(12) |
طيش |
وعندما تخطيت الحلم، وأوشكت فتوتي أن تستوي، بدأت أشعر في صلف أنني شبيه رجل، وأن من حقي أن أوجه حياتي في السبيل الذي أختار. فأذعنت أمي مشفقة.. أما ستي فقد كانت ترى غير رأي أمي (ما بوشي.. خليه لا يروح المدرسة على كيفه.. هو ما هو ناقصه شي.. عمال يقرأ -الله يحفظه- في أحسن كتاب زي البلبل. يا ريتكم سمعتوه وهو يقرا لي حكاية سيدنا علي، وحرابته مع الجن اللي نزل وراهم إلى سابع أرض وخلاهم يسلموا.. قراية! الله يفتح عليك يا أحمد يا ولد جواهر.. هو إيش مقصودكم يعني؟.. هو لازم ينزل بدال المنصوري يسوي عالم في الحرم.. يكفي يا جماعة.. خلوه يروح على كيفه.. يشوف له صنعه يأكلكم منها) وبذلك صدر القرار حائزاً موافقة ستي!! بتسريحي إلى السوق، وإطلاق حريتي في اصطناع ما أرى. على أن أكفي البيت مؤونته، وأسد عوزه وحاجته. |
وما كان لستي أن تعلم أن عوزي إلى الانطلاق، وإشباع رغبتي في (برحة المروة) التي عشت محكوماً بالحرمان منها، وترك حبلي على غاربي بين (العيال المطاليق) هو أقصى ما يملأ مخيلتي وأن تذرعي باصطناع ما سأحترف لسد حاجة بيتي ليس إلا وسيلة تعينني على الانطلاق، وتبيحني من الفرص أكبر قدر تبيحه (للعيال المفلوتين!!). |
صدر قرار ستي بتسريحي، ثم أشفع بتوصيات حاسمة (قومي أعطي له واحد جنيه من العلبة، وسيبيه يعرف شغله.. يا طلع رجال، وعرف كيف يجيب القرش زي أولاد خالته، يا طلع ندل، وفضل مضحكة للناس!!). |
وقامت أمي إلى علبتها الصغيرة، خاضعة في غير اقتناع ثم سلمتني الجنيه وهي تهيب بي: |
- لكن ما تقول إيش الصنعة اللي بدك تسويها؟؟ |
- بس أنت مالك شغل.. قولي لها يا ستي.. هيا تعرف حاجة في الدنيا!! قولي لها اسكتي مالك شغل!!. |
ولم تنطق ستي بحرف لأنها كانت قد بدأت وظيفتها في السبحة (يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف)، ويدها تشير إلى أمي في إلزام وتصميم أن تعطيني الجنيه ثم ترفع سبابتها اليمنى إلى السماء وكأنها تقول: (عليك يا رب). |
وأعتقد أن الله لم يخيب رجاء ستي فيما توجهت، ولكنه لم يستجب لضراعتها إلا بعد حين طويل. تسلمت (الجنيه) وأنا أعدو في خفة المجانين إلى الدرج، وما بلغت باب الشارع حتى وقفت أعيد النظر في ما كان، وأدققه فيما يكون. |
كان أول (جنيه) تسلمته يدي، وقبض عليه كفي فما أروعه وما أبدع لونه الصافي، ولمعته البراقة، وجماله الناطق!! |
ما أدهش قوته الحافلة، وثروته الحاشدة، وقيمته الغالية!.. إنك ملكي أيها (الجنيه!). وأنني سأمتطيك إلى ما أشتهى.. فما رأيك؟ وبادرتني فكرة. هل سأترك الجنيه في كفي معرضاً للضياع؟ أم أضعه بين طيات حزامي فلا آمن عليه من الجري والعدو؟؟ أم أضمنه الجيب في ثوبي فلا يبعد أن يسقط، أم أربط عليه في طرف إحرامي فأنساه لو نسيت (الإحرام) في غمرة اللعب؟؟ |
ما يمنعني أن (أصرفه مجيديات) أضع في حزامي بعضها، وأدفن البعض الآخر في زاوية من دهليز بيتنا؟ |
استصوبت الفكرة فأخذت سمتي إلى الصيرفي، ولكن الصيرفي ما كان ينقده حتى تبين فيه بعض الزيف فرمى به أمام وجهي دون أن يشفق على فجيعتي في لونه الصافي، ولمعته البراقة، وجماله الناطق!! |
وعندما انتقلت إلى صيرفي آخر، وآخر، اقتنعت بأنه لا بد لي من بيعه بما يساوي حالته الراهنة فقبضت خمس مجيديات بدلاً من سبعة. وعدت إلى دهليز البيت فدفنت البعض، وضمنت البعض الآخر حزامي، بعد أن اشتريت كيساً ينتهي بكتلتين أودعته نقود الحزام، وتركت الكتلتين تتدليان من طرفَي الحزام في رشاقة أحسن (يعسوب) من حارتنا. |
وراعني كف دافىء يضرب على كتفي: (حيا الله أبو زامل!! هيا يدك على مجيدي.. شوف العيال عندهم سليق في الشهدا يدك على نص مجيدي لأجرة الحمار، والنص الثاني للباي ها.. معانا؟). |
- أيوه معاكم.. واللي ينزل من السماء تستلقاه الأرض. |
نعم سأكون معهم. ولكن ما الحيلة الليلة في أمي وستي وقد أمستا تنتظران مكسب الجنيه وأن يعرفا نوع المهنة التي اعتزمت احترافها!. |
دفعت (المجيدي) إلى صاحبي، ووعدت أن أوافيه حيث يجتمعون، ثم انقلبت إلى أمي: |
(شوفي يا أمي.. هذا ريال مكسب اليوم.. ها.. يا ستي اشتريت حوائج من الحراج، وبعتها في ساعتها كسبت ريال واحد.. إيش تقولي.. ها.. شاطر؟؟). |
- شاطر والله يا ولدي.. روح الله يكسبك!! |
- كمان إسمعي.. الليلة 14 في الشهر.. |
وفي الحراج جماعة عزموني، عندهم ولد في الشهدا.. إيش تشوفي.. أنا والله خايف يزعلوا إن كان ما رحت.. كمان أروح أبات الليلة هناك أخاف تزعلي أنت.. والا تزعل أمي. |
- والله يا ولدي إن كان ناس طيبين روح. بس خليك رجال عند نفسك.. ما ينفعك إلا رجالتك.. وأمك ما تقول شي ما دام العزيمة مولد.. شي لله يا أهل الله وتلتفت إلى أمي في عزيمة صارمة: أعطي له فراشه، خلي الواد يماشي الناس.. ويعرف كيف يسوي رجال.. أعطي له الفراش. |
وتعطيني أمي بعض الفراش الذي سأتوسده في ليلتي، وهي تنظر إليَّ مرة، وإلى ستي أخرى.. نظرة الحائر، الذي لا يدري الخير فيما يقدم.. أو فيما يؤخر. |
وتقلنا الحمير كما تقل الصافنات الجياد فرسانها.. ولم يكن لي قبل اليوم عهد بركوب الحمير، فقد عشت مع والدي لا أعرف غير المدرسة بعد الكتَّاب، والمسجد بعد خالتي حسينة، ولكنني أبيت إلا أن أثبت فوق صهوة الحمار، وأعلن من فتوتي ما يؤهلني لمخالطة هذا الصنف القاسي من الناس. وقد اختل توازني فوق صهوة الحمار أكثر من مرة. فكنت أتشبث ببرذعته في إصرار العنيد.. وألقاني مرة على الأرض فاستشاط غيظي، وانقلبت ألهب الحمار بخيزرانتي، كما يفعل (المشاكلة) إذا عثرت بهم رجل الحمار!! |
وانتهيت إلى وادي الشهداء (الزاهر) فكانت ساحته المتسعة باتساع ما يمتد إليه النظر غاصة بجموع لا يحصيها العدد.. |
