مكة بين الماضي والحاضر |
أترانا في حاجة للإشارة إلى النهضة العظيمة التي نهضها قصي في تضاريس هذا الوادي وما تمخض عنها من أمجاد في عهد قريش؟؟ |
أم ترانا في حاجة إلى الإشارة بجلال الحركة التي اضطلع بمهامها محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وما ترتب عليها من نتائج في أكثر من نصف المعمورة في أقل من قرن واحد؟؟ |
إننا غنيون عن استقصاء هذه الروائع بما سجله التاريخ في صحائف أجدادنا بقدر ما نحن فقراء إلى دراسة ما أصاب نهضتنا من نكس.. دراسة دقيقة تحلل أهم العوامل الرئيسية فيما أصبنا. |
إنني أعتقد أن أبرز هذه العوامل كان منجماً في مراحل تتلو واحدتها الأخرى. |
فقد شرع هذا البلد يفتح الأمصار لينشر دينه، ولغته وعلومه فدفع بجلة أبنائه إلى مواطن الفتح.. فشغلت مواطن الفتح عدداً لا يستهان به منهم ففقدت فيه هذه البلاد عاملاً هاماً من أهم العوامل في نهضتها العظيمة. |
وإذا كان هؤلاء المفقودون قد أحسنوا إلى نشر الإسلام في آفاق الأرض واستطاع خلفهم أن يبنوا لمجده حكومة في الشام وأخرى في بغداد وغيرها وغيرها في الأندلس والمغرب ثم في مصر فإن مما يحز في النفس أن أكثر هذه الحكومات كادت أن تنسى حقوق موطنها الأول أو نسي بعضها بالفعل كما نرى فيما يلي من تفصيل. |
وأصبنا في المرحلة الثانية يوم نجاح معاوية في الشام، فقد كان رضي الله عنه فذاً في سياسته العالية استطاع أن يجتذب وجوه الحجازيين بما كان يغدقه من أمواله الطائلة على المهاجرين منهم إلى مملكته الجديدة واستطاع أن يحسن معاملتهم ويغري نوابغهم بالبقاء في الشام ففقدت البلاد عدداً جديداً لا يقل عن سابقه أهمية وجدارة. |
وبزغ نجم العباسيين في بغداد فشعروا أن لبني عمومتهم بين مكة والمدينة شأواً له خطره على الخلافة وأن نفوذ العلويين من أهليها لا يجب أن يستهان بنتائجه فنشطوا للعمل لمراكزهم فانتدب السفاح ثم المنصور جيوشهما للقضاء على الروح المبثوثة في هذه البلاد ثم جاء الرشيد فاشترى البقية الباقية بصداقاته وأعطياته حتى بلغ عطاؤه بين الحرمين في إحدى السنوات مليوناً ونصف مليون دينار، فكانت المرحلة الثالثة في سبيل الانتكاس أجل فإن بلاداً يعلوها السيف ثم يغمرها الإحسان لا يجب أن ترجوها لخير. |
وأدرك الفاطميون والأيوبيون والزنكيون سر سياسة العباسيين في هذه البلاد كما أدركها بعد ذلك مماليك الأتراك والشراكسة والعثمانيون فأذاقوها سيوفهم مرة وأطعموا البطون فيها مرات فظفروا في ضياع هذه البلاد ليأمنوا على مراكزهم من خطر شأوها في نظر المسلمين. |
اعتلوها بسيوفهم حتى إذا استكانت لهم بذلوا فيها المنح وأكثروا الهدايا ورتبوا المرتبات ثم لم يكفهم حتى نظموا صدقات الغلال التي كانت تشمل جميع البيوت بما يكفيها من العام إلى العام فلم يتركوا حتى أفنوهم في شخصيات الخلفاء وتركوهم (تنابلة السلاطين) لا هم لهم في الحياة إلاّ أن يكنسوا المسجد ويطوّفوا الحجاج ويدعوا للحاقان بالنصر فكانت المرحلة الرابعة. |
ومست الغيرة بعض رجالات المسلمين في الهند من نحو نصف قرن فغضبوا لجهل البلاد وتأخر المعارف فيها فبذلوا من جهودهم ما استطاعوا أن يؤسسوا به بعض المدارس التي لا تكفي لتثقيف البلاد ولكنها استطاعت أن تعرض فيها نماذج لها قيمتها في الحياة. |
وقلدهم بعض المرتزقة فشرعوا يؤسسون إلى جانبهم ما يشبه المدارس ليتصيدوا في شراكها مبرات الحجاج باسم الثقافة والعلم فاستطاعوا رغم دجلهم أن يضيئوا ما يشبه الذبالة في غمار الظلام المخيم. |
وغضب على أثر الفريقين مواطن غيور من آل زينل فخطا بأوسع ما تتسع له خُطى الأفراد في غمرة الظلام واستطاع أن يؤسس أكثر من مدرسة لخدمة الثقافة في البلاد. |
وجاءت النهضة نهضة الحسين فبدأت آثارها تلمع ثقافياً فيما شيد لها من مدارس محدودة وبدأت روح الشباب تتوثب للعمل في آفاقها ولكن.. ولكن بعض رجال النهضة كانوا لا يزالون مرتبطين بعقائد بالية لا تتيح التقدمية إلاّ إلى حد خشية أن تنال قداستهم فاكتفوا بما خطوا كما ساعدت قلة الموارد على القناعة بما قدموا. |
ونحن اليوم على الرغم مما حدث في بواكير النهضة لا يجب أن ننسى أنها كانت إرهاصاً أعد البلاد لما تستقبله في العهد الحاضر بعد أن درت أخلاف الرزق علينا من حيث لا نحتسب وإلى رجالنا وأصحاب قيادتنا ألاّ نقف حتى نثبت وجودنا إلى جانب الأمم الحية في الأرض. |
نحن اليوم نستقبل في كل عام طلعاً جديداً مما ندفعه إلى مناهل العلوم وفي استطاعتنا أن نحكم بأن خطانا ستصل مسددة نحو الهدف ما بقي الخلاص والجد رائدنا. |
على أن نهضتنا سوف لا تستوفى كمالها ما لم ندخل في حسباننا الشمول الثقافي.. فشعوب الأرض اليوم لا ترى في الثقافة التي نهدف إليها إلاّ وسائل ومحاولات تهيئ للمجال الأوسع.. إنها اليوم تنمي الملكات الفكرية وتشجع عليها وتهيئ للمثقفين حقولاً تساعد على التجارب الواسعة المدى.. وهي اليوم تميل في ثقافتها إلى التصنيع الآلي والهندسي والكيميائي وتحبس على مجالهم أكبر قسط في إمكانياتها لأنها تعلم أن مركزها في الحياة وقف على ما تبرز به في أمثال هذه الميادين. |
إننا لا نحب أن نستعجل الأمور قبل أوانها، ولا نريد أن ننسى أن أمراضنا بعد أن جنت عليها أحداث عشرة أجيال لا يكفي لشفائها لمسة ولكننا نبسط آمالنا لمن تنعقد على رؤوسهم الآمال ونرجو إليهم أن يختصروا الدروب التي مشاها من سبقنا من شعوب الأرض.. فقد جدت اختزالات تصل بالقطب في أقصر مما عرف في دوائر الأرض من مسافات. |
|