شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
منبر المسجد الحرام
وأثره في تاريخ مكة السياسي
مضت بلادنا في طليعة الصفوف يوم حشد النبي صلى الله عليه وسلم صفوفه لخطوته العظيمة نحو المجد. وجاء صحابته فبذلوا لها الرعاية التي يستحقها كل مجاهد بذل نفسه وأولاده في سبيل إعلاء كلمة الله.
وكان على هذه الصفوف أن تترك وراءها في مختلف الأمصار صفوة من أفذاذ العلماء ليضطلعوا بإعلاء الدين ونشر المعرفة، وعدداً وافراً من رجال السيف الصناديد ليقودوا الحركة ويضمنوا نجاحها، وجملة مختارة من الولاة ليقروا أمن البلاد ويثبتوا قواعد الحكم الصالح فيها.
تخلف كل هؤلاء في أمصار الإسلام فكان لا بد لهذا التخلف من رد الفعل الذي ترك أثره إلى اليوم.
كان لهذا التخلف أثره في كتابة تاريخ هذا البلد من ألف وثلاثمائة سنة. وكان لهذا التخلف أثره في ألوان من المد والجزر عصفت بالبلاد وطوحت بها بعيداً عن مركزها الحقيقي.
كان لهذا التخلف أثره في تقهقر البلاد من مركزها في مقدمة صفوف الأمم الإسلامية إلى حيث استكانت في نهاية الصفوف وراء المؤخّرة.
قالوا إن رجلاً من بلاد الحرمين، أراد أن يفاخر صديقاً له من أمصار الإسلام في بعض عهودنا الماضية، فقال إن العلم خرج من بلادنا، فأجابه -أن نعم ولكنه خرج ولم يرجع. وفي هذا جواب مفحم يقر حقيقة الواقع، فقد خرج العلم وخرج رجال العلم كما خرج أعلام القيادة يوم خرجوا دون أن يفكر أكثرهم في العودة.
لقد أحدث تخلف أعلام العلم في الأمصار فراغاً علمياً لم تتعوده البلاد (رغم ما بذلت وبالرغم من جميع المحاولات التي كان يكابدها العاملون في حلقات المسجد). ودليلنا على هذا أنه ما كادت تنتهي نهاية القرن الأول من الهجرة حتى كانت بلادنا تسأل العلم شحاذة من الآفاق التي تتلمذت عليها.
أما في القرون التي أعقبت ذلك، ثم في القرون التي تلتها، فقد كان الشراكسة وكان مماليك الأتراك، يندبون لبلادنا من يعلمنا أصول الفتوى وأحكام الدين.
لسنا في هذا نريد أن ننابذ أحداً.. فليس العلم وقفاً على الهاشمي دون الزّنجي، ولكننا نريد الإشارة إلى مبلغ تقهقرنا في عهود سبقنا فيها إلى علومنا ولغتنا أبعد الناس عنها. ولم يقتصر الأمر على هذا، فإن ظروف هؤلاء الأعلام من القادة والسادة أبناء الحرمين وأحفادهم المخلصين في الأمصار، هيّأتهم في مراكز تعيّن عليهم فيها، أن يسوسوا بلادهم الأصلية. هذه سياسة خاصة لا أعرف مبلغ نواياهم فيها، ولكني أعرف أنها لم تكن صائبة على كل حال.
نجح الأمويون في الشام، ثم ورثهم العباسيون في بغداد، كما نجح الأدارسة في المغرب، والفاطميون في مصر، والرسوليون في اليمن، وكل هؤلاء كانوا ينتمون إلى سلالات من أقيال الحرمين. وكان بنو عمومتهم بمكة، يزاورونهم في جميع العهود التي مارسوا فيها نجاحهم، وكانت علاقاتهم وثيقة الأواصر بجميع البيوت التي يشاركونها النسب في هذه البلاد، فهل أبرّوا هذه البيوت؟ وهل عرفوا حقوق الأرض التي أنجبت آباءهم؟ الواقع أنهم عرفوا حقوقها وربما أبروا أهلهم فيها، على طريقتهم التي حسبوها غاية في البر.
نجح الأمويون في الشام، فتراءى لهم أن استمرار هذا النجاح رهين برضى البيوت البارزة في مكة والمدينة. كما تراءى لهم أن بين صناديد هذه البيوت من يرشحه مركزه للخلافة دونهم، فما يمنعهم أن يبذلوا الأموال في سبيل الترضية، وأن يبالغوا في العطايا والمنح ليغدقوا عليهم من زينة الحياة ومنعها ما يصرفهم عن حقائق الحياة.
انثالت الأموال على مكة، في مبالغ يباهي بعضها البعض فخامة وجلالاً فأينعت الحياة وازدهرت حواشيها واستطاعت البيوت البارزة أن تملك القطاعات الواسعة، في بلاد الحرمين وغيرها من آفاق الأرض، وأن تتوسع في بذخها وتقتني لبيوتها الجواري من كل لون، وأن تستكين في ظل النعيم إلى أمد ليس بالقصير.
وعندما استعصى كبار النفوس على العيش، في ظل العطايا والمنح. ونهض على رأسهم ابن الزبير يطلب للبلاد حقوقها المغبونة، وتطوع الشباب للعمل في جيشه من أكثر بقاع الإسلام ظفر بكثير من النجاح، واستطاع أن يعيد لمكة كثيراً من هيبتها خلال ذلك، فقد بايعه بالخلافة أكثر الأمصار كما تعلمون، ودانت له أكثر مدن الشام معقل الأمويين. إلاّ أن الأمويين ما لبثوا أن استيقظوا لسلطانهم واستطاعوا أن يثبتوا وأن يعيدوا الكرّة، وأن يقضوا على آمال ابن الزبير في مكة.
وبذلك عادت مكة إلى التقهقر وعاد المسؤولون عن سياسة بني أمية إلى شراء الرضا من أقيال مكة بالعطاء الوافر والمنح.
أهل مكة وروح الشيخين
لا أعتقد أن بلاداً يعلوها السيف ثم يغمرها الإِحسان يمكنها أن ترتجي الخير. يبدو لي أن الأمر في مكة لم يقتصر على فشل ابن الزبير.. بل كان له من رد الفعل ما ترى أثره في الروح السائدة بين المكيين، فأخمد جذوتها وأطفأ شعلتها وأحال المواطنين فيها من جديد، إلى أناس يعيشون على هامش الحياة، بعد أن كانوا منها في الصميم.
كان المكيون مأخوذين بالروح التي تسود في عهد الشيخين، أبي بكر وعمر، وبخيال الظل الذي تألق فيما بعد في صورة ابن الزبير، فلما أسقط في أيديهم ولما فاجأتهم الحوادث بغير ما يتخيلون، أذهلتهم المفاجأة فظلوا في سكونهم ينعمون بما يغدق عليهم من أموال المحسنين، ولا ينظرون إلى الحياة بغير نظر العابث الساخر الذي لا يواجه الحقائق بقدر ما يزوغ منها، وأسلمهم هذا إلى لون من اليأس مشوب بلون من القناعة فيما يبدو لي. وقد أسلم هذا بعضهم إلى لون من الزهد فكان منهم المتعبدون والورعون. وقد شاعت تراجمهم في مظانّها من كتب التاريخ، كما أسلم بعضهم الآخر إلى نوع من المجون، فيه شيء من الفن وشيء آخر من اللعب واللهو:
سمرن يقلن ألا ليتنا
نرى ليلنا دائماً أشهرا
ويغفل ذا الناس عن لهونا
ونسمره كلّه مقمرا
* * *
قالت لَوَنَّ أبا الخطاب وافقنا
اليوم نلهو وننشد فيه أشعارا
شاع الغنى في مكة على أثر ما أسلفنا، وشاع بشيوعه الترف كما شاع التظرّف الأدبي فأنتج لنا عمر بن أبي ربيعة وعبد الله بن قيس وكثير غيرهما ممن يضيق المجال عن ذكرهم.
وتأنفت المترفات فاستمرأن الأدب وتسامحن في سماع الغناء، واقتنى المترفون والمترفات أصناف الجواري، فحفلت مكة والمدينة بالفنانات منهنّ والفنانين، وذاعت بين المدينتين أسماء مسجع ونافع ومالك وابن عائشة وبرد الفؤاد، وجميلة ورحمة وطويس وهيت والدلاّل ونومة والضحى وعزة الميلاء وسلامه وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء، وشاع التندر والفكاهة كما شاعت لوثة من خفة الروح.
نحن أهل الخيف من أهل منى
ما لمقتول قتلناه أود
وبالغ المترفات في التحالي بحلل الخزّ والدّيباج، كما بالغن في زينتهن من الياقوت والزّبرجد.
يرفلن في مطرفات السوس آونة
وفي العقيق وفي الديباج والقصب
ترى عليهن حلّى الدّر متسقاً
مع الزّبرجد والياقوت كالشّهب
وعندما استعصى بعض العلويين من أحفاد مكة على العيش في ظل العطايا والمنح، حاولوا أن يعيدوها جذعاً ليستردّوا ما ظفر به الأمويون ويعيدوا إلى مكة مركزها فلم ينجحوا. واستطاع الأمويون أن يفرّقوا شملهم فكانوا يجتمعون سراً كلما أتيحت لهم الفرص.
(وثار العباسيون)
زال عهد بني أمية بأسياف أولاد العباس، واضطلعت مكة بجزء من حوادث هذه الفتنة، فقد تضافر أولاد عليّ فيها من انتزاع الخلافة من بني أمية، وثاروا لذلك عدة ثورات منيت جميعها بالفشل فنصبوا لأنفسهم إمامة سرّية كانوا يتوارثونها، فلما أدركهم العجز وضاقت عليهم أبواب العمل، سلّموا إمامتهم خفية لرجل من بني عمومتهم من أولاد العباس، وهم يرجون أن يواتيه الظفر الذي خذلهم، وأن يحفظ لهم مثل هذه اليد.
بذلك بذرت البذرة الأولى في حقل العباسيين كما تعرفون، واستطاع شبابهم أن يرعى منابتها حتى أورقت في خراسان، وأثمرت في بغداد، ثم مدت ظلّها إلى أقاصي الشام، فقضت على بني أمية وإلى بقية أمصار الإسلام فشملتها.
(بدعة الدعاء على المنبر)
بذلك قضي على الأمويين، وامحى ذكر العلويين، وقام على أنقاضهما عرش العباسيين فاستقبلت مكة ولاتها من بني العباس، ودانت لهم بالطاعة وشرعت تدعو فوق منبرها بأسمائهم.
وكادت مكة أن تطمئن لحياتها الجديدة وأن تسلم قيادها في استقرار إلى أبناء عشيرتها من العباسيين، فالعباس قبل كل شيء سَرِيٌّ من أقيال مكة كما كان أجداد بني أمية من أعيانها وأولاد عليّ من صفوة بيوتها.
كادت مكة أن تطمئن إلى حياتها الجديدة، في ظل العباسيين، ولكنّ بدعة الدعاء فوق منبرها للخلفاء قل بدعة الدعاء فوق منبرها واضغط هنا على حروف المنبر -فهو موضوع حديثنا اليوم- هذه البدعة كانت مصدر قلاقل جديدة، لم تدخل في حسبان أصحابها، ومن هنا نستطيع أن نبدأ القصة.
(مبعث شقاء أهل مكة)
كان أكثر العلويين، قد تفرقوا في شتى بقاع الأرض بعيداً عن مكة يجاهدون لعقيدتهم أو سياستهم، فكان أصحاب السياسة منهم، يبذلون نفوسهم في سبيل تأسيس أحزاب تناصرهم ضد العباسيين، وجمع أشياع تساعدهم على انتزاع الخلافة، وكان في استطاعة مكة أن تؤثر العافية فتنساهم وتنسى علاقتهم بها وأن تتنكر لسياستهم ولكن عقيدة الدعاء فوق منبرها لكل خارج يريد أن يدعم مركزه في الخلافة، في كل قطر من أقطار الأرض كان مبعث شقائها.
عرّضها منبرها لموجات من المد والجزر، كانت لا تهدأ لها حركة.. كان الخارجون من كل صقع، العاصون من كل مذهب والخارجون من أي لون، لا يكادون يظفرون بالجولة الأولى ضد العباسيين في أي إقليم حتى يتوّجوا ظفرهم في الخطوة التالية بالهجوم على مكة.
كانوا يعلمون أنها عاصمة الإسلام، فما يمنعهم أن يحتلوها ليدعموا باسمها مركزهم في جميع أقطار الإسلام.. كان منبرها في نظرهم حجَّة المنابر في سائر أمصار المسلمين، فما يمنعهم أن يفرضوا أسماءهم عليه ليؤيد خلافتهم ويدعو لهم بدوام النصر.
تلك كانت مأساة مكة في أكثر أدوار تاريخها: ابتداء من العهد العباسي.
(انتقال المنبر إلى العباسيين)
لقد بدأت المأساة يوم بدأت بظهور النفس الزكية: هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.. في ذروة العلويين من بني هاشم، شرفاً وعلماً وورعاً، تزعّم الثورة في المدينة المنورة باسم أحقيته في الخلافة.. وما كاد يستولي عليها حتى اندفع بجيشه إلى مكة، فاقتحمها ليعلن دعوته فوق منبرها، فترك مكة تتعرض لجيش لجب يتقدمه صناديد العباسيين، ليفتكوا بالعاصي والطائع ويعلنوا -سيطرتهم على منبر المسجد الحرام، ليدعو لهم ويشيد بسياستهم.
وفي هذا يهيب شاعر مكة ابن ميمون، بقائد الجيش العباسي ليدلّنا على مبلغ ما قاسته مكة في سبيل منبرها.
أسرفت في قتل الرعية ظالماً..
إلى أن يقول:
فلتأتينك راية حسنية
جرارة يقتادها حسنّيها
(دعوات مختلفة على منبر مكة)
لقد دعا منبر مكة للعلويين مرغماً، يوم ظفروا ثم عاد مرغماً فدعا بدعوة العباسيين يوم اندحر العلويون، وليت الأمر استقر عند هذا الحد، فإن العلويين ما لبثوا في مدة لا تتجاوز ربع قرن أن استأنفوا حركتهم بقيادة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.. وكان من الزهد ما ذكروا عنه أنه كان لا يملك ما يلبس غير فروة ليس تحتها قميص، كما ذكروا أنه وفد مرة على المهدي، فأعطاه أربعمائة ألف دينار ففرّقها في المحتاجين بين بغداد والكوفة، ولم يستبق لنفسه شيئاً..
شعر العلوي الجديد ببوادر النصر، فما عليه إلاّ أن يقتحم مكة ليسيطر على منبرها، ويملي سياسته من أعلى مرقاة منه، فانطلق جيش العباسيين المرابط في مكة ليلقاه، فكانت أعنف ملاقاة جرت فيها الدماء سيولاً، بين شطئان وادي الزاهر.. كانوا يسمونه وادي فخ لأنه فيما أحسب تعوّد الفخاخ، تنصب بين لحاف جباله لكثير من المواقع التي كانت تهاجم فيها مكة، ويسمونه أو ما يتصل به وادي الزاهر، لأنه كان يزدهر بعشرات البساتين في عهود السلم.. وسمي من أجل هذه الواقعة وادي الشهداء وهو اسمه إلى اليوم..
يذكر صاحب مروج الذهب واقعة فخ، فيقول: كانت هذه الواقعة من الشدة بحيث قيل: لم تكن مصيبة بعد كربلاء، أشدّ وأفجع من فخ.. أجل فقد سالت الدماء سيلاً في بطن الوادي وقضت سيوف العباسيين على زهرة شباب العلويين، ودفن الحسن زعيم الثورة ومائة من أصحابه في سفح هذه الربوة المطلة على العدوة، التي لا تبعد كثيراً عن بطن الوادي، وظلت قبورهم معروفة ردحاً طويلاً من الزمن..
(ذيول الواقعة تنشئ دولتين)
لذلك استصفى العباسيون منبر المسجد الحرام لدعوتهم، وتركوه يطبع إلى أمد حياة مكة السياسية بطابعهم. وإذا جاز للمعاني أن تتداعى في مثل هذه المناسبة فمن المهم أن نذكر هذه الواقعة وإن فشلت حركتها، فإن ذيولها استطاعت أن تنشيء دولتين لهما قيمتهما في محافل التاريخ، ذلك أن رجلين من سادة العلويين استطاعا أن يفرا من مجازر الواقعة. أما الأول فهو يحيى بن عبد الله انتهى به الهرب إلى بلاد الدّيلم، فأنشأ فيها دولة كلفت الرشيد خمسين ألف محارب للقضاء عليها. وأما الثاني فهو إدريس.. من أخوة يحيى انتهى به الفرار إلى المغرب فالتف حوله البربر وإذا استقصيت أخباره في كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى) فستعجب للعناية التي بذلها بإنشاء دولة الأدارسة المعروفة بين دويلات الإسلام، وهي غير أدارسة جيزان، ولا أدري لم قصّرت جهودهما عن مكة، ولم حرموها هذه المرة رؤية الدماء، وتركوا منبرها يستوحش لدعاة جدد يئن تحت ثقل أقدامهم، (لعلّ المادة قصرت).
(عامل العباسيين يترك مكة للأفطس)
خرج السريّ الشيباني في العراق، قبيل أن ينسلخ القرن الثاني من الهجرة.. فما كاد ينجح في بعض أطراف العراق، حتى نسي الممالك والأبعاد التي تفصله عن منبر مكة، وأبى إلاّ أن يقفز في رشاقة إلى أبواب مكة. لماذا؟ لأن من ذروة هذا المنبر، يجب أن يصرخ لدعوته.. وأنت تقرأ في تاريخ البداية والنهاية، لترى الأفطس قائد جيشه، ما كاد يعسكر في النّواريّة -وهي على كيلومترات من مكة- حتى أخلى عامل العباسيين مكة وتركه يقتحمها في زحام موسم الحج.. ثم يدفع الأفطس بجيشه إلى عرفات ليضيف منبر عرفات إلى منبر مكة ويملي سياسته من أعلى مرقاة فيها.. وبذلك تتجه سياسة مكة اتجاهاً جديداً بفضل عناية المسلمين الصناديد بمنبرها.. وإذا كان في الأمثال ما قيل: لا بد من صنعاء وإن طال السفر.. فشعار الخارجين في تاريخ مكة السياسي عاش يهتف باسم منبرها: لا بد من منبر مكة وإن طال السفر.
(ويستأنف العباسيون نشاطهم)
يا لغلب العباسيين بهذا المنبر.. بل يا لغلب المنبر بالعباسيين.. ويا لغلبه بكل الخارجين، جلا العباسيون والأفطس عن مكة، ولكن سيوفهم لا تكاد تستريح إلى أغمادها عاماً أو شهوراً بعد العام، حتى يثور إبراهيم بن موسى القاطن في اليمن وكأني به يحلف أنه.. (لا بد من منبر مكة ولو طال السفر).. وتستطيع أن تقرأ ما نقله تقي الدين الغالي في هذا الصدد، لتعرف مدى ما قاسته مكة في هذا الهجوم على حساب منبرها..
(حركة الزّنج)
ما كاد ينتصف القرن الثالث الهجري، حتى تتسامع مكة بحركة الزّنج في بعض نواحي البصرة والبحرين والهفوف والأحساء.. وأنه بعد أن حال صاحب الزّنج جولته الأولى -وهو علوي من سراة البيوت في مكة- أعلن تحرير العبيد بحجة أن امتلاكهم غير شرعي.. كما أعلن أن جولته الثانية ستكون فوق منبر مكة.
وأنت تقرأ بعد هذا ما ذكره كتاب الآداب السلطانية وما أرخه ابن الأثير.. فلا تكلّفني لأثير شجونك على ما صنع منبر مكة في مكة.
ولا تمضي عشرون سنة حتى يندب ابن طولون حاكم مصر، قائدين في خمسين وألفي فارس (وبس) فالوقت أوان حج.. وفي استطاعتهم أن يربكوا الحج ويطحنوا الحجاج، ويستولوا لابن طولون على المنبر، ليفرض عليه وعلى مكة سيادة يتمناها.. لا أستطيع أن أجزم بما تم في أمر ابن طولون فإن ابن ظهيرة القرشي المكي، يؤكد أن جيش ابن طولون عاد مدحوراً.. ربما خانه الحظ بالنسبة لمنبر مكة رغم ما أنفق في مكة من أموال وما بذل من نفوس..
(الأسلوب الطريف يعتلي منبر مكة)
لم تمض إلاّ سنوات حتى عنّ لمكة فيما يبدو، أن تفرح بمنبرها لنفسها، فقد نهض سريّ من أهلها هو محمد بن سليمان العلوي، فاستقل بها في أوائل القرن الرابع الهجري، ولذّ له أن يمتطي باسم هذا البلد في هذه المرة، أعلى خشبة في المنبر، وأقول أعلى خشبة لأن المنبر يومها لم يكن رخاماً، فالرخام كما تعلمون مستحدث في عهد العثمانيين، امتطى أعلى خشبة في المنبر وأهاب بالناس أن يسمعوا -وفي استطاعتكم أنتم سادتي وإخواني أن تسمعوا أسلوبه الطريف: ((الحمد لله الذي أبرز زهر الإيمان من أكمامه، وكمّل دعوة خير الرسل بأسباطه)) -لا- بني أعمامه وأرجو أن تسمعوا (لا بني أعمامه) -وهو يقصد العباسيين طبعاً- ولم ينقل إلينا أبو الوليد الأزرقي، الذي أنقل عنه هذا، لم ينقل نتيجة هذه الحركة، ولعلّها فتنة ما لبثت أن خمدت.
