شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(10)
في المدرسة الراقية
قضيت نحو ثلاث سنوات في استظهار القرآن غيباً حتى أصبحت من حفاظه الممتازين واستطعت أن أحقق في امتحان نهاية السنوات الثلاث درجة طيبة أهَّلتني للنقل للصفوف التي تدرس العلوم على أنواعها في المدرسة التي سموها راقية.
ورأيتني أشعر وأنا أختلط بالزمرة الجديدة من الطلبة أن مستواي في الفهم واستيعاب ما يقرره المدرس أدنى بكثير من مستوى زملائي.
ولعل لتطرفي في إجهاد حافظتي أثراً في الضغط على بعض التلافيف في رأسي بصورة عطلت وظائفها في الفهم فابتكرت لنفسي أسلوباً أقيد به حاصل الشروح التي يلقيها أستاذ الدرس.
كنت أعمد إلى (فرخ الورق) من القطع الكبير فأسجل في زاوية منه أكبر ما يشرحه الأستاذ بألفاظه وحروفه في أكثر الأوقات كما أسجل في زاوية أخرى لأستاذ آخر ما يقوله بنفس المنوال وأستمر على ديدني هذا في أكثر الدروس حتى أملأ القطعة من الورق على كبرها بعشرات الشروح بعد أن أعنون كل شرح في زاويته بما يدل عليه. والطريف في الأمر أني كنت إذا امتلأ (فرخ الورق) من جميع جهاته كتبت في رأسه (جريدة سباعية تصدر عند اللزوم).
ولقد ساءني هذا بقدر ما نفعني، فقد كان أستاذ الدرس لا يكاد يوجه سؤاله عن أي معنى شرحه في درس سابق حتى أبادر قبل غيري بالإجابة اعتماداً على ما كتبت إجابة لا تخرج عن النص الذي تلقيته منه بحروفه وألفاظه فربما سره هذا وهو لا يدري أنها إجابة آلية كنت لا أفهم مما تعنيه حرفاً واحداً وبهذا ظللت في منأى عن أكثر ما يفهمه غيري في أكثر الدروس كما أسأت من حيث لا أقصد إلى بعض زملائي الذين كانوا يستسهلون الاعتماد على جريدتي!!
على أن هذا لا يعني أن دراستنا كانت تحفل كثيراً بناحية الفهم فقد كان التحفيظ ركيزة هامة من ركائز التدريس فكثيراً ما كنا نكلف بحفظ المتن والشرح وما يتبعهما من تعليقات..
حتى المحفوظات الأدبية كان لا يكفي أن نحفظ نصوص الأبيات بل لا بد أن نحفظ ما يتعلق بها من مقدمات تنعت الشاعر وتصف ميزته في الشعر وقصة الظروف التي دعته لقول ما قال ثم ما يتبع ذلك من هوامش توضح معاني الأبيات وتفسر ما غلق من ألفاظها فكنت أعاني من بلادة ذهني في الحفظ ما لا يعانيه غيري وإن كانت أكثر معاني القصيدة تعلق بذهني أكثر مما تعلق الأبيات نفسها.
وما كنت أرتاح لشيء ارتياحي لفن الإنشاء لخلوه من عنت الحفظ.
وكان للإنشاء عندي دفتر خاص أجمع فيه ما يلذ لي جمعه من قراءاتي في سيف بن ذي يزن وقصة حسن البصري والسبع بنات وكتاب فتوح الشام لأختلس منه ما يتناسب والموضوع الذي يكلفنا به مدرس الإنشاء.
وإني لأذكر أني سمعت خالتي حسينة فقيهتي في نشأتي الأولى تترنم بكلمات قالت فيها:
- الدهر هبة بعد هبة.
- هبة في العلالي.
- وهبة في الهجبه.
- وهبة تأكل لحم ضاني.
- وهبة ولا حبه.
فلذ لي معنى ما قالت وأسرعت فسجلت ذلك في دفتري حتى كانت حصة الإنشاء وكان موضوعها (غدرات الزمان) فأنشأت أكتب ما أعرفه وختمته بهذه الأبيات فما كاد مدرس الإنشاء يقرأها حتى هزه معناها وصاح بالطلبة أن يسمعوا ما كتبت فكان يوماً مذكوراً نجحت فيه على أكثر الطلبة الذين كنت لا أدانيهم براعة ولا فهماً ولا كفاءة في الحفظ.
وأني لأذكر أنني رغم عجز موهبتي في الحفظ استطاع مدرس اللغة العربية بما ملك من صلاحية واسعة في استعمال العصا أن يلزمني بحفظ متن الأجرومية فحفظتها عن آخرها وإن كنت لا أكاد أحفظ الجزء حتى أنسى ما قبله ولكن ملاحقته التي لا تفتر أبت إلاّ أن تطوع حافظتي قسراً لما يرى.
