أبو عبد اللَّه البخاري |
إذا افتخرت الأمم بالعاملين من رجالها الممتازين ففي تاريخ الإسلام من رجال العلم من تجلّ جهودهم عن الوصف وتسمو مراتبهم فوق كل افتخار. |
يحدثنا تاريخ الإسلام عن أمجاد أبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري فتتولانا الدهشة ويستثيرنا العجب لهذه المواهب التي استطاعت أن تحشد قواها وتركز جهودها نحو الهدف الذي اختارت حتى استطاعت أن تبرز فيه بتفوق نادر المثال قليل الشبه. |
درج أبو عبد الله البخاري بين أقرانه الدارجين في الكُتّاب، ولكنه ما كاد يناهز عامه الحادي عشر حتى بدت طلائع تفوقه تتراءى للفقيه فقد ذكروا أن مراجعته لما يقرره الفقيه كانت مثاراً للعجب. |
وضاق به الكتَّاب في سن مبكرة فألحقوه بحلقات العلم فشرع ينهل من منابعه بين طبقات العلماء وذاعت شهرته بين الطلاب والعلماء. |
ذكروا أنه عندما بلغ السابعة عشرة كان بعض جلة الشيوخ يسمعون عنه وأنه بدأ يؤلف تاريخه المشهور قبل أن يتجاوز الثامنة عشرة. |
ونزعت نفسه إلى السياحة على أثر هذا طلباً للعلم وسعياً وراء المعروفين من كبار المحدثين فزار أكثر الأمصار الإسلامية وتغلغل في مدن العراق وبلاد العجم والشام والحجاز ومصر فاتسعت آفاقه واجتمعت له مئات الألوف من الأحاديث التي سمعها مشافهة من أشهر المحدثين في عصره. |
وكان يعاني في سياحته من شظف العيش وضيق ذات اليد ما لا يقوى على احتماله شخص عادي ولكنه إنسان وهب نفسه وآلى عليها إلاّ أن يثابر فلم يضايقه ما عانى من الشدة ولم يثنه ما لاقاه من الضيق. |
قيل إن زملاءه من الطلبة افتقدوه أياماً فأخذوا يبحثون عنه حتى وجدوه في بيت وهو عريان وقد نفد ما عنده ولم يبق معه شيء فاتفقوا على جمع الدراهم حتى اشتروا له ثوباً يكسوه وبذلك استأنف كتابة الحديث معهم. |
ومضى به كده حتى استوى في عصره من كبار الأعلام فقد تتلمذ له مئات الألوف من طلبة العلم وقصد مجلسه من أجلة العلماء من لا يوفيهم الحصر وجلس بين يديه الإمام مسلم صاحب الصحيح جلسة السائل المتعلم وقد عدّ من سمع الحديث عنه بنحو تسعين ألف رجل وكانوا يتهيبون مجلسه ويتطامنون في حضرته كأنما يظلهم جبل شامخ. |
وبلغ في انشغاله فيما كرس له نفسه أن ظل حياته لا يأبه لشيء من أمور دنياه ومعاشه فقد ذكروا أنه لم يشتر شيئاً في حياته ولم يبع وأن أدواته من الكاغد والحبر والقلم، كان يلتمس غيره في قضائها حرصاً على ثمين وقته وضناً بدقائقه الغالية. |
وبلغ من انشغاله بفنه المفضل أنه كان لا ينام الليل إلاّ لماماً وقد شهد من رآه أنه كان يستيقظ في الليلة الواحدة بضع عشرة مرة فيوقد السراج ويبدأ في الكتابة والتدوين. |
وقد أخرج صحيحه المشهور بصحيح البخاري من ستمائة ألف حديث وكان لا يدوّن الحديث الواحد إلاّ إذا اغتسل وصلّى ركعتين.. وذكر عن نفسه أنه كتب عن أكثر من ألف شيخ كان أكثرهم بالغ الثقة رفيع المقام. |
وبلغ تقدير الناس لفضله أنه كان لا يهبط حواضر الأمصار حتى يتنادى الناس بمقدمه وكان لا يمر بقرية أو (دسكرة) حتى يسبقه صيته إلى جميع القرى المجاورة فتنثال الجماهير من كل صوب ظامئة إلى رؤيته والاستماع إلى روايته حتى إن مجالسه في الحواضر وبين مجامع القرى كانت تزيد عن عشرين ألف مستمع. |
وكان أهل المعرفة في أكثر الأمصار التي ينزلها يتعقبونه في الطرق ويعدون خلفه حتى يجلسوه كرهاً ليملي عليهم مما حفظ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. |
وفي القصة التالية تبدو لنا مواهب أبي عبد الله البخاري جلية واضحة وترتسم أمامنا صورة ناطقة لنبوغه النادر ومقدرته الفائقة. |
يقول ابن عدي سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فتآمر بعضهم على امتحانه في أسلوب شاذ لا ينجح فيه إلاّ موهوب له مثل كفاءة أبي إسماعيل وقدرته الفائقة. |
ذلك أن جماعة عمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها فجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوه إلى عشرة رجال لكل رجل منهم عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا مجلس البخاري أن يلقوها عليه ليمتحنوا بذلك معرفته ويميزوا خبرته. |
وبذلك طلبوا إليه أن يوافيهم إلى مجلس اتفقوا على موعده فلما حضروا اطمأن المجتمعون وكانوا خلقاً كثيراً بينهم كبار رجال الحديث من أهل بغداد وخراسان وبعض الأمصار الأخرى، تقدم إليه أحد العشرة فسأله عن الحديث المتفق على تغيير سنده فقال البخاري لا أعرفه فابتدره الثاني بمثل ما فعل الأول فقال البخاري لا أعرفه فأعقبه الثالث والرابع إلى نهاية الرجل العاشر في مثل الطريقة التي ابتدره بها الأولون فلم يخرج البخاري عن قوله لا أعرف. |
وعندما ظهر له أنهم قد فرغوا التفت البخاري إلى السائل الأول فصحح له إسناد حديثه وفعل مثل ذلك للرجل الثاني والثالث ولم يترك عشرتهم حتى رد إلى كل متن سنده وإلى كل إسناد متنه. فاستولت الدهشة على جميع الحاضرين وأقروا له بقوة الحفظ وكمال الفضل. |
ولم يكتف حساد البخاري بهذا فقد كان معرضاً في أكثر مجالسه لعنت المناضلين وقسوة المناظرين وعناد الممتحنين ولكنه كان دائم الظفر لم يخنه النجاح في أشد المواقف حرجاً ولم يستطع مناوئوه أن ينالوا من مكانته أو يبلغوا غايتهم من كفاءته الفذة ومقامه الممتاز. |
بَعُد صيت الشيخ على أثر هذا النجاح المطرد وظفر بثقة عامة قلما ظفر بها مثله من شيوخ المسلمين، وشرع طلاب العلم يحجون إليه من مصر إلى مصر ويتبعون أخبار تنقلاته بين ممالك الإسلام ليشدوا رحالهم إلى حيث توجه أو ينتظرون وصوله حيث نوى. |
كانوا يلقبونه أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين ولكن أمراء المؤمنين من جميع الأنواع في عصره كانوا لا يظفرون بالنتيجة التي يظفر بها البخاري ولا يقابلون أينما رحلوا بالحفاوة التي كان البخاري يقابل بها كلما ألقى عصا تسياره في بلد أو مصر وكان مع هذه الحفاوة يأبى أن يطمع إلى ما في أيدي الناس أو يتقرب إلى وجهائهم من أصحاب السلطان أو أرباب الغنى في تزلف يعود عليه بالنفع أو يضمن له الفائدة. |
كان يقنع من أسباب الحياة باليسير السهل ولا يتكلف في دنياه إلاّ ما يحفظ عليه مروءته ودينه. |
وعندما بلغ الغاية من الشأو الذي يتمناه كل طامح كان لا يستنكف أن يجالس صغار المنتفعين بعلمه ولا يبخل بما يعرف على كل مستفيد مهما قل شأنه أو تضاءلت منزلته. |
وقد ترك شظف العيش الذي قاساه في باكورة حياته أثراً في أخلاقه العامة. فقد ذكروا أنه عاش بقية حياته يحدب على الضعفاء ويساعد طلاب العلم ولا يبخل على أصحاب الحاجات بما يعينهم على قضاء مآربهم. |
ولم يفتر عزمه عن طلب المعرفة حتى في أيامه الأخيرة فقد كان كثير الدأب طويل السهر واسع الإطلاع وكان يلتمس المعرفة مهما بعد طلابها أو صعبت وسيلتها وكان يبلغه أمر الحديث فيشد رحله إلى أقصى البلاد ليلقى راويه فيسمع عنه وكان تحقيق الأسانيد ربما كلفه أسفاراً طويلة وجهداً شاقاً فلا يبالي في سبيل ذلك مشقة ولا يثنيه جهد. |
ومات رحمه الله بعد أن أورث المسلمين في جميع أصقاع الأرض ذخائر قلما يطاولها شبيه ماثله في صحيحه المشهور بين سائر طبقات المسلمين. |
|