شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(4)
عفا الله عنك.
أحسبت وأنت تقرأ عن الأعرابي الذي باع جاريته بألف، فلما قيل له لم قبلت الغبن؟ قال: ((والله ما ظننت فوق الألف شيئاً)).. أحسبتها فكرة صحيحة. تصور معارف العرب في جاهليتهم؟؟
أنا لا أستبعد أنها لون من الملح الفكاهية كان القاصّون يتندرون بها في مجالسهم. ولحا الله القاصّين وما فعلوا، وما أضافوا إلى تاريخ العرب من أباطيل وترهات.
أتظن أن معارفهم تقصر عن إحصاء ما فوق الألف وأنت تسمع القرآن الكريم يحدثهم عن قصة يونس فيقول: ((وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون))؟ وتسمعه يحدثهم عن أهوال القيامة فيقول: إنها ((في يوم كان مقداره خمسين ألف)).. أفتظن القرآن يحدثهم بما لا يفهمون، ويخاطبهم بما لا تتسع له مداركهم؟؟
وإذا عرفت أن القرآن الكريم أخذ يحدثهم في صدد التشريع بأدق من هذا، فأشار فيما شرع إلى النصف، والثلث والربع، والخمس، والثمن، والعشر، ونصف العشر، وربعه.. إذا عرفت هذا، عرفت المدى الذي بلغته مفاهيمهم، وعرفت أنهم كانوا في بيئة تجيد أعمال الكسور على هذا النحو، وتجيد مستلزمات التوزيع كعمليات الجمع، والطرح، والضرب، والقسمة.
كانت مكة عاصمتهم -من أهم مراكز الصرافة في العالم القديم، كان يتوارد إليها النقد بأشكاله من عرب يتاخمون بلاد الفرس، وعرب يتاخمون الروم، وعرب يتاخمون البيزنطيين، وعرب يتاخمون الحبشة، وعرب.. وعرب، إلى آخر ما تعرفه من أجناس المتاخمين.
وكان يعايشهم في عاصمتهم جاليات رومية، وحبشية، وفارسية، وعبرية ويتداولون نقوداً أجنبية، ويتاجرون في عروض لا يحصيها رقم، فكانت بيوت الصرافة في سوق الحزورة وساحة الخياطين تيسر لهم مداولة النقد، وتربح من فرق أسعارها أرباحاً يحسدون عليها.
وإذا شئت أطرف من هذا وأدعى للعجب فهلمّ بي، وتعال نمض في دربنا بعد المحناطة إلى المدعي. أتشهد هذا الذي يخب أمامنا خباً؟ إنه من عرب الحيرة باع أحماله من الفواكه المجففة وقبض الثمن، فاشترى به من أسواق مكة وسقاً من المسك.
إنه لا يأمن عليه غائلة الطريق إلى الحيرة فلا بد له أن يؤمن عليه، على غرار ما نفعل اليوم عندما نؤمن على بضائعنا المسافرة.
أتراه يعرج أمامنا في معارج هذه الربوة الصاعدة إلى القرارة؟ إنهم هناك في بيوتهم بين مخارف الربوة المطمئنة يستقبلون تجار الجملة، ليؤمنوا على بضائعهم لقاء جُعْل مرسوم.
وهو وإن كان تأميناً على غرار ما نفعل، ولكنه لا يشبهه في تفصيلاته، فأجيالنا اليوم تؤمِّن ضد الحريق، أو الغرق، أو التلف، بشكل خاص وشروط مخصوصة، فهو نوع من القمار.. لا تملك شركة التأمين إلاّ أن تترك بضاعتك للقدر، فإذا كتبت السلامة لبضاعتك ربحت الشركة ما أمنت به، وإذا حال القدر دون سلامتها تقدمت إليك بقيمة ما أمنت من بضاعتك.
أما تأمينهم فلا أكثر من سلامة من الغائلة في الطريق، يتقاضون قيمة التأمين المرسوم على بضاعتك، ليدفعوا إليك لقاءه توصية إلى غيارى الطريق وقطاعه، فلا يمسونك بشيء، احتراماً لتوصية بيت التأمين.. أو إن شئت فقل لقاء ما تواسيهم به بيوت التأمين، كضريبة مقررة.
