب لهما. فسأل لمن هذا؟ فقالوا إنها للسيد بن الحميري فقال: إن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم ولولا ذلك لشغلنا، ولو شاركنا في مذهبنا لتعبنا. |
ومفهوم هذا معروف واضح يفسر لنا نفسية شاعرنا على حقيقتها ويعطينا صورة صادقة عن شاعريته المطبوعة. |
ومن الغريب الذي كان يعجب له معاصرو السيد الحميري وعشاق شعره أنه كان ينشدهم في فضائل مذهبه وهم يلغطون فقال: |
قد ضيع اللَّه ما جمعت من أدب |
بين الحمير وبين الشاة والبقر |
لا يسمعون إلى قول أجيء به |
وكيف تستمع الأنعام!! للبشر |
أقول ما سكتوا أنس فإن نطقوا |
قلت الضفادع بين الماء والشجر |
|
وقدم السيد الأهواز في ولاية أبي بجير بن سماك الأسدي فنزل على قوم من إخوانه فيها فلما أمسى خرج وحده يتسكع فاستنكره العسس فأخذوه فحبس فكتب من غده أبياتاً في الشعر أرسلها إلى صديق له فدخل بها هذا على والي الأهواز وقال: قد جنى عليك عسسك ما لا قوام لك به. قال: وما ذلك؟ قال اسمع هذه الأبيات كتبها السيد من الحبس فأنشده يقول: |
قف بالديار وحيّها يا مزبع |
وأسأل كيف يجيب من لا يسمع |
إن الديار خلت وليس بجوها |
إلاّ الضوابح والحمام الوقع |
ولقد تكون بها أوانس كالدمى |
جمل وعزة والرباب وبوزع |
حور نواعم لا ترى في مثلها |
أمثالهن من العيان أربع |
فاسم فإنك قد نزلت بمنزل |
عند الأمير تضر فيه! وتنفع! |
|
فما عتم أن أمر بإطلاقه. |
هذا بعض ما حفظه رواة الشعر لشاعرنا المطبوع وهو كما ترى شعر مطواعاً لا يتكلف القافية ولولا فحشه في سباب مخالفيه في الرأي والعقيدة لأمتعتنا كتب الأدب الكثير الذي يهز المشاعر. |
|