(قسوة القرامطة)
تقوم قائمة القرامطة في هذا العهد، تقوم في بعض أطراف العراق والشام، ثم ينتقلون إلى البحرين والقطيف، فلا يقنعهم أن يتوسعوا فيما يليهم، بل -لا بد من صنعاء ولو طال السفر- أعني لا بد من منبر مكة مهما كلف الأمر، وأنت تقرأ خطط المقريزي، فتعجب لهذا القفز، ثم يشتد عجبك لهذه القسوة وهذا الحرد، ولا تستطيع أن تغفل بأي حال أن هذه القسوة وهذا الحرد، لم يكن مبعثهما تعصباً دينياً فقط، بل كان للغرض السياسي شأو أيّ شأو إذا صح هذا وهو ما أعتقده (فما عنّك فكة.. يا مكة).. لا بد من منبرها ليوجه قائدهم أبو طاهر سياسته إلى ما يريد ويدعم مركزه من فوق أعواده..
والإخشيد. ما شأنهم؟ ماذا فعلوا؟ لقد أبوا إلاّ أن يستخلصوا منبر مكة لأنفسهم ليجهروا بسياستهم ويجعلوا العالم الإسلاميّ يلين لهم.. يذكر هذا صاحب النفوذ الفاطمي فيقول، كتب الأخشيد إلى ملك الروم يقول: إنه وإن لم يكن لي شرف إلاّ إمرة الحرمين، لكفاني ذلك.. ولعلّه نسي أن يقول: وقد فرضت على المنبر أن يؤيدني وحسبي أن يريدني..
(الفاطميون يفرضون نفوذهم على المنبر)
وبعد.. فهل ننتقل إلى الفاطميين؟ لقد ندبوا عبيد الله إلى مكة ليدعوا لبعض أشياع عليّ رضي الله عنه، وفي مكة استطاع أن يبذر أول بذرة إنشاء دولته الكتامية أو الفاطمية، كما سماها أحفاده من بعده، فقد اتصل ببعض حجاج بني كتامة من المغرب فبهرهم بيانه وصدق لهجته، فاستصحبوه إلى أرضهم حيث ولّوه أمرهم، واستطاع بمهارته أن يؤسس لهم دويلة، ما لبثت هذه الدويلة أن اتسعت حتى فتحت مصر في عهد أحفاده في منتصف القرن الرابع الهجري، فكانت الفاطمية. ولا بد للفاطمية من صنعاء وإن طال السفر -لا بد لها من مكة لتطبعها أو تطبع بها وتملي من رأس منبرها سياستها الجديدة.. استطاعت أن تستحوذ على هذا المنبر، وأن تلزمه ليؤيدها ويعترف بأحقيتها في الخلافة، فكان لها ما أرادت، حتى عندما فرضت مذهبها في التشيع، أضيفت إلى الأذان من منائر المسجد الحرام عبارة (حي على خير العمل) وعلّمت الناس كيف يحتفلون بعاشوراء وأعياد كثيرة خاصة بالمقرّبين والأولياء..
حكم غير مباشر
لم يذكر التاريخ أن الفاطميين حكموا مكة والحجاز حكماً مباشراً، فهم رغم إنحدارهم من سلالة كانت طينتها من هذا البلد -كما كان شأن العباسيين- أقول رغم هذا، فقد اكتفوا بالنسبة إلى مكة، بما يسميه العرف السياسي منطقة نفوذ وتركوا بني عمومتهم من أشراف الحجاز ينطلقون فيعلنونها إمارة شريفيّة، فكان ذلك أول حكم الأشراف في مكة، أو إن شئت فقل في الحجاز..
الأشراف ثم العباسيون
انطلق الأشراف من عقالهم ليؤسسوا لهم دولة، فأجلوا عامل العباسيين وألزموا منبرهم تأييد الفاطميين في خلافة الإسلام، فانطبعت مكة بما انطبع به منبرها، وظل الأمر على هذا سنوات لم يطل أمدها لأن العباسيين أدركوا أن اتجاه مكة أو اتجاه منبرها السياسي على الأصح قد غمرته عطايا الفاطميين ومنحهم وهداياهم السخية، فما لبثوا أن قرروا الدفاع بنفس السلاح، فندبوا من يعرض على أشراف مكة ضعف ما يصلهم به الفاطميون من عطايا ومنح، لقاء أن يشيد المنبر بالدعاء لهم وتأييد خلافتهم. وهو ما نشهد غراره اليوم من ألوان البذل الذي تتبارى فيه الدول الكبيرة في عصرنا الحاضر.
لقد نجح الفاطميون بما بذلوا في مكة، ثم ما لبثوا أن تغلب عليهم العباسيون بقوة البذل ثم ما لبث أن لعب المدّ والجزر.. فإذا مكة يوماً فاطمية تؤيد الخليفة الفاطمي.. ويوماً عباسية يدعو منبرها لخليفة بني العباس..
لم يكن للأشراف مورد يقيمون به أود الحجاز، فاستمرأوا أسلوب (شيلني وأشيلك) لقد كان في الأمر ما يشبه التخطيط في كتاب عرفتموه ((لعبة الأمم)) لا أدري من قال إن الدعاء للسلاطين فوق منبر مكة شرط لتأييد السلطان في عالم الإسلام -أرزاق وبس- رزق البله.
ولم يدم الأمر، أمر منح فقط، فقد كانت الدولتان الكبيرتان العباسية والفاطمية تحتلان يومها في العالم الإسلامي ما تحتله اليوم أمريكا وروسيا اللتان جعلتا من الكرة الأرضية كرة تشبه ما تتقاذفه الوحدة والأهلي والاتحاد من شرقي العالم وغربيّه..
كانت إحداهما إذا شعرت بفشل ما، بذلت العطايا وشمّرت عن ساعدها ودفعت جيوشها لتضع مكة أو تضع منبرها بالأصح تحت أمر واقع، حتى إذا استيقظت الأخرى، حشدت من الجيوش والعتاد ما يضمن لها النصر، وانطلقت تركب ما في خيلها.. وعندئذ يتراجع المهزوم ويترك المنبر ليؤيد ما اقتضاه الحال..
على هذا المنوال عاشت مكة حقبة طويلة يتقاذفها المد والجزر في سبيل هذا المنبر.. كان منبرها يطبع سياستها حقبة بعد أخرى بما تمليه أقوى الدولتين المتصارعتين.
ولعلّ من يسألني عما كانت تعانيه مكة بين شقي هذه الرّحى..
إنه مما لا ينكر أن مكة كانت تستفيد لفقرها من مباراة الدولتين في البذل، ولكنها مع ذلك كانت تقاسي من فتن الحروب وغلاء الأسعار وضيق الأرزاق ما لا يحتمله جلد.. وكان الحجاج في كثير من سنواتهم يعانون شديد المعاناة ويتعرضون بأسباب الفتن إلى السلب والجوع، وربما تعذر عليهم إتمام مناسكهم في غمار تلك الفتن..
وتقوّض عرش الفاطميين، وقامت على أنقاضه دولة الأيوبيين في مصر، فكان لا بد من صنعاء ولو طال السفر.. لا بد من مكة.. لا بد من منبرها. وما دام صلاح الدين الأيوبي يعترف بالعباسيين في بغداد، فلا بد من أن يمدّ نفوذه إلى منبر مكة ليؤيد العباسيين، ولا بأس من أن يدعو لنفسه إلى جانب الخليفة العباسي..
واستأنف البذل طريقه إلى مكة.. اشتركت فيه بغداد، واشترك فيه الأيوبيون من مصر، كما اشترك الاثنان في التأديب كلما عصاهم المنبر، وساعدتهم اليمن، عندما حكمها فرع من الأيوبيين. لقد هاجمت اليمن مكة في بعض المرات واستخلصتها أو بالأصح استخلصت منبرها، لينطق باسم العباسيين مرة والأيوبيين مرات..
مماليك الأتراك والإغراء
وتقلّص ظل الدولة الأيوبية في منتصف القرن السابع الهجري.. ولم تمض سنوات حتى تقلص ظل العباسيين كذلك، فظن أبو نمي عامل مكة يومها أن في استطاعته أن يستقل بنفوذه فيها، ولكن أحلامه ما فتئت أن تبخرت، فقد نهض على أنقاض الأيوبيين في مصر مماليك الأتراك، وما كاد يستقر لهم الأمر، حتى اتضح لهم أنه لا بد لهم من صنعاء ولو طال السفر.. لا بد لهم من مكة.. أو بالأصح لا بد من منبرها مهما كلّف السفر.
عندئذ بدأ الإغراء يأخذ طريقه إلى مكة بشتى الوسائل، حتى قنع أصحابها وقبلوا أن يصبغوا باللون الجديد سياسة منبرهم.. نجح الإغراء مرة وأخطأ أخرى فأيّد المنبر في بعض أيامه مماليك الأتراك وتناساهم في غيرها فكان الوعد وكان الوعيد. كان المد وكان الجزر، حتى لاح في الجو نجم جديد.. ذلك هو سلطان التتار في بغداد، الذي ورث عرش العباسيين فاتسعت آفاق الجذب، ثم اتسعت أكثر ببزوغ نجم الرسوليّين في اليمن، وظل المنبر على هذا يتجاذبه مماليك الأتراك مرة والتتار أخرى والرسوليين في غيرها.. حتى كاد أن ينتهي القرن الثامن الهجري إلى نهايته واستطاع مماليك الشراكسة أن يقضوا على دولة المماليك الأتراك.
خلا الطريق إلى منبر مكة للشراكسة واستطاعوا أن يملوا عليه الدعاء بتأييدهم إلاّ في بعض الفترات التي كان أشراف مكة يعلنون فيها عصيان منبرهم على دعاء التأييد.. ولعلّ هذا العصيان استطاع في نهايته أن يمهّد لوضع اليد، فاقتحم الشراكسة بجيوشهم مكة واستطاعوا أن يضموها إليهم تحت إمرة أشرافها، وأن يقيّدوا المنبر لحسابهم يؤيدهم ويدعو باسمهم.. وبذلك اكتمل القرن الثامن الهجري ثم التاسع وبعض القرن العاشر..
العثمانيون
وزال نفوذ الشراكسة على أثر انتصار العثمانيين الذين اقتحموا بلاد الشرق العربي، واستطاعوا في عام 923 أن يفتحوا مصر وأن يندبوا رسلهم إلى مكة ليفاوضوا شريفها بركات بن محمد.. (نحن نقرك أيها الشريف في حكم مكة، إذا وافقت على الدعاء في المنبر للخليفة العثماني)..
هكذا لا بد من صنعاء.. لا بد من مكة.. لا بد من المنبر..
ولم يجد الشريف بركات بداً من الموافقة وهو يعرف مدى قوة السلطان سليم الفاتح.. ماذا يفعل؟ بلد فقير أمام قوة دوّخت عامة بلاد الشرق؟..
بهذا اقتصر المنبر على لون واحد يؤيد العثمانيين ويدعو لهم بالنصر.. وظل على هذا ردحاً طويلاً يزيد عن مائة سنة.. كان النفوذ العثماني في أثنائه لا تتجاوز علاقته موضوع المنبر..
كان أشراف مكة يتوارثون حكمها في صور لسنا اليوم في صددها، وحسبهم أن يأذنوا بالدعاء للسلطان بن السلطان بن السلطان خان، لقاء ما يتناولونه من مساعدات ومنح كان أهمها غلال الصدقة..
الغلال التي علّمت مكة الكسل (أعني مكة وأهلها الصّيدا)
كانت غلال الصدقة توزع على الأهالي في مكة بشكل يفيض عن حاجتهم كثيراً، فكان الرجل يكتفي بالقليل مما يتناوله ويبيع الباقي فيغطي نفقة بيته شهوراً طويلة من العام، فكان ذلك مدعاة للكسل ربّي أجيالنا على الاتكال ونشأنا ولا همّ لنا إلاّ أن نأكل وننام ونستيقظ، لندعو بنصر السلطان بن السلطان.. خان..
وعندما ضاق العثمانيون بمشاركة بعض أشراف مكة، رأوا من الخير أن يلحقوا مكة بسلطانهم نهائياً، لتصبح جزءاً من ممتلكاتهم في الشرق العربي.. فمال الجيش العثماني تتقدمه فرقة الإنكشارية على حصون الأشراف في مكة، واستطاعوا تثبيت أقدامهم بعد أن كان يزعزعها أيدي الأشراف وبذلك لم يتقيد المنبر لحساب العثمانيين فحسب، بل أنشأ يطبع تاريخ مكة السياسي باللون العثماني.
تعاقب الأحداث
لا نريد أن نتوسع إلى أكثر من هذا لننتقل إلى نفوذ الخديوي محمد علي باشا في مكة، وما أعقب ذلك من ثورة رجال الدستور من العثمانيين وما تلاها من نهضة الحسين بن علي.. فتلك فصول لا يتسع مقامنا لتفصيلاتها.. وحسبنا أننا ألمعنا بأهم الألوان التي صبغت منبر المسجد في مكة في أكثر من ألف سنة وهيّأته ليترك أثره مطبوعاً في حقبة طويلة من تاريخ مكة السياسي..
والآن.. وأنا أتهيأ لمغادرة موقفي.. عليّ ألاّ أنسى فضل المرحوم الملك عبد العزيز في تغاضيه عن ذكر اسم معين يتوجّه المنبر بالدعاء له.. فقد حل هذا إشكالاً كبير العقدة وتركه طليقاً لا يطبع ولا يطبع.. حسبه أن يدعو للمسلمين ويطلب إلى الله أن يوفّق ولاة أمورهم للعمل الصالح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
طباعة

تعليق

 القراءات :522  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.