(3) |
ما ظنك بهم؟ |
لقد: كانوا أصحاب جاهلية، ليس في هذا ريب، حكمتهم أساطير توارثوها، وأنت تعرف مفعول الوراثة وتعرف أثره في توجيه العقل، ولا تجهل قدرته على إلغاء ملكة النقد. |
قل لي بربك: ألا تعايش اليوم أمماً أضلتها الأساطير عن سبيل الله، وحكمتها الوراثة بما لا مناص لها منه؟ |
لندع هذه لسنة الله في الحياة، وتعال نتابع قصصهم في حياتهم العقلية في القيافة والعيافة والفراسة. |
أي ذكاء هذا الذي كان يميز وصف الدابة من آثار خطوها، كما يميز سن الفتاة من حركتها في المشي، ولا يعجزه أن يلحق الرجل بنسبه عند أول نظرة يدققها في: سيماه وهو إلى هذا يتتبع آثار الضال والهارب، كما يتتبع آثار السارق، حتى يقف على مخبئه ومخبأ جريمته، ويستدل من كلام الشخص وهيئته على أخلاقه، وهو يدرس اليوم في الجامعات وربما قصر عن الشأو الذي بلغوه قبل ألفي سنة، ولا يتطاول إليه أستاذ في علم النفس أو في فلسفة الحياة إلاّ فيما ندر. وهم يكشفون مواطن المياه ويعرفون مظانها، واستطاعوا بذلك أن يستبطنوا الماء من مئات الآبار التي حفروها في مكة، وفي البوادي المحيطة بها. |
أي ذكاء هداهم إلى النجوم: واقعها، وأطوالها، وحركاتها ومنازلها في البروج؟ وأي ذكاء هيأ لهم فهم الأنوار والأمطار وأنواع السحاب، ممطراً وغير ممطر، وعلمهم اتجاه الممطر بالنسبة إلى جبالهم ووديانهم، كما علمهم أنواع الرياح واتجاه سيرها في كل وجه؟ |
لا لم يقف ذكاؤهم عند هذا الحد، ولا انتهت كفاءتهم إليه، فقد برعوا في البحر كما برعوا في البر، كانت مراكبهم تتهادى في البحار تمخر عبابها إلى السودان والحبشة، وكانت تضرب في الشمال إلى موانئ مصر، وتتوغل في الجنوب إلى أطراف الهند. |
تفرقوا في البحار حتى أتقنوا فنونها، وبزّوا كثيراً من جيرانهم فيها، وربطوا أوقاتهم بحركات النجوم، واهتدوا في سيرهم بمطالعها، وكان لهم في الشعيبة وأكبر ظني أنك لا تجهل الشعيبة، فهي ميناء يقع اليوم جنوبي جدة.. كان لهم في هذا الميناء دار صناعة لإنشاء السفن وإصلاحها، وكان ملاحو الجنوب يؤمون ميناءهم إصلاح ما استعصى إصلاحه في موانئهم وكانوا ينتدبون فتياناً إلى هذا الميناء ليتفقهوا في صناعة السفن، ويتعلموا من فنون الملاحة ما يقصر باعهم عنها. |
ولعلّك تدري بعد هذا أن دور الصناعة شاعت بعدهم وظلت متوارثة، حتى استفاد منها المسلمون في عصرهم الذهبي، وأنها انتقلت منهم إلى كثير من الأمم المتحضرة، فهي اليوم عندهم (ترسانة) تحريفاً لـ (دار الصناعة) اسمها الأصيل في عاصمة قريش. |
والآن ألا تتبعني.. سأمضي بك إلى محترفي الطب في بطون قريش، لتعرف أي مدى بلغوه في طبائع الجسم وأمراضه وسائر علله. |
نحن: الآن على فوهة شعب بني عامر، نستطيع أن نسلك درب بني بكر الملتوي لنصافح دار الطبيب، أترى هذه العرصة المزدحمة بالمرضى؟ إنهم ينتظرون خروج الطبيب إليهم. استمع معي إلى قصصهم، إنهم يثنون على مهارته ونجاحه في تخفيف آلامهم، أترى هذا القصي في الزاوية النائية؟ إنه لا يخالط المرضى امتثالاً لأمر الطبيب فقد أصابه الجذام، ولكن أعشاب الطبيب بدأت تترك أثرها في صحته. |
وليس هذا وحده طبيب البلدة، فهناك عند ((المردم الأدنى)) طبيب وإذا عنّ لك أن تمد رجليك إلى منازل ((بني زراة)) من تميم، في سفح قعيقعان، فثمة طبيب آخر عند ((سقيفة بني عائذة)) تستطيع أن تصعد إليه من سوق البزازين عند مدخل أجياد. |
ترى هل طال مشوارك؟ أم أنت تتألم من عرج في رجليك؟ لا.. لا يحسن بك السكوت على ما أرى، دعني أركب بك الطريق إلى المسفلة، فثمة طبيب بارع في علاج العظام. |
أتشكو عجزاً عن المسير؟ الأمر يسير، هذا سوق الحمّارين على خطوات منا في ساحة بني عبد مناف، أيعجبك هذا الفاره ذو البرذعة المفضضة؟ إنه من خير ما يصلح لمثلك. |
ها قد أشرفنا على ما نسميه ((الهجلة)) إنها دار الأزلام ((الحتمة)) أترى الصخيرات.. السوداء عندها؟ والبيت الواقع على كتف الصخرة الكبيرة المشرفة على مبطح السيل؟ إنه بيت طبيب العظام. |
