من أبطال علماء الإسلام |
ونمضي في ذكر الأبطال من رجال المجد العلمي الذي خلدوا أسماءهم في تاريخ الإسلام بأروع ما تخلد به أمجاد العلم. |
كان أبو يوسف القاضي من نوابغ الفقه الإسلامي في عهده ومع هذا فقد قيل إن الفقه كان أقل علومه. |
كان رحمه الله يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب وكان حجة في الاستنباط والمقارنة وكان الفقهاء ولا يزالون إلى يومنا هذا يعرفون أنه لا يكاد توجد مسألة من مسائل الفقه في جميع أبوابه ليس لأبي يوسف رأي فيها. |
استقضاه الرشيد العباسي وليس من يجهل براعة الرشيد في انتقاء قضاته وقد أثبتت الأيام صدق هذه البراعة فإن أبا يوسف ما كاد يباشر أعمال القضاء حتى أبدى تفوقاً عديم النظير وحتى استطاع أن يبرهن على كفاءة نادرة المثال. |
وعندما واجهت الرشيد ألوان من مشاكل الحكم اقتضاها تطور الحياة في عصر الإسلام الذهبي نفر الرشيد كنانته فلم يجد من يعتد به في الأزمات المعقدة غير أبي يوسف. |
جند أبو يوسف مواهبه لخدمة التشريع الإسلامي واستطاع أن يستنبط الأحكام لجميع المشاكل التي وجدت في محيط المسلمين وأن يرتب أعمال القضاء ويبوب أحكامه في نظام شمل جميع المرافق بدون استثناء. |
استطاع أبو يوسف أن يستمد جميع أحكامه من الكتاب والسنة وأن ينال بما فعل إعجاب الرشيد الذي أولاه ثقته وجعل إليه رئاسة القضاء في مملكة الإسلام الواسعة. |
كان أبو يوسف معروفاً بنباهة الرأي وحضور البديهة وقوة الحجة وقد شهد له معاصروه بالتفوق في فنون المناظرة فذكروا أن جميع المجالس التي اتفقت على مناظرته كانت تعترف بمهارته وتفوقه. |
يقول ابن عمارة إنه رأى أبا يوسف يناظر زفر في إحدى مسائل الفقه بين يدي أبي حنيفة وقد طال مجلسهما من طلوع الشمس إلى أن نودي بالظهر فلم يظفر زفر بشيء أمام أبي يوسف ولما انتهى المجلس ضرب أبو حنيفة على فخذ زفر وقال لا تطعن في الرياسة بأرض يكون بها أبو يوسف. |
وخلد التأريخ الإسلامي بين أصحاب المجد من العلماء الذي خلد أسماءهم إبراهيم النجفي فقيه الكوفة فقد ذكروا أن رئاسة العلم في الكوفة انتهت إلى النجفي. |
ومن أروع ما عرف عنه أنه برز في مسائل الفقه على أساتذته وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة وفاضت شهرته بعد العشرين فكان لا يخلو كتاب من كتب العلوم الإسلامية من ذكر اسمه وكان مع هذا يتوقى الشهرة ويحاول ألاّ يظهر حيث يحتشد الناس لانتظاره تواضعاً منه وهو يعلم أنه مهاب الطلعة. |
ومن علماء الإسلام الذين فاضت شهرتهم وتركوا آثارهم مشرقة بين ثنايا تأريخ الإسلام إياس بن معاوية قاضي البصرة. |
وكان من فحول العلماء وكانوا يقولون عنه إنه كفى بالرأي متانة أن ينسب إلى إياس وكفى بالقضاء حقاً أن يكون قضاء إياس. |
وكان ولاة الأمر يحاولونه ليتولى القضاء اعتماداً على كفاءته المعروفة ونباهة ذكره عندهم ولكنه كان يستعصي على جميع المحاولات حتى كتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى واليه على العراق أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجرشي فول قضاء البصرة أنفذهما فلما جمع بينهما قال إياس للأمير سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري ومحمد بن سيرين لتقع على حقيقة الأمر بيننا. |
كان إياس يعرف أن صنوه القاسم يختلف إلى فقيهي المصر ابن سيرين والبصري فقدر أن شهادتهما مضمونة لمن يعرفان وأنه بحكم قلة اتصاله بهما لا يحكمان له فأدرك القاسم مرمى إياس وخاف أن يمتحن بالقضاء إذا شهد له ابن سيرين والبصري فقال للأمير لا تسأل عني ولا عنه فوالله الذي لا إله إلاّ هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال إياس للأمير إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف فقال الأمير لإياس أما إذا فهمتها فأنت لها واستقضاه بعد أن أباحه حرية القضاء من غير أن يعقب عليه معقب أو يستأنف أحكامه بحال. |
وأثبت إياس في مباشرته للقضاء ألواناً من الذكاء نادرة المثال واستطاع أن ينفذ إلى أعمق القضايا المعقدة بحكمة قلما تيسرت لغيره. |
وإذا أردنا أن نمضي في سرد أبطالنا من رجال المجد العلمي في الإسلام فلدينا الواقدي وقد عرف أنه من أعلم الناس بأمور الإسلام وقد كان يقول عن نفسه ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مواليهم إلاّ سألته هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل فإذا أعلمني مضيت إلى الموقع فأعاينه. |
وكانوا يذكرون أن للواقدي ستمائة قمطر كتباً ومع هذا فقد قيل إنه كان يقول ما من أحد إلاّ وكتبه أكثر من حفظه وحفظي أكثر من كتبي. |
واتصل الواقدي بالمأمون العباسي فقدر المأمون علمه وعرف له مكانته ولكن الواقدي كان يتحاشى أن تغمره صلات المأمون. |
فلما علته الديون اضطر إلى الكتابة إلى المأمون في ذلك فوقع المأمون على ظهر رقعته يقول: فيك خلتان السخاء والحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق ما ملكت وأما الحياء فهو الذي منعك من إطلاعنا على ما أنت عليه وقد أمرنا بكذا وكذا فإن كنا أصبنا إرادتك في بسط يدك فإن خزائن الله مفتوحة.. وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير إن باب الرزق مفتوح بباب العرش ينزل الله على العباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن قلل قلل له ومن كثر كثر له.. قال الواقدي وكنت نسيت الحديث فكانت تذكرته إياي أحب إليّ مما وصلني به المأمون. |
ومن أبطال المجد العلمي أبو علي القالي فقد رووا عنه أنه كان يحفظ ثلثمائة ألف شاهد في القرآن الكريم.. وقيل له قد أكثر الناس في محفوظاتك فكم تحفظ قال أحفظ ثلاثة عشر صندوقاً وقد ألف في غريب الحديث نحو عشرة آلاف ورقة ووضع كتابه شرح الكافي في حوالي ألف ورقة وقبله كتاب الجاهليات عدا جملة من الكتب كانت معروفة إلى عهد طويل بعد العصر الذي عاش فيه. |
واشتهر شمس الأئمة السرخسي بدأبه على التأليف وغزارة اطلاعه ومما رووا عنه أنه سجن لجرأته على الولاة فكان يقضي أوقات السجن في إملاء مؤلفاته دون أن يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من المراجع وبلغ مجموع ما أملاه من كتابه (المبسوط) نحو خمسة عشر مجلداً وقد قال في نهاية شرح العبادات هذا ما أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات. |
وكان يحيى بن معين من أقطاب العلم المشهورين بالنشاط الفكري فقد ذكر عن نفسه أنه كتب بيده ستمائة ألف حديث وكتب له المحدثون مثلها وترك بعد وفاته مائة قمطر من الكتب. |
وكان أبو عمرو المعروف بغلام تغلب أحد المنقطعين للعلم والمبرزين وقد ذكروا أن اشتغاله بالعلم حال دون عنايته بالتكسب فقضى معظم حياته مضيقاً عليه وكان لسعة علمه يملي أكثر تصانيفه من غير أن يحتاج إلى غيره من المراجع كما قيل إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة. |
|