كانت كل مجموعة تستقل جهة في الوادي على ضوء مصباح، أو مصابيح خاصة بها، وتترك نارها تشتعل تحت قدور طعامها. بينما ينتشر بعض أفرادها في امتداد الوادي يلعبون (الكبت)، أو يتسابقون في العدو والقفز ويجلس المتعلقون إلى ضوء المصابيح يلعبون الشطرنج أو يتنقلون بين مجلس حسن جاوي تحت بيت الفنتيانة أو مجلس صالح الحلواني بالقرب من مقعد بيت العراقي. |
كانت ليلة أبحتها جميع مشاعري، فلم أترك لعبة عنيفة إلا شاركت فيها، أو مسابقة خشنة إلا كنت المجلّي فيها. حتى جاء العنف، وجاءت الخشونة على أثوابي فمزقتها، وتركتني أضحوكة بين رواد الوادي وسمَّاره. |
ولكني أحكمت الصلة بأكثر (العيال في بشكتي). وتعرفت بعدد غير قليل من أفراد المجموعة التي كانت تحتشد بها الأماكن القريبة منا في الوادي. |
ورأت أمي ثيابي الممزقة، من أثر الكبت فأرادت أن تبرهن بها على ما تعتقد من شقاوتي، والكبت لعبة ينقسم اللاعبون فيها إلى فريقين في أحد الميادين يفصل بينهما خط مستقيم وينتدب الفريق أحد لاعبيه ليقتحم القسم الآخر وراء الخط ويناجز من فيه فإذا استطاع أن يضرب أحدهم ولو لمساً ثم يتخطى الخط القاسم دون أن يقبض عليه اعتبر الشخص المضروب ميتاً وغادر اللعب أما إذا استطاعوا القبض على المقتحم قبل أن يتخطى الخط عائداً فإنه سيكون هو الميت في عرفهم وبذلك ينقص عدد اللاعبين واحداً. |
وعلى هذه الوتيرة يستمر النقص في الفريقين حتى إذا فقد أحد الفريقين أنفاره عن آخرهم اعتبر الفريق مغلوباً. |
وفي استطاعتهم أن يستأنفوا اللعب من جديد وهي لعبة تمثل الفروسية في أعلى مظاهرها إذا استطاع المختصون تهذيبها وتشذيب ما يشوب فصولها من عنف. استطعت أن أقنع ستي بأن أثوابي كان قد أنهكها القدم، وجعلها قابلة للتمزيق. |
وزاد اتصالي بعدها بكثير من (العيال المطاليق) في حارتنا، وفي بعض الحارات الأخرى التي تحالف حارتنا، واستطعت أن أتسلط بمهارة على جزء طيب من علبة (الجنيهات) التي كانت تحتفظ بها أمي. لأني كنت أدعي أن أعمالي في الحراج قابلة للتوسعة، وأن بعض العيال يشاركونني بأموالهم، وجهودهم. |
ولم تكن هناك أعمال في الحراج. بل لم يكن ثمة (عيال) إلا المطاليق الذين لا يشغلهم إلا أخبار الحارات المجاورة، وقصص (المشاكلة) في ضرب العصا. |
وكنت أسخو لأمي ببعض الريالات في بعض الأيام، بدعوى أنها أرباح تدرها أعمال الحراج.. كنت آخذ الجنيهات بيميني، وأقدم بعض الريالات بشمالي.. بدعوى أنها ربح تبيح لي التوسع في بعض (الجنيهات). |
ولم أدم على ذلك طويلاً، فقد كان موجود العلبة محدوداً، وكانت أمي تكرر أمامي حساب الموجود، كلما نقدتني جنيهاً واحداً، وأضع يدي على مبلغ الخطر الذي يدنو منا كلما قل عدد الجنيهات في العلبة؛ ولكني كنت مشغولاً عن حسابها (بشقاوتي) وما غمرتني به (بشكتي) من الطيش. كنا نقضي نهارنا في مداخل برحة الفل بجوار المسعى نهزج بأغانينا: (يا لعشرة من قال لك تجاكر.. يا لعشرة قل للحجر يمشي) والعشرة فيما علمت أحد (المطاليق) وهو يوازي عشرة (مشاكلة) وكان من غير حلفائنا في الحارة وقد أغرته (شطارته) فحرك إحدى الحجارة على حدودنا في الحارة فأعطيناه الدرس القاسي وجعلناه أغنيتنا: (يا لعشرة من قال لك تجاكر بالعشرة.. خل الحجر يمشي). |
وكنا نقضي أمسياتنا في ظل من برحة المروة تحت دكان أحد (بشكتنا) من أولاد المزينين نسأل عن موكب الزواج في بيت الفلمبان، هل سيتخطى حدود حارتنا؟ -(أبداً. شوف يا واد طاهر أنت، وبطنجها، والواد أبو رأسين.. وخذوا معاكم أبو سنكيت، والأشرم، وولد الدحدح، واستنونا عند رأس الحدود.. خليكم مدسوسين ورا الطاحونة اللي هناك. وأنا وسحلول، والمطبقاتي، وأبو عروج.. نمسك رأس الخرابة اللي جنب الطاحونة.. من يوم ما نشوف السرجة حقت الجواز مقبلة نصفر لكم.. إن كانت وصلت الحدود وطلعت على فوق وما دخلت على حدودنا كفى الله المؤمنين.. وإن كان لا والله حطوا رجلهم عندنا.. دغري يدنا والحجارة اللي في الخرابة على الفوانيس، والشمعدانات والأويزات وخليناها دشمان. لا يسير الدشمان حتى تكونوا انتو في وسط الميدان.. طيحوا بالعصى زي ما يكون.. في رؤوسهم، في أكتافهم في عيونهم.. المقصود واحد منهم لا يدخل الحدود.. ها. إيش قلت يا واد دحدح: وإنت يا أشرم.. تمام). |
خلاص تمام.. عيالك عيال!! ويكون (الدشمان) ويكون ضرب العصا في سبيل الحدود كأننا في خط ماجينو بين الفرنسيين والألمان
(1)
. |
وكنا في دكان المزين لا نترك ضعيفاً يسلم من أذانا، كنا نغطي أحدنا بما يشبه الملاءة ونجعله في باطنها كالصرة، ثم نطلب من بعض الحمالين أن ينقل هذا الحمل في (الزنبيل) بأجرة نفاوضه فيها فإذا وضعنا صاحبنا المصرور في (الزنبيل)، ونقلناه على رأسه بدأت الصرة تتحرك وبدأ العفريت يقفز في براعة من الزنبيل على الأرض فيجري المسكين في هلع، تاركاً (زنبيله)، ونبقى في أماكننا مسرورين بإبداعنا. |
وكنا ندعو حاملاً آخر فيأخذه أحدنا إلى أول بيت يصادفه حتى إذا دخل به الدهاليز انفتل عائداً في خفة وأقفل باب البيت على الحامل الذي تركه يصرخ ليزعج السكان، والجيران حتى يطلقوه من حبسه، فإذا انطلق خرج مغيظاً يستبد به الحنق، بينما نشرف عليه نحن من حيث لا يرانا؛ لنضحك من حركاته ملء صدورنا. |
وكنت شخصياً من أكثر العيال (شقاوة) وأميزهم وقاحة، وكانت لي عصاة مدهونة بذوب الشحم معدة للأيام السود. وكنت كثير العبث بها لا أترك دكانة إلا (أخبطها)، أو كلباً إلا أضربه أو حماراً إلا ألهبه، أو جملاً إلا أوكزه.. فكنت لذلك أشتبك مع الجمَّال أو الحمّار أو صاحب الدكان في علقة حامية. وكنت لا أظفر فيها إلا في القليل النادر!! |
|