شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من هنا كان الطريق..
قصة هنري فورد
حياة العصاميين، في أي أمة، لون يغري بالاستقصاء، وتلذ قصته لكل متطلع، يلتمس النجاح من كافة وجوهه، ولا فرق، في رأي البحث العلمي، بين جنس وآخر، ما دام الهدف يرمي إلى دراسة الفكرة، لحقيقتها العلمية.
وتحضرني بهذه المناسبة، قصة هنري فورد الأميركي، صاحب المصانع الشهيرة، والصيت الداوي في جميع أركان الأرض.
لم يرث فورد صيته عن عائلته، وقد كانوا من صغار المزارعين. ولم يهيئه أبوه لهذا المركز، الذي فاق إنتاجه فوق جميع المبالغات، لأن أباه عاش متوسط الحال محدود الآمال.
لم يرث فورد صيته أو مركزه، إلاّ من عزمه الماضي، ودأبه القوي، واعتماده على مجهوده الفردي. فقد حاول أبوه أن ينشئه مربوطاً إلى الحقل الزراعي الذي يملكه فلم يمانع الطفل، ولكنه كان يشعر، أنه في حاجة إلى إحداث شيء جديد، يرضي به نزعته، ويفيد به مهنة أبيه، فهداه طول التفكير، إلى صنع دولاب، تديره المياه المنحدرة. ولم يخنه التوفيق فيما صنع، بل شجعه إلى خطوة أخرى، استطاع أن يهتدي فيها إلى صنع آلة صغيرة تدرس الحبوب.
ولقي الفتى من ثناء الفلاحين وتقديرهم، ما دفعه إلى التفكير في آفاق أوسع.. لم تكن آفاقاً واضحة المعالم، محدودة المسالك. ولكنها على كل آفاق، كان يشعر أن تفكيره موزع بين آمادها، حتى صادفته في إحدى رحلاته قاطرة، رآها تسير بمحرك بخاري، وهي من النوع الذي كان يستعمل في بعض بلاد أوروبا، قبل أن ترقى صناعة قطار السكة الحديد. فأدهشه ما رأى، واندفع يتفقد تركيبها، ويبحث عن سر محركها، ويسأل سائقها، عما تعقد عليه فهمه من أمرها، حتى إذا تفتقت له الفكرة عن بعض ما غمض منها، هام هيام الدنف، وأصر عزمه على تقليده في أسلوب لا يكلفه هذا التعقيد، ولا يرهق ماليته المحدودة.
ولم يمض وقت طويل، حتى خرج إلى الناس بآلة صغيرة، جعلها على دراجة، استعارها من أحد جيرانه. ثم شرع يؤكد لصاحب الدراجة، أن في استطاعته أن يستغني عن تحريك رجليه، إذا أراد ركوبها. ولكن صاحب الدراجة، أبى أن يقوم بهذه التجربة. فما كان من فورد إلاّ أن قفز على الدراجة، وأدار المحرك الجديد، فانطلقت في سبيلها. وهكذا تم اختراع أول دراجة آلية (موتوسيكل).
وراقت هذه الفكرة لفورد، وشعر أن في استطاعته تحسينها. فصابر على البحث، في جرأة نادرة، وعزم لا يخور، وإصرار لا يهزم، رغم أن سنه لم تكن يومئذ تتجاوز السابعة عشرة.
ويقال أن فورد كان يستعير الكتب التي تعنى بالميكانيكا، وينكب على دراستها، وأنه كان مغرماً بمناقشة المهندسين الذين تجمعه بهم الصدفة، في كثير من أسرار مهنتهم.. يقال هذا ويقال أكثر من هذا.. ولكن الذي يعجبنا فيما يقال هو أن فورد، ما فتئ أن أعلن في جيرانه أن تصميمه الجديد، لا تقاس به الدراجة الآلية ولا تضاهيه، لأنه مجهز بكرسي واسع، مثبت فوق أربع عجلات، يدار محركها بالوقود، فتندفع بسرعة، تفوق سرعة الخيل. أعلنهم هذا، ثم دعاهم إلى فناء بيته، فإذا (أوتومبيله) الجديد قائم في صدر الفناء، على مثل عجلات الدراجة الآلية (الموتوسيكل).
ودرج به في اليوم الثاني في شوارع (دوترويت) مدينته الصغيرة، فكان ذلك مفاجأة، اضطربت لها حركة المرور. ووقف المكارون، من أصحاب البغال والحمير مشدوهي الأفواه، لا يكادون يصدقون أن عربة فورد غير مربوطة بدابة. أما جماهير المارة، وأما أصحاب الحوانيت والباعة، وأما الفتيان والأطفال، فقد غصت بهم الطرق، وازدحمت الدروب، وسدوا جميع المسالك على عربة فورد السحرية، والكل يبحث عن المكان الذي تختبئ فيه الدابة، التي تسيِّر العربة.
وعندما استطاع فورد الفتى، أن يبيع النسخة الثانية، من نموذج (أوتومبيله). السحري، بمبلغ من الدولارات يوازي أربعين جنيهاً، لم تحدثه نفسه أن ينفق هذه النقود على المتع والمسرات، شأن الفتيان أمثاله، بل آلى أن لا يصرف منها سنتاً واحداً، في غير التجارب الجديدة، والاختبارات المتوالية، سعياً وراء التحسينات، التي تخيلها لمستقبل أوتومبيله. فجالد العيش الخشن، وقاسى من ألوان التقتير، ما لا يتحمله إلاّ مجاهد صابر.
وعرضت عليه بعض الشركات الكهربائية، أعمالاً هندسية في مصانعها. وأرادت أن تستفيد من مواهبه، فأغرته بالمرتبات السخية. ولكنه أبى إلاّ أن يكون كبيراً على كل إغراء، رغم حاجته إلى الإنفاق على بيته وزوجه.
ورحبت زوجه بما رأت من إبائه.. فقد كانت عظيمة الثقة بكفاءته، قوية الإيمان بمستقبله.
وعندما أهاب بأصحاب رؤوس الأموال، أن يحققوا فكرته، في إنشاء مصنع لأتومبيله، ينتج العدد الوافر من السيارات، سارع الكثيرون إلى مده بالمال، فأسس شركته الأولى، وشرع يتوسع في أعماله، ويبذل كل جهد لتحسين اختراعه.
ولكنه ما لبث أن اختلف مع أصحاب رؤوس الأموال، الذين اشتركوا معه. ذلك أنهم كانوا يأبون إلاّ أن يبالغوا في تقدير الأسعار، لتتضاعف أرباحهم وتزداد مكاسبهم، في حين كان رأي فورد، وكل همه، توسيع المصنع، وخفض تكاليف الإنتاج ليصبح الأتومبيل رخيصاً وفي متناول متوسطي الحال من الناس، فيزيد التوزيع ويصبح الربح مضموناً.
ولما تطور الخلاف، وأبى أصحاب الأموال أن يوافقوا على رأيه، آثر فورد أن يستقيل من شركتهم، وأن ينفرد في تأسيس مصنع صغير، يمكنه أن يتطور بتوالي الأيام، وأن يحقق الغرض، الذي عاش فورد يهدف إليه، طوال حياته الحافلة بالكدح والكفاح.
ولم يكن فورد يملك المال الكافي لتأسيس المصنع الجديد. فاختار شركاءه الجدد في هذه المرة، ممن قبلوا أن يفوضوه في إدارة الأعمال، على الطريقة التي يستصوبها هو. وهكذا استطاع فورد أن يبني مصنعاً جديداً لصنع السيارات، برأس مال مساهم، لم تكن حصته فيه تتجاوز 25 في المائة.
ولم تمض بضع سنوات على تأسيس المصنع الجديد، حتى بلغ عدد عماله 35 ألف عامل، ونما إنتاجه حتى وصل إلى نصف مليون سيارة في العام الواحد. وظل هذا الإنتاج يزداد، حتى أصبح اليوم عدة ملايين من السيارات.
وفي غمرة نجاحه، خلال السنوات الأولى، استطاع فورد أن يشتري نصف الأسهم، التي يملكها شركاؤه، بعد أن دفع قيمتها مضاعفة آلاف المرات، ثم عاد فاشترى الباقي، بما يوازي 14 مليوناً من الدولارات.
لم يكن تأسيس الشركة الجديدة العمل الوحيد الذي حققه فورد بعد انفصاله عن شركائه الأوائل، إثر خلافه معهم، بل كان هنالك عمل آخر، أذهل أصحاب المصانع الأمريكية، ألا وهو رفع رواتب موظفيه لدرجة لم يسبق لعمال المصانع أن حلموا بها. ونتيجة لهذا العمل سارعت المصانع الأمريكية الأخرى إلى رفع رواتب موظفيها، حاذية بذلك حذو فورد، فارتفع مستوى معيشة العمال الصناعيين في الولايات المتحدة، لدرجة لم يسبق لها مثيل في العالم.
ويكمن سر نجاح فورد في إدارة عمليات مصنعه، في الوسائل التي اتبعها لمضاعفة إنتاج شركته، بنسبة كبيرة، كانت تعتبر فيما مضى ضرباً من المستحيل. وقد كانت أهم تلك الوسائل وأكثرها فعالية، الطريقة الجديدة التي أدخلها فورد على مصنعه لأول مرة، هي خط التجميع التي قلبت الصناعات رأساً على عقب، وغيرتها، ليس في أمريكا فحسب بل وفي جميع بلدان العالم.
وهكذا وبفضل الطريقة الجديدة التي أدخلها فورد على الصناعات، تمكّن حتى متوسطو الدخل من اقتناء السيارات التي ينتجها مصنعه بعد أن انخفضت أسعارها بنسبة كبيرة لم تكن في حسبان أصحاب المصانع الأخرى مطلقاً.
لقد كان فورد، طيلة أيام حياته، كريماً في تبرعاته للمؤسسات الإنسانية والجمعيات الخيرية، سواء الموجودة في بلاده أو في البلدان الأخرى. وقد حذا أحفاده، وفي مقدمتهم هنري فورد الثالث حذوه في التسابق لعمل الخير بإشراكهم تلك المؤسسات الإنسانية في ثروتهم، بنسبة يمكننا تصورها لو علمنا أن مؤسسة فورد قد خصصت أضخم مبلغ من المال يصرف على المشاريع العلمية والاجتماعية والاقتصادية في كثير من البلدان.
تلك عصامية فلاح، دفعته المزرعة إلى خضم الحياة الواسع، فناضل حتى بلغ أعلى المراتب، واستطاع أن يجني من ثمرة أتعابه مئات الملايين.. فهل يسمع شبابنا؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :395  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.