(1) |
في وسعك وأنت تدرس تاريخ مكة دراسة واسعة تعتمد فيها على أمهات الكتب المؤلفة في تاريخها، أن تلتقط مناظر فيها المثير والمضحك، وفيها ما يشجيك أو يبكيك أو يطويك على غرائب لا تكاد تفهم معانيها. |
نحن: الآن على خطوات من موقف قصي بن كلاب في ظل الكعبة، وقد استتب له الأمر فيها، واستطاع أن يطرد آخر خزاعي منها، ليضع يده على صولجان أجداده من أولاد إسماعيل. |
ويجلجل في أسماعنا صوته الأجش: |
((يا قوم لقد جمعتكم إلى مهبط أجدادكم بعد أن أجلاكم الظلم عنه، وترككم أوزاعاً لا يجمعكم حي في الجزيرة، فالتفوا حول كعبتكم وأحيطوها ببيوتكم وامنعوها من كل فاسد -هأنذا لكم أخط مداراً حولها ليكون حرماً لها، وألزمكم بالبناء لسكانكم حول المدار.. وأن تجعلوا بين البيوت إلى حرمها لتصونوها بسيوفكم وتقوموا على أداء شعائرها، ولا بد لكم في ندوة تجمعكم على نجوة من صحن الكعبة تعقدون فيها مجالسكم، وتتداولون الرأي في ظلها، فأسسوا لها على مرمى حجر من موقفي هذا)). |
وتتعاقب: المناظر في شبه شريط، فإذا بصاحب مكة الغيور على محارمها لا يرى ما يمنع من تنصيب الأصنام في زواياها، ثم لا يلبث أن يأمر بصنمين كانا في ذيل أبي قبيس لينقلا إلى ركن الكعبة، ليتمسّح بهما الطائفون، ويتقربوا بهما زلفى إلى رب الكعبة. |
ويستمرئ الفكرة، فيتخذ لنفسه من أحجار الحرم صنماً يثوي في بيته، ليتبرك به إذا أصبح ويتمسّح به إذا أمسى. |
ويأمر فينحتون له من أبي قبيس تمثالاً يصحبه في رحلاته، إذا تيامن أو تياسر، ويمر.. الشريط، فإذا الفتنة المنكرة والمضحكة معاً تجد مرتعها خصباً في ظل كبير مكة، الذي روى سيفه في خزاعه ليصون الكعبة، وأحاطها بقومه ليذودوا عن قداستها. |
ويتفاقم الخطب فإذا الأصنام في كل بيت من وادي إبراهيم، وإذا ((سوق الحزورة)) أهم سوق في جنوب الكعبة، تزدحم بباعة الأصنام من الحجارة أو الطين أو خشب العرعر، وإذا حجاج الكعبة من كل فجاج الجزيرة لا يكادون ينهون مناسكهم عندها، حتى يتزوّدوا من ((سوق الحزورة)) بما يكفي ذويهم من هدايا الأصنام. |
وتتعاقب المناظر فتتوالى الأجيال، وإذا الأصنام في مكة عقيدة سائدة تختلط بشرعة الكعبة حيناً وتتباعد حيناً، وإذا للعقيدة مذاهب فيها المتزمت والمحافظ والمجدد. |
وتضحك ما وسعك الضحك وأنت تسمع المجدد وهو يبتهل تحت ستار الكعبة: ((واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجى)). وترى المحافظ ينحر عند أقدام صنم الغبغب، ويمضي في تبتل إلى سادن الكعبة ليستقيم له بالأزلام، فإذا انتهى إليه القدح مكتوباً بأمر أو نهي عمل به في غير هوادة أو تردد. |
ويمر بك المتزمتون، فإذا بينهم من أحرم للحج، فحرم على نفسه السمن واللبن والزبد ولبس الوبر والشعر والاستظلال بهما، أو حتى غزلهما ونسجهما، وقد تعرض له الحاجة فلا يدخل بيته بعد أن أحرم إلاّ من ثقب يثقبه في ظهره، لئلا يفسد دخول الباب إحرامه. |
وإذا: بينهم من لا يبيح لنفسه أن يطوف بالبيت في ثوب ربما أذنب وهو يلبسه، فلا بد من جديد يلبسه للطواف، أو يمضي إليه عارياً في غير ستر، وربما عنّ لفتاتهم أن تطوف، فلا عليها أن تمضي إلى طوافها عارية تماماً، ولا عليها إذا تربص بها فتيان مكة أو عاكسها فسَّاقها فهي مأخوذة بتجليات مذهبها. |
وإذا بينهم من لا يشده مذهب واحد، وإذا للمرأة أن تبني بأكثر من رجل، ولها أن تلحق ابنها بمن تختاره من أزواجها. وإذا بالرجل يدخل الكعبة ليصلي، فلا يتقيد بعدد المرات في ركوع أو سجود، وربما اطمأن بين بعض الركعات، فمر به صاحبه، فلا حرج إذا سلم عليه، أو سأله عن الصحة والحال وأخبار العيال وما بلغه من أنباء المطر ومسير القافلة ثم يستأنف سيرته في الصلاة، كأن شيئاً لم يحدث من موانع الصلاة، وربما قدم له صاحبه بعض تمرات مما يأكل، فازدرها وهو يصلي، أو مرت به ناعس هيفاء، فغازلها ولم يتركها إلاّ على موعد من عتمة العشي.. ذلك لأن زياد بن هياب أخبر عن عاتق عن صخر عن كبيش بن صفوان أن كاهناً، يعلم الناس في المسفلة كان يفتي بأنه ليس في مصالح الذات ما تحرم الصلاة. |
ويمر بك الشريط، فإذا متزمت من النوع المتطرف المغالي يحتفل في ثوبه الجديد بدفن فتاته حية، لئلا يعلوها زوج فيكسر من قناته، وإذا في الطرف الآخر من بشر بأنثى فاسود وجهه في حيرة أيمسك أنثاه على هون، أم يلحقها بيوم الدفن في هذا الحفل؟. |
ويدور الشريط، فإذا بك بعد مشاهد الترَّهات أمام نفوس عالية تمجد الشرف وتقدر الكرامة وتتعشق البذل الكريم والشجاعة في أعلى مستوياتها، حسبك أن يقال إنه من قريش لتقول عن المروءة والسماحة والنصرة ما شئت. |
هذا موكب يمضي بك في دروب أجياد، فلا تتبعه.. إنه أمامك على باب ابن جدعان، ويمر الشريط، فإذا هم من علية القوم وإذا هم جلوس في أمر جلل!! أيظلم الضعيف وهم أحياء؟ ويغبن الغريب وهم شهود؟ أم عليهم أن يعقدوا خناجرهم على نصرة المظلوم. |
هات: يا ابن جدعان قصعة الدم، فما جئنا إلاّ لنجمع كلمتنا عليها، هذه أصابعنا مغموسة في دمها إقراراً بألاّ يبيت في بطن مكة ظالم وأننا دون الضعيف حتى نأخذ له الحق. |
ويمر الشريط، فإذا نحن على خطوات من دار شيبة بن عثمان، ترى فيم هذا الجمع حول دور بني عدي؟ إنهم يصعدون في الدرب الذي ينزله الخطاب ابن نفيل.. أتراهم يمضون إلى دار الندوة
(1)
؟. أم هو موعدهم لاجتماع طارئ؟ |
ما أكثر هذه النفوس وهي تحفل بشئونها في ديمقراطية واسعة وإبرام محكم!! وما أغرب أمرهم وهم يجمعون إلى ترهاتهم المثيرة المضحكة سجايا عالية نادرة المثال!! |
|