شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نشأة الصحافة والأدب في الحجاز
إذا تراءى لنا أن نؤرخ لنشأة الأدب الجديد في الحجاز تعين علينا أن ندرس الإرهاصات التي هيأت لنشأته في أواخر العهد العثماني.
ومن المعلوم لكل متتبع أن الحجاز عاش في ظل العثمانيين ما يزيد على أربعة قرون ومع هذا كانت علاقة المتبوع لا تزيد في حقيقتها عن بذل الأعطيات السخية للتابع ومساعدته على الحياة الرخوة حتى كانت صدقات الغلال ومنح النقد تعم جل البيوت وخاصة في مكة والمدينة.
كان أقصى ما يهم العثمانيين في هذه البلاد شرف الانتساب إلى خدمة الحرمين وأن يدعو خطيبها باسمهم وأن يعتبروا أصحابه مجموعة متواكلة اعتكفت بجوار الحرم لتطوف بالحجاج وتخدم الزوار وتدعو للخليفة السخي.
لذلك لم يدر بخلدهم أن يطوروه ولو إلى الحد الضئيل الذي خدموا فيه بلاداً عربية أخرى كانت محكومة لسلطانهم حتى المدارس عزّ عليهم أن يؤسسوها إلاّ ما كان منها لخدمة قضيتهم في تتريك العرب أو إعداد جيل صالح لخدمة وظائفهم المحدودة.
ولولا أن نفراً من المسلمين في الهند أخذتهم الحمية لهذا البلد فتطوعوا بتأسيس بعض المدارس كالمدرسة الصولتية والفخرية في مكة والفلاح في مكة وجدة ودار العلوم في المدينة ولولا الجهود الخاصة التي بذلتها بيوت العلم في مدن الحجاز ممثلة في حلقات المساجد التي كانت تغص بطلابها لعاشت الأمية في الحجاز ضاربة أطنابها بشكل مقيت.
لولا هذه العناية الفردية التي كانت تحتسب أعمالها لوجه الله وخدمة الوطن لعاش الحجاز في أمية شاملة عامة.
في هذه الأثناء وكان القرن الرابع الهجري قد أهل هلاله ومضى بصيص خافت في سماء الأدب كنتيجة للجهود الفردية التي أشرت إليها فاشتهر عبد المحسن الصحاف وعبد الواحد الأشرم بالشعر في مكة واشتهر عبد الجليل براده وإبراهيم الأسكوبي في المدينة كما اشتهر غيرهم في جدة والطائف أشخاص معدودون لا يتجاوز مجموعهم الكلي عدد أصابع اليد ولمعت شهرتهم في أساليب الشعر التقليدية التي كانت معروفة في عهدهم من تشطير إلى تشجير إلى معارضة تكثر فيها المحسنات البديعية على اختلاف أنواعها.
وفي هذه الأثناء تراءى لأولياء الأمر من العثمانيين أن يتحفوا الحجاز بجريدة تصدر عن مكة لتعبر عن آرائهم وتجمع قلوب الرعايا حول سلطانهم فقد فاحت رائحة الدستور بين طالبي الإصلاح في الآستانة واتصل الخبر ببعض كبار الموظفين في سائر الولايات ومنها الحجاز فكان لا بد من الدعاية لخلق الجو المناسب فكانت جريدة (الحجاز) التي أسس لها عثمان باشا مطبعة خاصة في مطلع هذا القرن أسسها في أجياد فخدمت السلطنة العثمانية كما خدمت الدستوريين العثمانيين بعدهم كما خدمت الحكومة الهاشمية. وظلت على خدمتها حتى توسع مجالها وأضيفت إليها طابعات وآلات وأدوات من أنواع كثيرة في عهدنا هذا ثم اضطرتنا أعمال التوسعة في المسجد الحرام إلى الانتقال من مكانها إلى مداخل أجياد خلف مبنى وزارة المالية.
صدرت جريدة الحجاز عن هذه المطبعة في أربع صفحات أسبوعية عام 1301هـ وكان يرأس تحريرها مكتوبجي الولاية أي رئيس كتاب الوالي العثماني ومساعده في التحرير أحمد جمال أفندي منشئ ديوان الولاية أي المحرر في الديوان وأحمد أفندي من كتاب الديوان ثم أضيف إليهم الشيخ محمود شلهوب المعروف كما أضيف إليهم غيرهم من الشبان المخلصين للولاية.
وعندما ثار الدستوريون على الخلافة استطاعوا أن يستخدموا جريدة الحجاز لمبادئهم الثورية ثم أنشأوا إلى جانبها في مكة جريدة شمس الحقيقة باللغتين العربية والتركية وجريدة الصفا في جدة باللغة العربية ولم يصدر منها إلاّ عدد واحد ثم جريدة الإصلاح في مكة وقد ندبوا لتحريرها (أديب الهراوي) وهو من صحفيي لبنان ولم يصدر منها إلاّ نحو 20 عدداً ثم عطلوها بعد أن أنسوا منها ما لا يعجبهم.
ويقول الأستاذ محمد سعيد العامودي في كتابه (من تاريخنا) إنه لم يكن لهذه الصحف قيمة أدبية أو سياسية أو أي أثر في تكوين الوعي أو توجيه الفكر وينقل نموذجاً من جريدة شمس الحقيقة للتدليل على مستوى الكتابة في هذه الصحف وقد جاء فيه:
(ينبغي لمن شاء أن يكاتبنا في موضوع أن ينبذ وراءه المصلحة الذاتية فإن الأفكار الراقية التي لا تعميها الأغراض الشخصية ولا الأطماع الذاتية تنظر بنور الله إلى مصلحة الوطن العمومية.
ألا ترى سيدنا موسى كليم الله عليه السلام قال أغرقتها لتغرق أهلها ولم يقل لتغرقني نظر في ذلك لغيره وقدمه على شخصه وقت الغرق الذي لا يعرف الإنسان فيه إلاّ نفسه فليخش الله الكاتبون وليتق الله المحررون ولا يحرروا لجريدتنا إلاّ الحقيقة لأنها شمس الحقيقة ثم ليكتبوا في دائرة واجبات الصحافة الحرة التي ذكرناها سابقاً لأن جريدتنا لا تبتعد عن المثالية وما في معناها ذلك ونسأل الله التوفيق لصالح الوطن.
في هذه الأثناء كانت رغم هذا قد لمعت في سماء الشعر أسماء كان من أشهرهم محمد صبحي طه ثم ما لبثت أن خبت الأسماء وضاعت في غمرة الحياة.
وثار الحسين على الدستوريين العثمانيين ثورته المعروفة فألغى مدارس تتريك العرب وأنشأ على أنقاضها مدارس عربية.. أنشأ في مكة أربع مدارس ومدرسة واحدة أو -مدرستين في بعض المدن الظاهرة.
واستقدم الشيخ كامل القصاب من سوريا ليدير إدارة المعارف وشكل له هيئة من علماء المسجد الحرام ليساعدوه على توجيه منهج الدراسة الوجهة التي يراها الحسين جديرة ببلاده.
كانت مدارس أولية أو ما فوق الأولية بقليل ولكنها إلى جانب مدارس الفلاح والصولتية والفخرية استطاعت أن تفتق الوعي إلى حد وأن تنشئ جيلاً قارئاً يتعشق المطالعة ويلذ له التوسع فيها فكان هذا الجيل الذي نسميه اليوم (أدباءنا الشيوخ) أو الرعيل الأول.
كان رحمه الله لا يرى التوسع في المعرفة بالشكل الذي نراه اليوم كان لا يستحسن بعث البعوث إلى المدارس الراقية في الخارج ولا إلى الجامعات، كان يقول تلقينا علومنا حسبنا ألاّ نستقي من علوم الفرنجة، ولهذا كان نصيب الشبيبة في ذلك العهد محدوداً الحد الذي ترونه اليوم ومع هذا كانوا يتمتعون بأرواح حية متوثبة.
وأصدر الحسين على أثر استقلاله بالحجاز جريدة القبلة لتدافع عن آرائه في النهضة العربية وكان يحررها فؤاد الخطيب ومحب الدين الخطيب وأحمد شاكر الكرمي وكلهم سوريون ثم صدرت جريدة الفلاح لصاحبها عمر شاكر وهي جريدة سورية كان صاحبها يصدرها في دمشق فلما سقطت سوريا في يد الفرنسيين هاجر الرجل إلى مكة واستأذن الحسين في إصدار جريدته بمكة فصدرت ثم ما لبث أن اختلف مع الحسين فتعطلت الفلاح عن الصدور واستغنى الحسين عن المحررين في القبلة من السوريين فندب لتحريرها الشيخ الطيب الساسي كما ندب الشيخ حسين الصبان لإدارة أعمالها.
وصدرت في عهد استقلال الحسين مجلة الزراعة على أثر تأسيسه مدرسة الزراعة ولكنها لم تتجاوز العدد الثالث.
في هذه الأثناء كان بعض شباب الجيل قد علق بالقراءة وتعشق الأدب في مجال ضيق لا يتسع لغير الهمس الخافت ذلك لأن الحسين رحمه الله كان شديد الحذر وكان لا يرى للأقلام حقاً في أن تصول، حَسْب الشباب أن يواصل نشاطه في قراءة أمهات كتب الأدب الموروثة وألاّ يشغل نفسه بالصحف. ففي جريدة القبلة ما يغنيه.. وبذلك مضى عهد الحسين رحمه الله دون أن يترك أثراً أدبياً يذكر إلاّ ما كان يعتلج في صدور بعض الشباب في العهد.
وعندما تنازل الحسين وانتقلت حكومته إلى جدة لتحاصر فيها تحت حكم الملك علي وانتقل بانتقال الحكومة أعيان الأهالي والمتعلمين والشباب صدرت في جدة جريدة بريد الحجاز وكان صاحب امتيازها الشيخ محمد صالح نصيف، عند ذلك وجدت الصدور متنفساً في بعض المجالات وقرئ للشباب من مكة وجدة بعض النفثات الشعرية والنثرية.
واستقر الأمر في الحجاز للملك عبد العزيز رحمه الله فانتقلت جريدة بريد الحجاز إلى مكة ليصدرها صاحب امتيازها الشيخ محمد صالح نصيف باسم جريدة صوت الحجاز إلى جانب الجريدة الرسمية التي أصدرتها الحكومة الجديدة باسم (أم القرى) التي كان يرأسها الشيخ يوسف ياسين.
بدأ الشباب كخطوة أولى يجدون متنفسهم في جريدة صوت الحجاز وبدأت تظهر بعض أسمائهم بين حقولها في صور شعرية أو نثرية، مجالات تكاد أن تكون مقتصرة على الأدب أو نقد الشؤون العامة في المجتمع أو بعض الدوائر الرسمية ذات الاختصاص الشعبي.
وصدر في هذه الأثناء للأستاذ محمد حسن عواد كتاب خواطر مصرحة فأحدث ضجة بين أوساط العلماء وبعض البارزين في المجتمع لأنه ينقد بعض النواحي التي لم يألفوا نقدها وأحيل صاحب الكتاب إلى المحاكمة ولكن الأمر ما لبث أن سُوّي ولم يثبت ما يدين صاحب الكتاب.
وبدأ التعاون بين بعض الشباب في مكة فكانوا يجتمعون ويتزاورون ويتراسلون وتتصل مراسلاتهم بالشباب في جدة والمدينة في محور لا يتعدى المجال الأدبي نثراً وشعراً ووقع بعضهم في شراك البعض الآخر فكانت معارضات وانتهت بنفر منهم إلى مهاجاة ثقيلة ولكنها في الوقت نفسه كانت تمثل ألواناً من الشعر الحي المتوقد لو استطعنا تنقيته وتسجيله لكان أثراً خالداً يصور الجيل الذي عاشه أدق تصوير.
في هذه الفترة المبكرة لمع في مكة من شبابنا الأساتذة محمد سرور الصبان، عبد الوهاب آشي، محمد سعيد العامودي، جميل مقادمي، عمر عرب حسين نظيف، كانوا يتحلقون حول الشيخ محمد سرور؛ فقد كانت له مكتبة في الشارع اليوسفي لبيع الكتب الأدبية وكان له مركز في ردهة المكتبة يجمع بعضهم كما كان بيته في المسفلة مجمعاً لسمرهم في أكثر الليالي كما كانت للشيخ حسين نظيف خلوة عند باب العتيق تجمعهم في بعض ساعات النهار.
وتتابع ظهور الأسماء في مكة -وسيأتي ذكر غيرها فيما بعد.. أقول تتابع ظهور الأسماء في مكة لتضاف إلى ما قدمت وليكوِّنوا ما نسميه بالرعيل الأول فكان الأساتذة محمد حسن فقي، حسين سرحان، أحمد غزاوي، أحمد العربي، عبد السلام عمر، أمين عقيل، عبد الله فدا، حامد كعكي، عزيز ضياء، محمد سعيد عبد المقصود، وأخيراً أحمد سباعي إذا قبلوا إدراجه بين أسمائهم.
ولعلّ في قصة إلحاق هذا الأخير الماثل أمامكم ليمضي في ركاب الرعيل الأول ما يثير الضحك، فقد تسامعت بخبر هذا النفر وكنت قد علقت القراءة وتعشقت الأدب، فعنّ لي أن أجرب قلمي.. كنت يومها شاباً أشتغل بالتدريس وليس بين الرعيل إياه من يعرف حتى اسمي فأنشأت أجرب قلمي خفية ولكن هل أنشره في السطح.. تراءى لي أن أجمعه فيما يشبه المجلة أو الكتاب وأقتحم به هدوء الشيخ محمد سرور وأبرز الشلة يومها.. أعتقد أن الشيخ محمد سرور ضحك يومها ملء صدره من هذه (الخبصة) بعد أن قرأ بعض وريقاتها ولكنه الشيخ محمد سرور الذي يعرف كيف يتصرف في تعابير وجهه حتى لا تنطق إلاّ بما يريده هو.
قال الشيخ ليس لي جريدة لأنشر لك فيها.. قلت هل يصلح ليطبع ككتاب وهل تشاركني في طبعه. قال لا بأس. قلت كم يكلفني طبعه. قال يكفيك عشرون جنيهاً. قلت سأدفع منها عشرة وتدفع الباقي. قال لا بأس.
قدمت إليه الكتاب مصحوباً بعشرة جنيهات -حيلة الشب يا رب- وسألته عن اسم الكتاب قال أقترح أن تسميه (حبر على ورق) كان يتعين عليّ أن أفهم ولكنه الذكاء المحدود كما أن فرحتي بنفسي كمؤلف جديد طغت عليّ حتى على هذا الذكاء المحدود.
أودع الشيخ محمد سرور الكتاب والنقود على أحد الرفوف في بيته (ستره ومصونه) كما يقولون (وكتم الدم على القيح) وإذا كان لي ما أحمده عليه فذلك أنه لم يفضحني.
فين يا شيخ محمد الكتاب؟ والله ما وصل.. كمان ما وصل.. كمان ما وصل.. مضت شهور تتلوها شهور وأنا أحلم بالكتاب غلافه أصفر.. لا أخضر.. متين.. لا.. رفيع.. طويل.. لا قصير والشيخ محمد هو الشيخ محمد لا تعرف أن تأخذ منه كلمة وعلى عادته لا تنطق تعابير وجهه بحرف.
واعتزمت السفر إلى مصر بعد هذه الشهور الطويلة.. أيش رأيك يا شيخ محمد تعطيني كتاباً للمطبعة أستلم منها الكتاب.. كان يتعين على الشيخ محمد أن يرتج عليه ولكنه كعادته يترك الحلوى لأوقاتها.. تفضل هذا الكتاب وهذا عنوان المطبعة.. وانتهيت إلى المطبعة وكان يديرها الأستاذ خير الدين الزركلي.. شو يا ولدي هاي كتاب ما شفته.. ما وصل إلي.. ترى هل ضاع والله ما بعرف.. وعدت بعودتي من مصر إلى الشيخ محمد أسأله ففكر طويلاً ثم قال عادت أصول الكتاب وعادت الفلوس.. لا أعرف كيف انقشع الغبار عن ذهني وبدأت أفهم. قلت هل تأذن لي بالكتاب قال تفضل ها هو ذا الكتاب وهذه هي الفلوس.
كنت في هذه الأثناء قد بدأت أنشر بعض المقالات تحت تأثير أني أصبحت مؤلفاً بشهادة الشيخ محمد سرور وشهادة العشرة جنيهات.. رفض رئيس تحرير صوت الحجاز يومها الشيخ عبد الوهاب آشي أن ينشر لي أول مقال فسكت على (كسفتي) دون أن -أحرك ساكناً أو أذيع سراً لا كما يفعل ناشئتنا اليوم.. ولما خلف بعده السيد محمد حسن فقي في رئاسة التحرير كان فيما يبدو محتاجاً لما يملأ به الجريدة في أول يوم من أيام عمله فالتجأ إلى درج المهملات ليعثر على مقالي المهمل وينشره، كان يوماً مشهوداً أقفلت فيه الباب على نفسي ورحت أرقص على نغمات المقال وأنا أقرأ وأورد ما أقرأ بالغنة والمد.
ما كان لي أن أسرق من وقتكم في الحديث عن شخصي ولكنها المناسبة أردت -اهتبالها.. سقت نفسي إلى المشرحة لتأخذ ناشئتنا الجديدة ما يهمها من دروس -المشرحة ولا أملك أن أسوق غيري إلى التشريح وإن كنت واثقاً أن ما أصابهم لا يقل بحال عما أصابني.
ولمعت في هذه الأثناء في جدة والمدينة أسماء تضاف إلى الرعيل الأول كان منها في جدة الأساتذة محمد حسن عواد، حمزة شحاتة، محمود عارف وفي المدينة الأساتذة عبد القدوس الأنصاري، محمد حسين زيدان، علي حافظ، عثمان حافظ، أمين مدني وعبد الحق النقشبندي إلى غيرهم مما لا أستطيع استقصاءه في جدة والمدينة لقلة اختلاطي بهم يومها ولا بد أنهم كانت لهم مجتمعات وندوات يستطيع غيري من المدينتين أن يتحدث عنها بإسهاب لا أعرف تفاصيله.
وأستأنف دعوتي إلى مكة مرة أخرى لأن من بين الملحقين بالرعيل الأول شاباً يتعيّن عليّ أن أقف عنده بعض الوقت هذا الشاب هو المرحوم محمد سعيد عبد المقصود، تعشق الأدب وأقحم نفسه في زمرة المتأدبين فأبرز نشاطاً قليل المثال كان يعمل في حسابات جريدة أم القرى وكان يديرها ويحررها يومذاك الأستاذ رشدي ملحس وعندما نقل الأستاذ رشدي إلى الرياض للعمل في قصر الملك عبد العزيز رحمه الله أناب عنه في الإدارة والتحرير أخانا عبد المقصود.. نسي عبد المقصود أنه يحرر جريدة رسمية لا تتخطى حدود البلاغات والنشرات والأوامر الرسمية وراح يفسح لقلمه فيها مجالاً بتوقيع الغربال غربل فيها أوضاع البلاد وتقاليدها في مقالات مطولة متسلسلة كانت تتميز بجرأة غريبة لم تألفها مجتمعاتنا بعد.
بهذه الجرأة استطاع أن يقفز من ذيل القائمة إلى صدرها ليقود إخوانه إلى ندوات واجتماعات كان لها صداها المدوي.
كان يجمعنا إلى بيته لنناقش شؤون الشباب وعندما اقترح البعض أن يقيم الشباب احتفالاً عاماً سنوياً في منى يدعو إليه علماء الحجاج وأعيانهم وأدباءهم ورجال الفكر -ليستعرضوا الشباب الجديد في هذا البلد ويعرفوا مدى ما أنجب.
اضطلع رحمه الله بأهم الأعمال في الموضوع ووجد والحق يقال للتأريخ من وكيل وزارة الخارجية السيد فؤاد حمزة والشيخ محمد سرور تشجيعاً أدبياً غريب المثال كما وجد من المرحوم الشيخ عبد الله السليمان تشجيعاً مادياً له قيمته الفعّالة.
واستمر الشباب يقيم حفلة سنوياً في منى وبعد أن يقدم خطباءه يترك المنبر للحجاج ليتباروا بما عندهم من ألوان ولكن بعد سنوات رأينا منبر الحفل وقد بات مثاراً للجدل المذهبي ومجالاً لدعاوى السياسات المختلفة في العالم وأن أغراضه الأدبية ضاعت بين ما يثار فاستغنينا عن الحفل وألغيناه.
كان الشباب من هذا الرعيل متوثباً دائم الحركة موفور النشاط أذكر أنه عندما وافت الأخبار بعودة بعثة الطيران التي سافرت إلى إيطاليا لتتعلم قيادة الطائرات وميكانيكيتها قرر الشباب في أحد اجتماعاته أن يستقبلهم بحفاوة صارخة فخفوا عن بكرة أبيهم إلى جدة واستقبلوهم باسم الشباب على الرصيف هاتفين بحياتهم وحياة الشباب ثم خرجوا بهم إلى مدينة جدة محمولين على الأعناق وأعلنوا في جريدتهم صوت الحجاز أنه سيحتفل بهم عند مداخل جرول وأن الدعوة عامة فهرعت زرافات المواطنين في مكة إلى مكان الاحتفال. ليست هناك مقاعد، لا، ولا مخيمات إنما هي قطعة أرض واسعة اختاروها تحت ظل أحد الجبال أقاموا في وسطها منبراً لا أكثر وقف أمامها الطيارون وازدحم الناس حولهم وقوفاً حتى ألقيت كلمة الترحيب وقصيدة من الشعر النابض ثم انتهى الاحتفال ومشى الموكب في سيارته يقطع شوارع البلدة من أبعد طريق يحف بهم الشباب هاتفين بحياتهم وحياة الأمة في أصوات رهيبة رددت صداها جميع الشوارع فتنبه الناس إلى أن في البيداء طلعاً ناهضاً من الشباب.
وأذكر من قرارات الشباب أنه اجتمع مرة وكان الوقت في رمضان وقرر أن تستغني البلاد عن تقديم الحلوى في أيام العيد لأنها من صنع أجنبي وأن يكتفوا بتقديم نوع من التمر واللوز البجلي.. أعلنوا هذا في صحيفتهم صوت الحجاز ونفذوه جميعاً في بيوتهم على أمل أن يتأسى الناس بهم ولكن العادة التقليدية أبت أن ترضخ لما قرروا إلاّ في بعض بيوت المتحمسين.
كما أذكر قصة مشروع القرش فقد قرر الشباب في بعض اجتماعاته فأعلنوه في جريدة صوت الحجاز يستنفرون من يتطوع لخدمة المشروع وأعدوا لاستحصال القرش من الجماهير أوراقاً في حجم طوابع البريد جعلوا قيمة الورقة قرشاً ودفعوا بها إلى المتطوعين لاستحصال ما يستطيعون استحصاله من بيعها على الجماهير وكانوا يرجون أن يعيدوا الكرة سنوياً حتى تتجمد في صندوق القرش مبالغ تبني لهم مصنعاً أو عملاً يفيد البلاد ولكن بعض المتطوعين تباطأوا في استئناف العمل عند خطوته الثانية فتخاذل المشروع وبقيت حصيلة القرش في عامه الأول محفوظة كوديعة في البنك. فليت شبابنا الجديد يستأنف ما فات على الشباب القديم فيسعى لتأمين جماعة يتطوعون للعمل من جديد ويستطيع الشباب الجديد إذا أثبت جدارته عاماً بعد آخر أن يستحصل الحصيلة القديمة ليضيفها إلى تحصيله الجديد.
ودعا المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود إلى إبراز الأدب الحجازي في مؤلف يسجل آثارهم فاستجاب الشباب لدعوته في مكة والمدينة وجدة وانهالت الرسائل تحمل إنتاج الأدباء والشعراء فشكلت للقراءة والفحص لجنة كانت تجتمع يومياً حتى تمت لها المجموعة التي صدرت باسم (وحي الصحراء) في طباعة أنيقة التزم إخراجها وأنفق عليها محمد سعيد عبد المقصود وعاونه على إعدادها صديق له كان من الطلاب يومها هو الأستاذ عبد الله بلخير المدير العام للإذاعة والصحافة فيما بعد.
وزخرت مكة يومها بعديد من الفتيان كانوا دون سن الشباب أو حوله كنا نسميهم الناشئة استفزهم عمل الشباب (في وحي الصحراء) فقرروا أن يكون لهم مثل مجموعة وحي الصحراء (ليش هما ما هم أحسن مننا) وكان محور الحركة كهلاً تعرفونه اليوم دائب النشاط رغم سنه الذي أوفى على الستين أو كاد ذلك هو الأستاذ عبد السلام الساسي.
استطاع أن يجمع إليه فريقاً من الطلبة النابهين الذين أطلقنا عليهم يومها ناشئة لنحتفظ بمراكزنا في طليعتهم كما كان يتراءى لنا.. كان منهم الأساتذة المرحوم عبد الله عريف، حسين عرب، هاشم زواوي، السيد علي فدعق، حمد الجاسر، أحمد عطار، عبد المجيد شبكشي، حسين خزندار، طاهر زمخشري، حسن قرشي، محمد علي قطب وعبد المجيد مشخص وغيرهم وغيرهم.
استطاع الساسي أن يجمع إليه رصفاءه الذين ذكرت وأن يصدر بمساعدتهم مجموعة أسموها ((نفثات -بأقلام الشباب الحجازي)) وكأنما أرادوا أن يضعوا في عيون الشباب إنتاجهم ليثبتوا أنهم شباب لا يجوز أن يطلق عليهم معنى الناشئة.
هؤلاء الناشئة كما كنا نصر على تسميتهم أو الشباب كما كانوا يؤكدون لأنفسهم رغم أنوفنا أصبحوا اليوم كهولاً أو شيوخاً واستطاع أكثرهم أن يتخطى الحدود الفارقة بينهم وبين من سبقهم إلى مجال الأدب وربما أنكروا حتى فارق السن وأبوا إلاّ أن يلحقوا أسماءهم بقائمة الرعيل الأول وهذا ما نخشى سمعته عليهم لئلا يقال أنهم ((عجائز)).
كأنه بين عيني الآن يوم كان الساسي والعريف والعطار والزمخشري والخازندار والفدعق والعرب وكثير من أمثالهم الناشئين ينظرون إلينا أصحاب الرعيل الأول نظرة فيها كثير من الدهشة كنا في رأيهم موهوبين بشكل ممتاز.
كان هذا قبل أن يبرزوا وقبل أن تلمع أسماؤهم.. كانوا يقرأون ما نكتب بنهم ولا أذيع سراً إذا قلت أنهم كانوا يلاحقوننا صباح مساء في المطبعة وفي مكتب الجريدة متطوعين بخدماتهم للصحيفة على أمل أن يصبحوا أنداداً ولم يدر بخلد بعضهم يومها أنه سيحقق في مجال الأدب ما حققه اليوم من نجاح يستحق الحسد.
أذكر أن هذا الأخ عبد الله عريف عثر بنسخة من مؤلفي سلم القراءة العربية عند بعض أقربائه من صغار التلاميذ وكان الأستاذ بدوره لا يزال طالباً في سنيه العالية بمدرسة الفلاح فهاله ما وجده كما لو كان الكتاب من تأليف الإمام الغزالي فكتب على حاشية الغلاف جملة يحيي فيها هذه الكفاءة وهذه المقدرة.
ترى هل تعجبه اليوم مثل كتابات السباعي بعد أن اتسعت مفاهيمه وتوسعت مداركه بل هل يعجبه ما أنتج مثلي وهل يعجب مثله جماعة شباب اليوم بعد أن تهيأت لهم الدراسات العالية وتخصصوا في كثير من جوانب المعرفة.. لا أدري.
وكل الذي أدريه أنه يتعين على كل من نبغ في مجال الأدب من ناشئتنا القديمة ألاّ يزهو بما أنتج ففي الميدان اليوم متفوقون جدد يستحقون أن يرفعوا صدورهم عليهم إذا لزم الأمر وسيتبع هؤلاء غيرهم ما دامت الولاَّدة تولّد.
أذكر أن الأستاذ عريف قال لي في أحد الأيام في مجابهة صريحة وكنت أشغل تحرير صوت الحجاز وأعمل كسكرتير لعدة جمعيات.. قال لي يومها ((والله يا شيخ انتو جيتوا والدنيا عميه والتقيتوا الطريق فاضي)).
فما ملكت أن ضحكت لأني معترف بصحة ما يقول وأعتقد أنه يستطيع اليوم أن يضحك ملء شدقيه إذا سمع أحداً من شبابنا الجديد يعيد عليه ما جابهني به.
وأذكر أن الأستاذ حسين عرب قرأ في أحد الأيام عن مسابقة شعرية لتأليف نشيد قومي حماسي وكنت من بين أعضاء فرز النتائج وفي طريقي إلى غرفة الفرز لاحت مني التفاتة فإذا فتى ((يتسحلب)) في الدرج يقدم رجلاً ويؤخر أخرى.. قلت مَهْيَم وكنت أميل إلى هذه الألفاظ فما زاد عن أن قدم إلي ورقة مطوية في استحياء ودون أن ينبس بحرف وفتحتها فإذا أنا أقرأ شعراً نابضاً بالحياة لا يتفق مع خجل الشاعر الصغير وإذا أنا أترنم بما أقرأ في نشوة وطرب. قلت قف يا أخ مكانك ودخلت إلى زملائي فقلت أراهن أنني جئتكم بالشعر الفائز ولكنكم سوف لا تسمعون منه حرفاً حتى تنتهوا مما بين أيديكم لأثبت لكم صحة ما أقول.
وقد ثبت ما قلت وأجمع إخواني على فوز الشاعر الصغير الذي نشهده اليوم كبيراً يعد في طليعة شعرائنا.
والسؤال الآن هل يستبعد شاعرنا الكبير أن ينشأ من بين فتياننا شعراء يبزون كل ما نقرأ اليوم من شعر المجيدين من أمثاله.
وبعد فإذا كان ما ألاحظه على شبابنا الجديد بعد أن أصبحنا وناشئتنا القديمة كهولاً وشيوخاً ألاحظ أن الروح السائدة بين صفوفهم لا تتميز بالوقدة التي كانت تشتعل في صدورنا يوم تطفلنا على الحياة الجديدة وبعثناها داوية رغم قلة حصيلتنا من الحياة.
إننا ننتظر أعمالاً ثقافية منتجة يدوي صداها من الحدود إلى الحدود ليعرف العالم أن هنا أمة آخذة سمتها على الدرب وأن شبابها الجديد سيثبت كفاءاته في سائر المجالات الحية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :558  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .