شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في صحيفة صوت الحجاز
قلت أن لأدباء الرعيل الأول أن يقبلوا درجي بين أسمائهم بعد أن حاولت التأليف بشهادة الشيخ محمد سرور وبعد أن حاولت نشر بعض إنتاجي رغم ما لاقيت من إعراض بادىء ذي بدء.
وأضيف هنا أنه كان لسني كبير دخل فيما يبدو فقد أدركتني (هلوسة) الأدب في سن متأخرة فبدأ الأدباء يقرأون لكاتب جديد لا يجمعهم به جامع ولم يسبق أن عرفوه إلا من اسمه في ذيل ما جدَّ عليهم من كتاباته.
ومضت أيام عرفت في أثنائها الأستاذ فؤاد شاكر فرشحني للعمل كمحرر في جريدة صوت الحجاز تحت إدارة الشيخ محمد صالح نصيف فكان له فضل المعلم في كثير مما أكتب..
كان لا يجيد صناعة الحرف ولكنه كان ثاقب الذهن يمر بما أكتب مرور الحاذق الذي يعرف كيف ينصرف الحرف.
وعندما انتقل امتياز الجريدة إلى الشركة العربية للطبع والنشر برئاسة الشيخ محمد سرور الصبان طلبني لأنضم إليه كمدير لأعمالها بعد أن اختار لتحريرها الأساتذة عبد الوهاب آشي ومحمد حسن فقي وحسن عواد فكنا يداً واحدة أشاركهم في أعمال التحرير ويساعدني بعضهم في بعض أعمال الإدارة.
كان راتبي في هذه الأثناء لا يتجاوز خمسين ريالاً وكان لكل منهم مكافأة يتقاضاها شهرياً لا تزيد عن ثلاثين ريالاً.
وزيد راتبي على مر الأيام أو السنين إن شئت فأصبحت أتقاضى تسعين ريالاً شهرياً لقاء عملي كمدير لشركة الطبع والنشر ومدير للجريدة ورئيس مسؤول عن تحريرها ومدير لمطبعتها.
كان راتباً يستحق الحسد في نظر الكثير رغم أن أعمالي كانت شاقة ومرهقة..
وإذا أضفت إلى هذا أعمالي الفخرية يومها في سكرتاريات الدفاع عن فلسطين والإسعاف ولجنة تنظيم مكتبة الحرم ولجان غيرها نسيت أسماءها علمت مبلغ ما كنت أعانيه من نصب.
كانت الصحافة يومها جديدة في بلد جديد لم يألفها وكان يزاولها من أمثالي شباب جديد ما عركته الحياة وكان يشرف علينا معلمون جدد حذقوا أبواب الفقه ودرسوا علوم البلاغة وأمعنوا طويلاً في دواوين الشعر دون أن تمر بهم أساليب الصحافة.
أما نحن فلم تكن مقومات الصحافة عندنا خبراً وصورة بقدر ما نراها وسيلة لعلاج آرائنا الاجتماعية في الحياة.
وكنت أجد المتحمسين لقضايانا الاجتماعية أتمنى لو استطعت أن أفرغ كل ما يدور في رأسي من أفكار شابة وأن أذيبها حروفاً مقروءة في مقالي الرئيسي ولكن البيئة لا تميل لمثل هذا الشطط فقد عاشت محافظة بكل ما في هذا من معنى وهي تأبى عليك إلا أن تعيش رزيناً وأن تخنق في نفسك صورة الشباب لئلا تزحف على ما ألفت أو تهاجم ما ورثت.
كان يصرخ بي الصارخ وأنا أمشي في عرض الطريق على أثر كلمة نشرتها أنقد فيها بعض تقاليدنا -((يا جماعة فضحتونا الله يفضحكم.. احنا ناس عشنا مستورين.. الناس تقدرنا وتقدر بلدنا والحجاج يقدسونا حتى جيتونا بفضايحكم يا شباب.. عسى النار تشب فيكم ونستريح منكم!!)).
فإذا قلت أن الناس تقدرنا أكثر إذا كنا صريحين مع أنفسنا وإننا لا نتقدم في سلم الحياة إلا إذا تكاشفنا بما نحس من أدوائنا فسوف لا تسمع ما يقنعك أو يرضيك..
كتب إليّ مرة من يقول: ((يجب ألاّ تنشر شيئاً من أخبار غير المسلمين وإلا فامنع الجريدة عني واحذف اسمي كمشترك فيها)).
وكتبت مرة أنتقد بعض تصرفاتي كمطوِّف فثارت ثائرة نفر من المطوفين وهددوني بالضرب أو أقلع عن مثل هذا فألجأني التهديد إلى اختراع قصة خرافية تعالج بعض شؤون المطوِّفين في أسلوب رمزي.
ادعيت أن أحد شيوخ الجن زار بلادنا كحاج ولما عاد نشر عن مشاهداته فصولاً مطولة في صحيفة كان يصدرها جماعة من بنات الجن يسكنون الربع الخالي وإني أهديت إلى بعض هذه الصحف فأنا أترجم بعض ما جاء فيها..
وبعد أن نشرت عدة حلقات غضب بعض المهيمنين على الصحيفة وجاء من يمنعني عن نشر بقية المسلسل لأن محررها لا يعرف لغة الجن فهو يتخيل خيالات كاذبة ولا يصح لمثله أن يوافق على نشر الكذب.
وكنت متحمساً لتعليم الفتاة بشكل حاد فأنشأت أكتب في إسهاب محبذاً تعليمها بشكل أثار عليّ حفيظة الكثير وعرضني للنقد اللاذع فرأيتني أتحايل على الفكرة.
شرعت أكتب بتوقيع (فتاة) فصولاً متسلسلة جعلت الفتاة فيها تصف نشأتها التعليمية وما نالها من عناية أبيها وأخيها حتى تذوقت معنى الحياة وبدأت تنمو بأفكارها إلى مستويات باتت محسودة عليها.
كتبت هذا في بحوث مستفيضة، فلم ألبث أن وافاني تعليق لفتاة لها شخصيتها المعروفة بين بيوتات مكة فتركت المجال يتسع بينها وبين الشخصية الخيالية حتى طال. وحتى ظن القراء إنه نقاش جاد بين شخصيتين لا يشك مرتاب في جهودهما.
وزارني في أحد الأيام عين من أعيان مكة يسألني أن أصارحه بأسماء الفتاتين. قلت ولكن النظام لا يبيحني هذا. قال ولكني أنوي خيراً، فأنا قادم على زواج ويسرني أن أجد الفتاة المتعلمة التي تسعدني.
قلت أما والأمر ما ذكرت. فثق أني لسوء حظك أحد الفتاتين!! أما الثانية فهي من بيت فلان!!
فلم يملك أن سمع اسم هذا الفلان حتى أسرع يطلب يد المصونة وهي اليوم والدة لخمسة من شبابنا أشرفت على تنشئتهم إشرافاً لا تحسنه أم جاهلة.
وكانت جريدة صوت الحجاز تصدر في بعض المناسبات أعداداً ممتازة. فحدث مرة أن أصدرت بمناسبة عيد الفطر عدداً ممتازاً.
وتوزع العدد ليلة العيد.. وبينما أنا في طريقي لبعض حاجاتي في السوق -وكانت نسخ العدد الممتاز قد غمرت السوق- إذ طرق سمعي تعليق صحفي صادر من دكانة كنت واقفاً إلى جانبها.
والتفت، فإذا المعلق (فقي كتاب) يقع كتَّابه إلى غير بعيد من بيتي، وكنت آخر من يتوقع أن يقرأ مثله جريدة ما أو يهمه ما فيها فضلاً عن أن يعلق على ما تنشره.
ولذّ لي أن أتطفل على بعض تعليقاته من حيث لا يشعر لعلي أغير ولو بعض رأيي فيما كنت أتوقع منه، فاقتربت من موقفه ورحت أرهف أذني لتعليقه فإذا هو يقول: ((في أخبار اليوم من جريدة صوت الحجاز، إن الدولة العثملية (كذا) أسست حكومتها من جديد في أفريقيا بعد أن وصل إليها أحد أولاد الخلفاء القدماء وتولى فيها عرش الخلافة)).
هالني الأمر واشتدت غرابتي لخبر كهذا ينشر في جريدتي دون أن أطلع عليه فرأيتني في غير وعي ألتفت إليه لأسأله متى وفي أي صفحة نشر هذا الخبر؟
فما زاد على أن أولاني نصف وجهه وهو يقول: ((لو كنتم تقرأون الجرائد لما فاتكم أخبارها)).
قلت: لقد قرأت جريدة اليوم ولكن ربما فاتني هذا الخبر فهل تتفضل فتطلعني عليه إذا كانت لديك صحيفة أو نشتريها من أحد الباعة؟
قال وقد التفت يواجهني في صدر مرفوع: ((حتى إذا قرأتم فأنتم لا تفهمون!!)).
قلت -وقد لذ لي كبرياؤه: ((إذا كنت لا أفهم ما أقرأ فما على مثلك وقد أفهمه الله إلا أن يتولى إفهامي))؟
اطمأن لتواضعي فعمد إلى سجادة كان يتأبطها ليخرج منها نسخة العدد الممتاز وكانت مطوية بعناية لا مزيد عليها وراح يقلب صفحاتها حتى وضع يده على الخبر المزعوم وأشار بيده يأمرني أن أقرأ.
نظرت فإذا الخبر كتبته يدي نقلاً عن صحيفة خارجية وقد جاء كما يأتي:
((في بعض الأخبار أن لؤلؤة من ممتلكات الخليفة العثماني عرضت للبيع في أسمرة بالمزاد العلني وقد تغالى في شرائها بعض التجار من أفريقيا الوسطى لتتبوأ عرشها في بلاده)).
إلى هنا انتهى الخبر، فاستطعت أن أفهم أنه قرأ خبر لؤلؤة ستتبوأ عرشها عند تاجر أفريقي فاستنتج أن ثمة خلافة (عثمانية) ستنشأ في أفريقيا ولا أكثر..
فهل لمثلي أن يبدد خياله فيما فهم وأن يجرح كبرياءه فيما استنتج.
قال لي وقد انتفخت أوداجه بتأثير ما حاز من نصر: ((ايش بك.. ليش ما تقرأ؟.. اقرأ وسمعني!!)).
تراءى لي في هذه اللحظة أن أتخابث.. فبعض المفارقات ترشح للنكتة الضاحكة في أحلى ألوانها..
بدأت أقرأ الخبر على مسمع منه في لعثمة من لا يحسن قراءة الحرف.. كنت أعجن حروف الكلمة في بعضها فترتبك وتضطرب ولا يستقيم لها معنى أو بعض معنى.
قال وهو يشرع يده في وجهي ليؤكد معنى ما يقول: ((هذا طولك وهادا عرضك وأنت ما تعرف تقرأ)).
قلت: وقد راقني أن أمضي فيما تخابثت: ((أبويا ما علمني القراءة)).
وبدا من سحنته المكفهرة أنه لم يسبق له معرفتي رغم أن كتَّابه لا يبعد عن طريقي وأنا أمر إلى بيتي ذاهباً أو عائداً كما بدا أنه مستاء لهذا الفدم الذي لا يحسن قراءة الحرف فالتفت في لهفة يسألني ألديّ مانع أن أنضم إلى كتابه وهو ضمين بأن يعلمني القراءة في أقصر وقت وراح يحاضرني ليقنعني بأنه لا يليق (بشحط) مثلي أن يعيش في مثل هذا الجهل الفاضح ويؤكد لي أن من العيب أن أستعين بمن يقرأ لي الجريدة أو أي جواب يصلني من أحد معارفي أو تضطرب حروف ما أقرأ بهذا الشكل المزري.
ولذت لي نكتة الموقف فأسرعت بالإيجاب ولم نفترق حتى عين لي الساعة التي يجب أن أحضر فيها إلى كتابه ليبدأ تعليمي القراءة.
وما حان الموعد المضروب حتى كنت على باب الكتَّاب. ونظرت فإذا غرفة صغيرة تضم نحو خمسة أطفال لا يتجاوز أكبرهم سن التاسعة، وإذا كل طفل يحتضن لوحه الخشبي وهو يلوح به ليهدد أخوته وإذا أصوات تتعالى في جلبة تصك الأذن.. بينما اضطجع فقيهنا في ركن من الغرفة يتوسد بضعة ألواح من نوع ما رأيت في يد الأطفال وراح في غفوة عميقة دون أن تؤرقه الجلبة الصاخبة أو تطرد عنه النوم.
وعندما طال وقوفي تطوع طفل فأيقظه بعد لأي فقام يفرك عينيه ويتطلع إلى (الشحط) الشاخص أمامه.
- أهلاً أخينا.. لقد كنت أحلم بك وأنت تقرأ أمامي.. بشارة خير إن شاء الله.. بكره تقرأ أحسن قراءة على يدي.. قول إن شاء الله.
- إن شاء الله.
- هات يا واد يا سعيد اللوح حقك وريني.. وأسرع الواد سعيد بلوح فناوله لفقيهنا فأمرني بالجلوس ثم أمرني بالزحف حتى اصطكت ركبتاه بركبتي وشرع يلقنني لأتابع ما يقول:
- أليف، أليف.
- باء، باء.
- تاء، تاء.
- ثاء، ثاء.
وحسبني بعد أن تابعته في قراءة الحروف الأربعة أكثر من مرة أنني لا أعجز عن قراءتها معتمداً على نفسي فجعل يشير بأصبعه إلى موضع الألف ويسألني فأنطقها (جيم)..
- جيم ايه أخينا.. احنا وصلنا الجيم.. هادي أليف.
ثم يشير إلى الباء ويسألني فأنطقها (صاد).
- مين قال لك صاد ومتى وصلنا الصاد؟
ثم يشير إلى الباء ويسألني فأنطقها (قاف).
- انت يا أخينا راجل بليد.. لا بدك علشان كده ما تعلمت!..
ثم يعيد من جديد قراءة الحروف الأربعة وأنا أتابعه حرفاً حرفاً فأقرأ قراءة صحيحة.
ثم لا يكاد يتركني لأعتمد على نفسي في القراءة حتى يعاودني الارتباك.. فإذا الألف أقرأها صاداً أو لاماً.. وإذا الباء أختار لها أي اسم إلا اسم الباء.
وتكررت المحاولة عشرات المرات فلازمتني البلادة بشكل مثير حتى كاد التمثيل ينسيني أسماء الحروف نسياناً كاملاً.
استشاط الفقيه غيظاً ورأيت يده تتجسس بحكم العادة موضع الخيزرانة خلفه ولكنه ما كاد يفعل حتى بدا وكأنه قد تذكر أن تلميذه اليوم لا سبيل إلى تأديبه بالعصا.
وتفاقم غيظه فتوترت أعصابه وامتدت يده في عنف إلى اللوح الذي كنت لا أزال أتعثر في قراءة حروفه فشده إليه وهو يهيب بي: ((قم من فضلك شوف لك فقي غيري يقرّيك!)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :555  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج