شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المكوس في تاريخ مكة
عاشت مكة إلى منتصف القرن الخامس الهجري لا تعرف فرض المكوس على حجاج بيت الله الحرام، فقد كانت تتبع الحكم الأموي ثم الحكم العباسي وكان خلفاء الدولتين لا يضنون عليها بالمساعدات المادية التي تغنيها عن المكوس بل كانوا في الأغلب الأعم يتولون الإنفاق على مرافقها دون أن يتقاضوها أو حجاجها شيئاً غير نصيبها الشرعي من غلال الأرض في بوادي الحجاز أسوة بغيرها من الأقاليم التابعة لحكم الخليفة.
وعندما حاولت الطبقة الأولى من الأشراف أن تستقل بشؤونها في مكة في عهد الفاطميين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري شعروا -فيما يبدو- بحاجتهم إلى إحداث المكوس فأحدثوها دون أن يبالوا بنقد الحجاج أو يأبهوا لصرخات الاحتجاج.
وكان الفاطميون في مقدمة الناقدين الذين ساءتهم بدعة هذا الحدث ولكنهم عجزوا عن منع الأشراف منعاً باتاً عن مقاضاة الحجاج تلك المكوس لأن الأشراف كانوا يحتجون بحاجة البلاد إلى ما تنفقه في مرافق الدولة وتأمين الأمن فيها.
كان الفاطميون يبذلون لهم من العون المادي ما يحسبونه كافياً لمرافق البلاد ولكن الأشراف مضطرون لإنفاق أكثر هذه المبالغ في تحصين البلاد من خصومهم -وخصومهم أبناء عمومتهم في الغالب- فكان العجز يحالف موازناتهم في استمرار، وكانت حاجتهم إلى تغطية النفقات لا تقف عند حد فليس لهم إلاّ أن يصروا على مقاضاة الحجاج ما يفرضون من مكوس.
وربما أعفي بعض الأشراف من أصحاب الحكم في مكة الحجاج من المكوس في بعض السنوات بدافع من ورع الحاكم وتقواه وقدرته على ضغط النفقات وبسبب يمت إلى ضعفه وخوفه من سطوة الفاطميين إلاّ أن هذا لا يلبث أن يزول بزوال الحاكم التقي أو الضعيف لتستأنف المكوس بعده سيرتها من جديد.
ولا يعجز الفاطميون عن فرض سلطانهم على حاكم مكة لأنهم عاجزون عن فرضه بقوة السلاح ولكنهم كانوا ينافسون بغداد في شراء رضائه يحاولون ألاّ يحظى العباسيون عنده بالدعاء على منبر مكة دونهم.
وكان الأشراف يكلون استيفاء رسوم الحجاج في الغالب إلى حكام القرى التي توالي حدودهم فلا يستطيع الحاج أن يتخطى الحدود إلى الحجاز حتى يؤشر على أوراقه بالتسديد. وإذا استطاع الحاج أن يفلت من الوكلاء أو يخلف الطريق المقرر فإن المسؤولين في جدة يمنعونه من مواصلة السفر إلى مكة حتى يوفي ما عليه من مكس.
وقد حج العلامة ابن جبير في القرن الخامس الهجري فذكر المكوس المفروضة على الحجاج وقال إن أشراف مكة يكلون أمر استيفائها إلى قبيلة من عرب البجاة كانت تسكن صعيد مصر الأعلى بين عيذاب والقصير وهما من شواطئ الصعيد على البحر فكان رئيس القبيلة يستوفي الرسوم المفروضة لأشراف مكة ويؤشر بذلك في أوراق خاصة تقدم إلى المسؤولين في جدة ليمنحوا رخصة المرور إلى مكة.
ودامت المكوس طوال عهد الفاطميين والأيوبيين إلاّ أنها لم تتخذ شكلاً موحداً مستمراً فقد كان بعض حكّام مكة يعفي الحجاج من بعضها ثم لا يلبث غيره أن يعيدها إلى ما كانت أو يضيف إليها غيرها.
وكان بعض رؤساء الدويلات الإسلامية في ذلك العهد يتطوع بإهداء الأشراف مبالغ من الأموال تقوم مقام المكوس ليتنازلوا عن جبايتها من الحجاج فيجري العمل بذلك سنوات تطول أو تقصر ثم يستأنف الحال سيرته القديمة ويعود الحجاج إلى دفع المفروض عليهم.
ومن أشهر المتطوعين لافتداء الحجاج من رسوم الحج صلاح الدين الأيوبي فقد حج في عهده أحد أعلام الإسلام ولما وصل إلى جدة أبى أن يرضخ لما تقرره المكوس وأعلن العودة إلى بلاده إذا أصر المسؤولون على استيفاء رسوم الحج منه فرئي التنازل عن مقاضاته احتراماً لمركزه الديني، وعندما انتهى إلى مكة استرضاه حاكمها وأوضح له فقر البلاد وحاجتها إلى ما تنفقه في مرافقها فقنع بذلك.