لا تستهول الأمر فالدرب إلى الصخيرات ممهد للمشاة والركبان، لا يعجزك تقطعه راكباً في أمان. |
أترى هذا المحتبي في ظل الصخرة إلى جوار ((الكانون))؟ إنه الطبيب الذي نقصد، وليس غريباً أن نجده خالياً إلاّ من هذا الشخص الذي يعاين أطرافه، فأطباء العظام هنا يتوازعون المرضى، على أن أكثر كهول البيوت وعجائزها يطيبون العظام في مهارة. |
أتتردد في خوف من الكانون؟ لا.. فالكي هنا آخر مراتب العلاج، فأمض ثابتاً ولا تتردد.. أرأيت؟ هذه وصفة الدهان التي أوصاك بها تصدق خبري عن الكي بأنه آخر مراتب العلاج. |
فسأمضي بك إلى سوق العطارين لتشتري الدهان، إنه دون رمية السهم في درب يتفرع من سوق ((الحزورة)) عند دور ((آل صيفي)). ولكن أرى من الأوفق أن نتمتع بهذا الأصيل الغائم، ما دمنا في ركائبنا، على مشارف ((المسفلة)). |
هيا: ولنغذ السير، فما جعل أبي صلابة
(1)
على نجوة منا ألا تسمع خرير المياه، وهي تنحدر إليه هابطة من مشارف التلال حوله؟ أنظر كيف تصطفق المياه بين أركانه إنه مجمع طبيعي لمياه السيول المنحدرة إليه، فيصرفها في جداول تسقي البساتين والمزارع إلى العدوة القصوى من الوادي. |
وإذا شئت فلنتابع سيرنا إلى ((الليط)) على حوافي ما نسميه اليوم ((شارع منصور)) فثمة مزارع يانعة وأشجار باسقة تعانقت فروعها فامتد ظلها وارفاً. |
أترى؟ هؤلاء فتيان قريش وشبابهم في ثيابهم المحمرة والمصفرة، والمعصفرة يتواكبون في ظل الأشجار على شطآن المزارع، أترى هذه الجفنة الصغيرة بين يدي هذه الجماعة في هذا الطرف الأدنى بجانب الصخرة البلقاء. |
ستسألني ما هي، وفيم كانت؟ إنها جفنة للفواكه المجففة يتنقلون بمحتوياتها في نزهتهم إنهم شباب من شباب ((بني مخزوم)) وعلى غير بعيد منهم فتيان من ((بني أسد بن عبد العزى)) أما هؤلاء الذين تشهدهم يتواثبون طربين على صوت المزمار ففتيان من ((هذيل)). |
هذه بطون تعودت التنزه في ((الليط)) وفي ظل الأقحوانة
(2)
في منبسط الوادي وبين.. البساتين القريبة من ((الماجل)) لقصر المسافة بينها وبين منازلهم، وهناك بطون أخرى من ((بني عامر)) و ((بني عبد مناف)) و ((آل عتبة)) و ((آل معيط)) ترتاد حائط الحمام.. وبساتين حول ((ثنية الحجون)) وبطون أخرى من ((بني كنانة)) و ((بني عبد شمس)) و ((آل ربيعة)) ترتاد منتزهاتها في بساتين ((الخرمانية)) ومزارع ((المحصب)) وما يليها من ملتويات وشعوب في الطريق المؤدي إلى ((منى)) وبطون أخرى من ((الأزد)). و ((آل سلمة بن هشام)) و ((آل عامر بن لؤي)) ترتاد متنزهاتها في وادي ((طوى)) ومرتفعاتها ((فخ)) فيما نسميه اليوم ((الزاهر)). |
وثمة: أعيان من صناديد قريش والمثرين فيها يشتملون بعباءاتهم المحاكة من أوبار الجمال فوق القباء الطويل المشقوق من وسطه ليسهل امتطاء خيولهم، يتهادون بها في طريقهم إلى المتنزهات البعيدة في منبسط حوض البقر، والأغوار المزروعة خلف جبال المزدلفة والواحات اليانعة التلال في حواشي عرفة. |
لعلّك تستغرب يا صاحبي أن تكون لمكة المكرمة في هذا العهد القديم كل هذه المتنزهات وكل هذه البساتين، وربما دار في خلدك أن تتهمني بالإغراق والمبالغة، لا يا صاحبي فمن الثابت أن مكة كانت في عهد من عهود التاريخ المجهولة مروجاً خضراء وكانت غيوم الرياح.. الغربية الشمالية تصل إليها قبل أن تفقد رطوبتها فتنهال الأمطار غزيرة عليها ثم ما لبثت عوامل الجفاف الطبيعي الذي طرأ بالتدريج أن حالت دون وصول الغيوم فحرمت مكة المكرمة كما حرم كثير من بلاد العرب من أمطارها، وأقول إن عوامل الجفاف أصابتها بالتدريج، أي أن عوامل الجفاف في عهد قريش كانت سورتها أقل مما نشهده اليوم، فلهذا فقدت مكة المكرمة اليوم أكثر المزارع التي كانت لعهد قريش. |
أتنغص إلى رأسك مستنكراً؟ هوّن عليك فنحن نرى اليوم سورة الجفاف وغيرها قبل خمسين سنة، بدليل هذه البساتين في ضواحي مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف وجدة التي قضى الجفاف على بعض منها فأصبحت في خبر كان. |
|