في مكة ومشاعر الحج |
أنت الآن على أبواب مكة! |
لقد نهبت السيارة بك الأرض نهباً فلم تستغرقك المسافة من جدة إلى حيث انتهيت من مشارف مكة إلاّ نحو ساعة.. وكانت تستغرق آباءك من قبلك يومين كاملين فحمداً لله على سلامتك. |
ستضع الآن قدميك حيث وضع النبي صلى الله عليه وسلم قدميه وستمشي في الدروب التي مشاها، فحاول أن تكون أكثر خشوعاً مما أنت عليه. حاول أن تستغرقك الذكريات العظيمة التي لابست حياته عليه صلوات الله وسلامه، وأن تستذكر جهاده الفذّ وما قاساه بين هذه الأزقة التي تلتوي أمامك وتتعطف. |
فهذا فم الشعب، شعب الهواشم، وأنت تنظر، فإذا ((مكتبة مكة)) تقوم اليوم على أنقاض الحجرات التي ولد النبي فيها. |
خفف الوطء وأنت ترود مدخل الباب، فعلى هذا المنبسط الصغير حبا النبي أول ما حبا قبل أن تحمله حليمة السعدية إلى منازل قبيلتها من بني سعد لترضعه وتشرف على نشأته. |
من هذه الثنية كان ينحدر بعد أن يقع، وعاد إلى مسقط رأسه.. هو ذا يأخذ طريقهُ بين مباذل قريش وترهاتها على حوافي سوق الفاكهة، فيمتعض لما يسمع ويألم لما يرى، فيغذّ في سيره على أمل أن يشرف على الكعبة فتتفتح لها مغاليق نفسه.. ولكن مطاف الكعبة يواجهه بأوثان منصوبة وعبّاد عري، خلعوا ثيابهم وشرعوا يتبتلون في هراء لا يقبله ضمير.. فلا يلبث أن يبتئس. |
أنت تدري أنه قضى سني صباه وصدراً من شبابه ينكر الترهات دون أن يقوى على مجابهتها. |
وبنى على خديجة، فتغير دربه من طريق سوق الفاكهة.. وإذا لذَّ لك أن تعرف بيت خديجة فلا أكثر من أن تعرج على سقيفة ((اللبانين)) وهي اليوم سوق الصاغة.. هناك تطالعك مدرسة تحفيظ القرآن، وقد بنيت اليوم في المكان الذي كانت تسكنه خديجة. وفيه بنى عليها الرسول صلوات الله عليه وسلامه، وفيه أولدها فاطمة الزهراء، فما أروع هذه الذكريات، وما أشجاها للنفس المؤمنة. |
هنا بات طريقه يأخذ الدرب من سقيفة ((اللبانين))
((إلى زقاق الحجر ليخرج إلى الساحة التي نسميها اليوم)) باب النبي ((فيتجه منها إلى الكعبة المشرّفة لتطالعه نفس المظاهر التي كان يشمئز منها حول الكعبة)). |
إذن فما يمنعه أن يبعد وأن يغذ في البعد.. ما يمنعه أن يختار من جبال مكة ما يقصيه عن غوغاء الحياة، ويتيح له الاستغراق والتأمل. |
هذا جبل حراء ما أعلى ذروته وأشق مصعده.. هنا على كتفه الأقصى، الذي تنشق الصخور عن فجوة متربة نسميها غار حراء، وجد النبي صلى الله عليه وسلم راحته النفسية فيه تحت سماء تغيب في غياهب الأفق، ونجوم تشع في جمال أخاذ. |
إنه جبل لا يكلفني وأنا في طريقي إلى منى، إلاّ أن أشير إلى يساري إلى أعلى ذروة بين الجبال لترى إلى أي مدى أبعد صلوات الله عليه وسلامه في عزلته وأي مرتقى قاسى وعورة مسالكه. لست معك اليوم لنتابع سيرة سيد الخلق، فلذلك مظانه الواسعة.. إنما نحن هنا لنتابع آثار خطوه في هذا البلد الكريم. |
نحن هنا في أعالي مكة على نجوة من الجبل الشامخ، جبل حراء. ولكن ثمة ما هو أبلغ شموخاً، وأصعب مرتقى تستطيع أن تشهده عن كثب إذا راق لك أن تستأنف عودتنا إلى أسفل مكة. |
ذلك هو جبل ثور.. وفيه الغار الذي ضمه وصاحبه يوم الهجرة، يوم آلت قريش إلاّ أن تضع حداً لثورته على آلهتها فأخفقت ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (التوبة: 40). |
لا أريد أن أتلو عليك أسباب هجرته، فكتب السيرة قد فاضت بمئات الفواجع التي لا تدانيها فواجع، وحسبك مني أن أقف بك في ذيل الصفا على البيت الذي كانت الفواجع تدفعه إليه في أشد أيامه قسوة وأعنفها ضراوة. |
هو ذا دار الأرقم حيث كان يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من حمايته، بعيدين عن أنظار قريش، محتمين بجداره القوية من شرارهم. ولدار الأرقم قصص لها أثرها في أحداث الإسلام الأولى. كان يتعيّن عليّ أن أسردها أو بعضها في حوادث ما قبل الهجرة. لو كنت هنا لأؤرخ.. وإنما أنا هنا لأتابع معك آثار النبي بين شعاب مكة وجبالها. |
ولعلّ من أروع ما تذكرني به هذه الدار في ذيل الصفا قصة إسلام عمر.. وأنت تعرف من هو عمر حدة وبأساً وشكيمة. |
أغراه شبابه باقتحام دار الأرقم على من فيه، ليقضي على الدعوة المحمدية في عقر دارها، فلقيه في الطريق إليه رجل من قريش كان لضعفه يكتم إسلامه، فمال عليه عمر يصفعه ويهزأ به ((أهذا أنت يا نعيم.. منذ متى صبأت؟)) فصاح به نعيم: ((أليس من الحزم أن تسأل أختك مثل هذا السؤال؟)). |
ارتاع عمر للخبر وانطلق يجري إلى بيتها، فإذا أخته تقرأ القرآن، فما ملك أن علاها بسيفه، وهو يتهدد: ((أصدقيني وإلاّ قتلتك))! قالت: ((سأصدقك ولك أن تفعل ما تشاء. لقد حبب الإسلام إلى قلبي، فأسلمت، وإذا استطعت أن تهدأ فدونك هذه الصحيفة تتلو ما فيها)). |
أخذها عمر وشرع يقرأ، فإذا آيات تأخذ بمجامع قلبه، فما كاد ينتهي حتى أعلن إسلامه، وانفك يجري حتى جاء دار الأرقم، فأيد إسلامه، ولحق بنوادي قريش يهيب بهم: ((ألا إني قد أسلمت، فمن لم يرضه هذا فليلحقني بظهر الوادي)). |
أخشى أن يكون السياق -قد حاد بي عن آثار النبي ومواقف الحج في مكة، فهلمّ بي ندفع مع الحجيج إلى عرفات، ثم نزدلف إلى المزدلفة، وننحدر إلى منى. |
إن موقفنا من عرفات يذكرني بحدث كان له شأنه.. كان نقطة انطلاق في تاريخ الإسلام. كما ظل أثره إلى اليوم سياجاً مانعاً يحيط بمكة. |
((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، بَرَآءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (التوبة: 1-6). |
كان ذلك في السنة التاسعة للهجرة عندما وفد إلى مكة حجاج المدينة من المهاجرين والأنصار والقبائل تحت إمارة أبي بكر الصديق. وانتهوا إلى عرفات، وفيها المشركون يؤدون من مناسكهم على ما ورثوا من تقاليد آبائهم. فانتحى أبو بكر بالمسلمين جانباً من عرفات يلبي بهم على ما سن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وترك المشركين في جانب آخر ينسكون منسكهم الموروث الضال دون أن يعارضهم، رغم أن مكة باتت بعد فتحها محكومة للإسلام. وللإسلام شريعته التي لا تقبل الترهات الضالة. |
وإنهم لكذلك. وإذا بعلي بن أبي طالب يقف على خيام المسلمين موفداً من المدينة يحمل في رحاله أوامر جديدة نزلت بها سورة براءة بعد أن فصل حجاج أبي بكر عنها. ورأى أبو بكر أن يؤجل إعلانها إلى منى. فازدلف الناس إلى المزدلفة. وطاف المشركون بالمشعر الحرام، يلهجون بذكر آبائهم. ووقف المسلمون على نجوة منهم يذكرون الله. كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. |
وما انتهى الحجيج إلى منى حتى أعلن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفوعاً بما نزلت به سورة براءة. وفيها أن لا عهد لمشرك ولا ذمة إلاّ لمن كان له عند رسول الله عهد، وعهده إلى مدته. وأن الله أمر بجهاد الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص. ومن كان لا عهد له فأجله أربعة أشهر. يرجع فيها كل قوم إلى مأمنهم ثم لا عهد لمشرك بعدها. |
وفيها أن لا يحج بعد عامهم هذا مشرك. وهي نقطة الإنطلاق في تاريخ الإسلام التي استصفت مكة دون مدن الأرض للمسلمين دون سائر الملل ومنعتها إلى اليوم أن يطيف بها غير المسلم مهما كان ظرفه. |
وبعد.. ألا ترى وقد انتهينا إلى ((منى)) أن نعرج على بعض آثار النبي فيها؟ |
أمامك الآن وعلى خطوات من مستشفى ((منى)) الكبير يقع مسجد ((الخيف)) وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلّى في مكانه. وإذا تراءى لك أن تمد خطوك إلى سفح الجبل خلف المسجد، فسوف تطالعك صخرة كبيرة يستظل تحتها بعض الحجاج، وفي ظلها غار المرسلات الذي ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث به بعض الوقت في أيام منى. |
وتستطيع أن تنحدر إلى أسفل ((منى)) لتنتهي إلى مسجد صغير يقع بين الجمرة الأولى والوسطى، على يسارك وأنت تنحدر.. إنه مسجد ((المنحر)) وقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه الضحى، ونحر هديه في مكانه. وقد ظل هذا المكان نحراً إلى عهد من التاريخ، وكان الخلفاء في عهود مضت ينحرون هديهم فيه. وعلى غير بعيد منه في السمت نفسه في زقاق ضيق يقع مسجد ((الكوثر))، وفيه نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة الكوثر. |
وإذا كان قد فاتني أن أشير لك إلى بعض المواقع الأثرية في مكة فلا يجب أن يفوتني الآن ونحن نفيض إلى مكة لنطوف بالكعبة للحج. |
ستواجه بانفصالك عن منى إلى مكة شعباً ينعطف على يمينك يسمونه شعب البيعة وفيه بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة الأنصار، حضره عمه ((العباس)). وتواجه على خطوات منه، وفي السمت نفسه، مسجداً يسمونه ((الإجابة)) ذكروا أن النبي صلّى فيه. |
ويمضي بك الطريق إلى مكة في استقامة واحدة، لتنتهي إلى مسجد ((الراية)) فيما يسمونه بسوق ((الجودرية)) وإذا تياسر بك الطريق عند بيت النبي، الذي حدثتك عنه، فستجد مدرسة للتعليم الليلي كان يقوم في مكانها البيت الذي يسكنه علي بن أبي طالب، كما كانت تقوم حوله عشرات البيوت لكثير من بني هاشم. |
وتنحدر في طريقك إلى المسجد لتواجه دار العباس وقد دخلت أنقاضها في عمارة المسعى. |
وعلى خطوات منها إلى الشمال دار أبي سفيان، وفيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بأن ينادي: ((من دخل دار أبي سفيان كان آمناً)). |
وإذا بدا لك أن تتجه إلى أسفل مكة فستواجه المكان الذي كان يقوم فيه دار حمزة بن عبد المطلب، وعلى غير بعيد منها كانت تقوم دار لأبي بكر الصديق. |
* * * |
أرأيت إنها جولة باتت اليوم بعد أن مهدت بلادنا للسيارات لا تكلّف المستقصي إلاّ دقائق. |
وتسوقني قصة تمهيد البلاد للسيارات إلى التمهيد العام الذي تميز به عهدنا اليوم عن عهود مضت. فبلادنا اليوم تحفل بكثير من مرافق الحج التي تؤمن للحجيج راحتهم ومستشفياتنا تنتشر في مدن البلاد وقراها، وبين خيام الحجاج، حيث ينزلون بشكل لا يتسع له مثل حديثي هذا. |
وكان الحجاج إلى عهود قريبة يشكون عدم الأمان وقلة الماء، فبات الأمان عندنا مضرب الأمثال وخدمت مصادر المياه بصورة أوفت على الغاية، أو كادت. |
ولم يقف الأمر عند هذا، فما زال المعنيون يواصلون الجهد على أمل أن يحققوا للبلاد والحجيج أفضل ما يرجون من نتائج. |
|