وأبت الصدف في العام الدراسي الذي يليه إلا أن يكون المدرس نفسه مدرسنا في اللغة العربية فعرف كيف يلزمني بحفظ ألفية ابن مالك ولكنه لم ينجح نجاحه في تحفيظي الأجرومية، ذلك أني حفظت بعض أجزائها وعاندته في بعض آخر فحاولني بكل الوسائل التي يملكها فأصررت على العناد أو إن شئت فقل كنت أعجز من أن أطاوعه فيما يريد فما لبث أن سئم وتركني لعنادي.
والذي يجب أن أعترف به إنني رغم ما عانيت في حفظ الأجرومية ورغم ما استطعت حفظه من ألفية ابن مالك عشت لا أدري ما جدوى ما أحفظ ولا أعرف شيئاً عن مدى علاقته بتقويم لساني بل لا أعرف مبلغ حاجة لساني لأن يقوَّم.
ليس معنى هذا أن أستاذ النحو كان لا يشرح لنا معاني ما حفظنا ولكن تلافيف الحفظ في دماغي اتسعت أكثر مما يجب لطول ما استعملتها فأخذت مكان غيرها من التلافيف فعطّلتها عن وظائفها في الفهم فأصبحت عييَّاً في فهم ما يشرح. ثم ما لبثت تلافيف الحفظ أن كلت وعجزت.
ولبلادتي في الفهم تقدمت بي السن دون أن أحصل على حصيلة تستحق الذكر في علم النحو، ولولا أني شعرت بعد سنوات أنني فقير فيما يقوِّم لساني فاضطررت لقراءة كثير من الشروح لظللت إلى اليوم لا أعرف الغرض من علم النحو.
ومما يضحك أنني على أثر هذا لجأت إلى شيخ من شيوخ النحو كانت تربطني به صداقة متينة ورجوته أن يتفضل بإعطائي درساً في النحو فلم يبخل بذلك ولكن صفاقتي أبت عليَّ أن أستمر، فقد تراءى لي بعد الحصة الأولى والثانية أنه يسهب في تفريع الفروع وتنويعها فقام في ذهني بعد أن راجعت حواشي الكتاب واستوعبت ما يعنيه أن في الإمكان تبويب الموضوع بشكل أقصر فجئته في حماس فاتح القسطنطينية أعرض عليه الفكرة في غرور الشاب المراهق الذي يشعر أنه لا يدانى في الفهم.
فما ملك أن رمى الكتاب في وجهي -((قوم من فضلك.. شوف لك واحد غيري اتفلسف عليه.. أنت رجل منت حق تعليم انت!!)) فقمت.
قد يترآءى لبعضهم أن يسألني: ((ولكن كيف يتهيأ لمثلك أن ينجح في الاختبار)).
الواقع أن لطيبة القلوب التي كان يتمتع بها أكثر مشائخنا دخلاً كبيراً في نجاح أكثرنا..
لم يكن الاختبار تحريرياً إلا في مواد خاصة كالخط والحساب وما يشبههما أما بقية الدروس فيجري اختبارها شفوياً.. يجلس الشيخان أو الثلاثة على كراسيهم ويحضر التلاميذ:
- مين أبوك يا شاطر؟.. أو هوه أعرفه والله رجال طيب ها بشرني حافظ التاريخ.. كيف بلبل؟ ها سمعني يا شاطر كيف كانت وقعة القادسية.. لا مو كدا.. لا تتربش.. على مهلك.. ارجع من الأول.. لا باين عليك البارح ما رقدت.. أيوه ارجع ثاني مرة.. برضو حفظك مو مضبوط ها يا شيخ إسماعيل ايش تشوف نحط له بس 6 من 10 لا ما عليه.. زيده كمان نمره أبوه رجال طيب..
- ها أزيدك النمرة لكن بشرط تحفظ..
- أيوه يا سي الشيخ الله يرحم أبوك خلي لي هيا بس 8 والا 9 الله يعافيك.
- والله ما أدري.
- ها ايش تشوف يا شيخ عمر؟
- زي بعضه يا سيدي.. بلكي يتشطر بعد كده ويصير رجال..
هذا لون لا يتعمدون فيه الغش فقد كانت فطرتهم سليمة تقودهم من حيث لا يقدرون إلى ما يعتقدون خيراً لطالبهم الممتحن المربوش.. اللي ما رقد البارح!! ما كان الرجل منهم رجل بوليس يتعقب من يقع في الفخ كما هو الحال في بعض الحالات التي تمر اليوم ببعضنا.
والطريف في الأمر أنني أذكر شيخاً من جلة علمائنا كان يحضر دروس الامتحان كمختبر فإذا سأل الطالب عن مسألة وبدأ الطالب يجيب.. تابعه بحركة شفتيه وربما سبقت الشفتان إلى السياق فكان الطالب إذا وقف به جواد القول يستطيع أن يتابع حركة شفتي الشيخ من حيث لا يدري فتتضح له معالم السياق..
أولئك أشياخي فجئني بمثل طيبتهم وحبهم لخير الطالب وما كان اعتمادهم على العصا إلا ليقينهم أنها أداة التقويم الوحيدة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :432  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 84 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.