وعندما عاد من الحج استطاع أن يجتمع بصلاح الدين الأيوبي وأن يقنعه بتخصيص مبالغ من الأموال تغني أشراف مكة عن المكس فكتب الأيوبي إلى مكة يعرض مساعدته لقاء إعفاء الحجاج من الرسوم فقبل شريف مكة واتفق الطرفان على تسجيل ذلك محفوراً في أحد أساطين المسجد الحرام وقد ظلت الأسطوانة قائمة في المسجد حتى أزالتها بعض الإصلاحات في عهد العثمانيين.
ولم يدم إعفاء الحجاج من الرسوم في عهد الأيوبيين طويلاً لأن موارد الأيوبيين ما لبثت أن ضعفت على أثر الانحلال الذي دب في صفوفها فعجزت عن موالاة إرسال المساعدات إلى مكة فاستأنف الأشراف فرض الرسوم.
ولما لمع نجم المماليك واتصلت أسبابهم بمكة واستطاعوا أن يفرضوا سلطانهم في بعض السنوات على أشرافها استطاعوا إلغاء المكوس بعد أن رتبوا على أنفسهم مقادير من الغلال والأموال يرسلونها إلى مكة ليساعدوها على الإنفاق وتطوع بعضهم فأوقف لصالح الحرمين أراضي زراعية واسعة الأطراف متعددة المواقع كما أوقف غيرهم قصوراً شامخة وقرى كاملة بما تحتوي من دور ومزارع إلاّ أن ذلك لم ينتظم أمره في أسلوب مطرد فقد كانت صلة المماليك بمكة تتعرض لكثير من ألوان الخلاف فلا تلبث أن تمنع عن مكة فيعود حكامها إلى فرض الرسوم نكاية بالمماليك أو نزولاً عند حاجتهم الملحة إلى الإنفاق.
وعندما ورث العثمانيون حكم البلاد الإسلامية في الشرق العربي واستطاعوا أن يهيمنوا على مقدرات مكة نظموا شؤون الحقوق التي أوقفها المماليك على مكة ورتبوا لها وكلاء يستوفون غلاتها سجلات خاصة ثم زادوا فاقتنوا الأراضي الشاسعة والمزارع الواسعة واشترى بعضهم عدة قرى في نواحي قليوب من القطر المصري وأضافوا جميع ذلك إلى أوقاف الحرمين على أمل أن يغنوا سكانها وأشرافها عن مقاضاة الحجاج وقد بدت آثار ذلك مفيدة نافعة إلى نحو نصف قرن ثم تغيرت الأحوال وبدأت بعض الأيدي تتلاعب بأوقاف الحرمين وغلاتها. وقد ظل التلاعب يتطور بتطور الأيام حتى كان عهد محمد علي مؤسس الأسرة العلوية في مصر الذي رأى أن يحسم الأمور فيلغي جميع الوقوف على الحرمين ويحيل غلاله إلى خزانة مصر ويصدر أوامره إلى الخزينة أن تتولى الإنفاق على صنع كسوة الكعبة وأن تقرر ما يلزم تقريره من الصدقات التي ترسل إلى مكة لتوزع على أهليها إلى جانب الصرر والمعاشات والعوائد المقررة لأصحاب النفوذ فيها من أعيان وكبراء وحكام.
لقد خاب أمل المماليك فيما أوقفوا على مصالح الحرمين كما خاب فأل العثمانيين.. ومن غريب ما يذكرني في هذا أن العثمانيين الذين ساعدوا على تنظيم الأوقاف وأضافوا إليها ما ضمن لمكة وحكّامها غنى عن جمع المكوس ما لبث أحفادهم أن عادوا إلى التغافل عن جرأة حكام مكة في إعادة المكوس ما إن بعض هؤلاء الأحفاد كانوا يقرون تلك الأعمال وربما أصدروا أوامرهم الشاهانية بالموافقة عليها وتقرير أعيانها ومقاديرها ووسائل استيفائها.
وبذلك اكتسبت المكوس على مر الأيام صبغتها الرسمية ونالت تأييد ديوان الخليفة ككل نظام نافذ الكلمة ساري المفعول.
وفي حديث آخر نستطيع أن نتابع بشيء من التفصيل بعض القواعد التي ترتب عليها تنظيم المكوس بصورة يتقاضاها حكّام مكة بعد موافقة الباب العالي في الآستانة وأن نخلص من ذلك إلى عهد حكومتنا التي تفضلت بإلغاء تلك القواعد وإبطال ما ترتب عليها من مكوس.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :734  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.