لست أعني بهذا أنهم لا يقامرون، ففي بعض هذه البيوت على كتف هذه الربوة قاعات يرتادها للقمار أصناف وأصناف من المواطنين والمجاورين والمهاجرين.. وحتى الحجاج لا يتورعون عن القمار، فشرائعهم لا تحرم ما حرمه القرآن فيما بعد.
وربما خسر المقامر جميع ما يملك، فلا حرج عليه إذا اعتلى الصفا، وصاح ينادي قومه بأعلى صوته: ((يا لفلان، لقد ارتكست، فأعينوني..)) فلا يلبث أن يجتمع إليه القوم، وأن يمدوا إليه أيديهم بما يعينه، إذا تحققوا صدقه، وأنه لا يفجر في أيمانه..
ولا تتورع بيوت التأمين في معارج الربوة من أكل السحت، ومزاولة الربا بأنواعه البسيطة والمركبة، ((ذلك لأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا))، فهل تستغرب وأنت تنظر معي إلى هذا البائس المنطوي على نفسه في ظل السدرة يبكي ماله الضائع؟
أتدري ما خطبه؟.. إنه رهن جماله من عامين في مبلغ من المال يمتار به في أسواق مكة، ليسد جوعة أهله القاطنين في ذيل حصن، ويحيي أرضه التي قضى عليها الجدب، ولكن البطون الجائعة ما لبثت أن جاءت على آخر الميرة. أما الغدير الناضب فلم تسخ عليه السماء، فظلت الأرض على جدبها لا ينبت فيها نابت. وحال الحول، ثم الحول، فباتت الجمال ملكاً للدائن استغرقها الربا في غير رحمة، وترك صاحبها يندب حظه العاثر، ويبكي ماله المفقود.
ألا ترى معي أنها سيئات مجتمع جرفته المدنية إلى أقصى منحدر، كما لمعت في بعض جوانبه بأبهى ما يضيء.. شأن كل المدنيات في كل العصور؟؟
إنها لوثة الغنى، وهوس الترف، وجنون المخابئ التي تكتنز بالذهب الخام، والذهب والفضة مضروبين دراهم ودنانير.
أتعرف ابن جدعان؟ إنه من كبار أصحاب رؤوس الأموال، وما حدثتك عنه إلاّ لمناسبة ظهوره في مرتفع الربوة.. ها هو قادم إلينا يرفل في ثيابه من الكتان المطرزة بالوشي، أتراها كيف تقوم قياماً على جسده من شدة الصقال.
إنه وقد آن أوان عودته إلى بيته يترك متجره الواسع في الربوة لصاحب حسابه وخدمه. تعال نتبعه إلى أجياد حيث يسكن، وإذا تراءى له أن يجول جولة في فرع متجره بسوق الحزورة، فمن الخير أن تزداد علماً بمدى ما يزاول من أعمال.
أترى؟.. لقد صدق حسي، وها هو أمامنا على باب المتجر، تعال ندلف في ساقته كأننا تجار نشتري.
أتدهشك هذه القاعة الواسعة بما يموج فيها من بشر؟ إنهم مماليكه العبيد استوردهم سماسرته من أقاصي الأرض.. هؤلاء قوم من الصقالبة، ربما كانوا من أسرى القرصنة في بحار الغرب، وهؤلاء أروام، ربما سرقهم النخاسون من جزر البحر الكبير، وهذا الأصفر الحديث السن ربما ابتاعه وكيل تجارته من إحدى دساكر الصين، وهذا الجمع الراقص في ركن القاعة، ألا تظنه من مجاليب أفريقية؟
قل معي: ما أغرب ما يتسع له هذا الغني من أعمال!!
أتسمع؟.. إنه يدعونا إلى حفل غداء في بيته في جملة من دعا من كبار قريش. لقد ذهب به ظنه إلى البعيد، فتراءى له أننا من تجار الآفاق، فتعال نهتبلها فرصة -يا صديقي- نتعرف فيها نواحي القوم ونصيبهم من حضارة جيلهم.
ماذا أرى خلفي على الدرب؟ إنهم نفر من بني مخزوم على دوابهم الفارهة، أترى القلائد الذهبية كيف تتدلى من أعناق الدواب؟ لعلّهم من كبار القوم، فهذه الأقبية من الخز أو الديباج التي يرتدونها تدل على مبلغ الغنى وسعة الثراء. إنها ظاهرة لا بد أن تتلوها ظواهر.. فهلمّ ندلف إلى مجلس القوم.
يا لجمال هذا المتكأ المبطن بالسندس، وهذه الزرابي والنمارق المصفوفة بعرض المجلس فوق البسط الناعمة نعومة الحرير، أيعيش ابن جدعان في كل هذا الترف، ويأتي مثلك لينسبه إلى بداوة الأجلاف؟
ما أصدق شاعرهم، وهو يصف يوماً من أيامه:
يوم ابن جدعان بجنب الحزورة
كأنه القيصر أو ذو الدسكرة
إنه واحد من قريش ليس بالرفيع الفذ، ولا الوضيع الهامل، وإنها حياة تكاد أن تعم أكثر من طبقة، في أكثر من حي في مكة. إن بينهم من كان يلبس الرداء بخمسين ديناراً، وبينهم من يدفن في حلتين قيمتهما ألف مثقال من الذهب.
كانت مجالس سمرهم تزدان بالأرائك المفضفضة، والثياب المعصفرة، يشجيهم فيها صوت المغني، أو يضحكهم مجون النديم، ويدور عليهم ساقيهم بخمرة النخيل أو عصير الأعناب في آنية من فضة، أو أقداح من بلور تفوح منها روائح المسك أو الكافور.. فإذا انفض سامرهم أخذوا للراحة ليستأنفوا من غدهم أعمالهم في المتاجر، والمصارف، وأسواق الماشية.
وكانت متاجرهم تستورد الرقيق والصمغ والعاج والتبر، وكانوا ينقلون من اليمن الجلود والبخور والثياب، وينقلون من مصر والشام الزيوت والغلال والأسلحة وأنواع الحرير، ومن الهند أنواع البهارات والنسيج وأصنافاً من الحلي.
ألا تدري أن قوافلهم التجارية بلغت يوم بدر ألف بعير، كانت يومها موسوقة بالثمين والغالي عدا خمسين ألف دينار كانت منقولة بين الأثقال؟ ألا تدري أنهم استطاعوا بعد هذه الغزوة أن يفتدوا أسراهم من المكيين بأربعة آلاف درهم للرجل إلى ألف درهم؟
إنه الغنى مد أطنابه، فتفيؤوه في ترف، ولعبوا في ظله بما شاء لهم الهوى كدأب المتحضرين من أصحاب المدنيات البائدة أو القائمة.
ومع هذا كانوا أهل برّ، يغيثون الملهوف، وينتصرون للمظلوم. كانوا يحفرون الآبار لسقيا الحاج، ويخرجون من أموالهم خراجاً واسعاً يهيئون به طعاماً يسع ألوف الحجاج الفقراء، وكانوا يستقبلونهم في بيوتهم دون أن يتقاضوهم أجراً. وكانت لهم إلى هذا مخيمات واسعة ينزلها المسكين والمحتاج في ظاهر مكة، وسقائف ظليلة يستضيفون فيها أعيان الوافدين.
وكانوا يحفلون بجوانب الفصاحة من شعر أو أدب أو خطابة، فيعدون أسواقها في عكاظ قرب الطائف، أو المجنة، أو ذي المجاز، من أعمال الجنوب، ليتبارى شعراء القبائل وخطباؤها في ألوان من بليغ البيان. ويدفعون بلغاءهم ليشاركوا في المضمار، ويساهموا في مجاله، حتى استقام لهم من فصيح القول ما كانت تشد إليه الركاب.
وبعد، فهل تستمع إلى نماذج مما كانوا يقولون لتعرف مدى ما حققته فصاحتهم وما قررته مفاهيمهم.. هاك فاسمع:
من أجمل قيلاً، سمع جيلاً، أنفك منك، وإن كان أجدع. إن البلاء موكل بالمنطق. ما حيلة الرامي إذا انقطع الوتر. من سابق الدهر عثر. كل الصيد في جوف الفرا. لا قرار على زأر من الأسد. كل شاة من رجلها معلقة.
إن مجالنا هنا لا يتسع لألوف وألوف من هذه الأمثال، فحسبك اليوم ودعني أستودعك الله إلى لقاء آخر ربما تبسطنا فيه إلى أكثر من هذا.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :707  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثالث - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج