(8) |
شيطان الفصل.. عباس |
ونقلت المدرسة زملائي من الطلاب الذين قيل أنهم فرغوا من التعليم التحضيري إلى المدرسة الراقية في قلعة جبل هندي، وأمروني وجماعة يبلغ عددهم الثلاثين أن نتخلف في مكاننا حيث أفردوا لنا غرفة جمعونا فيها وكتبوا على لوحتها (صف الحفّاظ). |
وانتدبوا لنا الشيخ ((إسماعيل..)) ليكون أستاذنا في تحفيظ القرآن ودراسة بعض مبادىء العلوم التي قرروا أن ندرسها إلى جانب حفظ القرآن. |
وعز على الشيخ إسماعيل أن يعترف بمبادىء العلوم التي قررها لنا المنهج وكلفه بها.. فقد كنا لا نزاول في فصله غير حفظ القرآن إن كان ما زاولناه عنده يسمى حفظاً!! |
يبدو لي أن الشيخ إسماعيل كان أول شيخ رأيته لا يعرف كيف يمارس أعمال الشخط، والنرفزة ولهب الظهور بالعصى الرفيعة اللدنة. ولهذا كان جزاء حلمه بين طلابه أسوأ جزاء ينتظره طيب القلب بين طلبة أشرار آثمين. |
كان شيخنا مصاباً بما يشبه الصداع في رأسه. |
وأعتقد أن صداعه من نوع لا يخفف وطأته إلا مزاولة العطاس. لهذا كان يعد في جيبه أعواداً من الكبريت وشيئاً من القطن النظيف فإذا بدأ جلسة الصباح بيننا نسى وظيفة الحصة الأولى، وشرع يلف القطن على عود من الكبريت الذي أحضره لفاً رقيقاً تبدو نهايته رفيعة دقيقة ثم يدسه في أنفه، ويبالغ في إيصاله إلى آخر ما استطاع أن يبلغ من خيشومه حتى يواتيه العطاس. |
وكان إذا واتاه العطاس أنساه محيطه وتركه مشغولاً بمنديله الملوث، وعطاسه المتكرر العالي عن كل من حوله، فكان شياطين الطلبة يغتنمون فرصة انشغاله بنفسه ويسرقون ما هيأ من أعواد الكبريت والقطن. فإذا أفاق من نوبة العطاس، وأراد استئناف العملية بحث عن الأعواد والقطن فلا يجدها. فإذا طال بحثه دون جدوى حسم الأمر في سكون، وقام إلى (صديريته) ليستخرج أعواداً وقطناً من جديد. دون أن يتكلف مناقشة من حوله فيما ضاع أو يعني نفسه بمنازعتهم. |
وقد يشرع في لف عود جديد، ثم يلتفت فإذا أعواده وقطنه الضائع على كثب منه فلا يسأل عن اليد الخفية التي مازحته. بل يكتفي بضم ما وجد كأن لا جديد في الأمر. فتتجاوب الضحكات الخافتة بين طلبته ثم تنقشع بصوت أو أصوات مقهقهة فلا يزيد عن أن يلتفت إلى مصدر الصوت أو الأصوات: (يا ولد.. عيب يا ولد!!) ثم ينسى ما كان ويعود إلى استئناف عملية أنفه ليستأنف العطاس. |
وكان يحلو لبعض المتشيطنين أن يداعبه أو يداعب الطلبة فيعمد إلى اصطياد بعض الذباب بيده، ثم يجعل في مؤخرة كل ذبابة (قشة) رفيعة طويلة، ثم يطلق الذباب في الغرفة ليثير الضحك بما صنع لها من أذناب طويلة. فإذا طرق سمعه الضحك وتلفت إلى مصدره هدأ المصدر، وانطلقت ضحكة غيرها في جهة أخرى. فإذا التفت إلى الثانية هدأ صاحبها، وانطلق ثالث في زاوية غيرها يضحك. فإذا شعر الشيخ أن المزاح قد ثقل! وأن ترتيبه متفق عليه. أطرق إلى الأرض، وراح يبحث عن قطن جديد يعالج به أنفه!! |
فإذا أبت ذبابة مذيلة إلا أن تحط على أنفه، وترسل ذنبها من القش إلى ما بين عينيه رفع يده ثم وضعها على (القشة) الذنب، ثم عاد فأطلقها وهو يكتم ضحكة خافتة يخشى أن يسمعها الصبيان! |
وتنتهي عملية القطن والأعواد والعطاس بانتهاء الحصة الأولى. فينشط لأعمال الحصة الثانية ويصيح بنا (مين حافظ يا ولد) فيدّعي أكثرنا الحفظ. وليس فينا صادق. ثم ينتقل أولنا ليجلس قبالته كما يجلس المصلي على ركبتيه، ولا يشرع في قراءة ما استظهره حتى يكون زميله قد زحف في هدوء حتى يستوي خلف الشيخ، ثم يفتح المصحف على مصراعيه ليتابعه الحافظ عن بعد، ويقرأ ما فيه موهماً شيخنا أنه يقرأ ما يقرأه غيباً. وتتكرر العملية بتكرار التلاميذ الذين ينتقلون لتسميع الشيخ ما حفظوا، ويزحف زملاؤهم إلى ما يلي ظهر الشيخ ليقابلوهم بالمصحف مفتوحاً تطالعهم فيه الآيات التي يقرأونها. |
ويبدو أن مصلحة التلاميذ المشتركة في هذا الغش كانت تجمعهم على هذا التآلف والتساند، إلا أن الشذوذ الذي لا يخلو منه زمان كان يدفع بعضهم إلى مسارَّة الشيخ بحقيقة الواقع تزلفاً أو نصحاً، إلا أن سيدي الشيخ كانت أخلاقه أكبر من أن تقبل الغيبة في الفصل، فكان يعلن هذه الأسرار كما يعلن أسماء أصحابها: ((صحيح يا واد عباس انتوا اتفقتوا تفتحوا الختمة قدام بعضكم.. أنا أخبرني حسين أبو قورة، وسعد جانشاه، لكني ما صدقتهم حتى أشوف واحد فيكم يغش رفيقه وأنا أعرف كيف أربيه)). |
ويغضب الواد عباس وهو قائد الأولاد في الفصل وصاحب كلمتهم.. يغضب لهذه التهم الجزاف!! ويتقلص ما بين عينيه، ويتهدج صوته، وترتعد مفاصله وتتزاحم الأيمان الفاجرة على شفتيه في تمثيل بارع يأخذ فيه على الشيخ مذاهب القول ويملك عليه مواهبه، فيطرق ملياً وهو يتمتم بكلمات كنا نعتقد أنه يطلب من الله فيها النجاة والعافية. |
ويلتفت الواد عباس في حركة بارعة وأسارير ضاحكة إلى زميله الواشي مشيراً إليه بما يحضره من إشارات الوعيد فيصيح الواشي.. ((يا سي الشيخ.. شوف عباس يضحك.. ويقول لي أوريك شغلك)) ولا يرفع الشيخ رأسه حتى تكون عضلات وجه عباس قد تقلصت، وغاض الضحك بين صوته المتهدج، وأيمانه المغلظة. فيؤخذ الشيخ بروعة ما يبدو على عباس، ويسأل الأولاد ((صحيح يا واد أنت هو كلام أبو قوره، ولا كداب))، فيدوي المكان بضوضاء المتبرعين بالشهادة الزور -((كداب يا سيدي الشيخ.. كداب أبو قورة)). |
فيربح عباس الموقف، ويأبى أن يجلس حتى يستأنف وعيده في إشارات خافتة يوجها إلى أبي قوره. ولا يجد أبو قوره ما يشجعه على الكلام فيجمع أنفاسه ويتجمل بالصبر. |
لم يكن عباس ولداً عادياً يقال في شأنه ما يقال في شأن الأولاد العاديين، أو غير العاديين. بل كان بدعة من بدع الخلق وكان لا يضارعه في شقاوته أو شجاعته أو براعة تمثيله، أو حذقه في الدهاء مضارع.. وكان إلى هذا ظريف المعشر خفيف الظل، يهوى المشاكسة للعبث والضحك أكثر ما يهواها للشر. |
كان يقود أولاد القسم قيادة تمنيت أن يوهب شيخنا مثلها، وكان إذا بيّت على (شقاوة) أذاعها بين إخوانه في شجاعة، وتركهم يتمتعون ما شاء لهم الضحك دون أن يتجرأ ولد منهم على مناهضته إلا إذا شاء أن يتعرض لوعيده كما تعرض له أبو قوره. |
كان يعلن للأولاد بأن ريحاً في بطنه تزمع الخروج في أصوات متقطعة تزيد في عددها عن العشرين فعليهم أن يحصوا عددها وألا يستخفهم الضحك حتى لا يتنبه الشيخ في مجلسه لحقيقتها. |
ثم يبدأ خروج الريح حركة فحركة في أصوات متقطعة تبدأ خافتة، ثم تبدأ في الوضوح. وسيدنا الشيخ يصغي إلى هذه الأصوات، ولا يدور بخلده شيء مما يعرفه الأولاد. ثم يلتفت إلى الميمنة مرة وإلى الميسرة أخرى (إيش هذا يا واد إنتوا سامعين) ويكتم الأولاد ضحكاتهم وينكرون على الشيخ ما يسمع، أما عباس فإن في مذاكراته ما يشغله عن العبث، وفي ملامح وجهه ما يدلك على جهله بجميع ما يحدث. |
ويهيب به الشيخ (إنت مو سامع هادي الأصوات يا عباس). |
- لا ياسي الشيخ.. يمكن أذنك تخايلك. |
ويدعك الشيخ أذنه بخنصره مرة وسبابته أخرى ثم يتسمع فلا يجد أثراً للأصوات التي شاغلته، وعندئذ يلتفت إلى عباس المشغول بمذاكراته. |
- معاك حق يا عباس.. أذني في بطنها شيء. |
ومن وصايا عباس لأخوانه في الفصل ((إذا ضرب الشيخ واحد فيكم عصاية واحدة فعلى المضروب أن يحط يده على العضو المضروب ويصرخ في شدة يرتفع فيها صوته إلى سابع بيت كأن العضو قد كسر وقد لحق به خطر تالف.. وعليَّ أنا إتمام الباقي)). |
وهي من وصاياه الناجحة؛ لأن سيدي الشيخ إذا جرؤ مرة على ضرب أحدهم -وقليلاً ما يجرؤ- راعته الصرخة التي تند عن المضروب فيرتبك عليه الأمر ويسقط في يده، ثم يلتفت إلى عباس كأنه يستفهمه الأمر فيهرع عباس إلى المضروب وبعد أن يمسح عليه برفق يقول للشيخ؛ (لا، الحمد لله.. ما حصل شيء كانت الضربة غلط.. الحمد لله على السلامة.. يتوب ياسي الشيخ). |
فينتاب الشيخ الوجل، ويعود إلى مكانه، ويتمتم بكلمات لعله يطلب فيها السلامة والنجاة. |
وكان عباس إذا حلا له أن يبدد ساعات اليوم في الفوضى عمد إلى إخفاء فردة من نعال الشيخ في اللحظة التي يعرف أن الشيخ سيغادر فيها الفصل إلى (بيت الراحة) فإذا افتقد الشيخ الفردة صاح ((يا واد انت وهو مين شاف فردة النعل؟)) فيبادر عباس بما عرف من نجدته في نظر الشيخ ليبحث عنها؛ ثم يقدم نعاله إلى الشيخ ليقضي حاجته إلى أن يجد عباس الفردة؛ فإذا قضى الشيخ حاجته وعاد إلى الفصل وجد الفصل خالياً إلا من شخصين أو ثلاثة بينهم عباس، وهم يقلبون الحصير، ويبحثون تحت الأوراق المهملة عن فردة النعل. فإذا قال الشيخ ((ولكن فين راح الأولاد)) تطوع عباس للإجابة ((فرقتهم يا سي الشيخ للبحث عن فردة النعل. لأن بعض الأولاد في الفصول الثانية شياطين أخاف يدسوها)).. فلا يدري الشيخ أيرضى عن تصرفات عباس ونجدته، أم يغضب، ولكنه يدري أن السكوت -على ما تعوّد- أسلم. |
ويظل الأولاد بين داخلين في الفصل، وخارجين منه حتى تتبدد أهم ساعات النهار. وعندئذ يجدون فردة النعل ويربح عباس نتيجة الموقف. |
ويلجأ عباس في بعض الأحيان إلى بعض النقود التي يجعلها الشيخ تحت وسادته لتكون قريبة منه لما عسى أن يحتاج منها. فيخفي عباس منها نصفها فإذا سأل الشيخ مستغرباً ما حدث تطوع عباس بإثارة الفوضى، وأخلى الفصل من الأولاد إلا شخصين يساعدانه في قلب الحصير، وبعثرة ما تحته من تراب، ولا معدى من العثور على النقود المفقودة، ولكن بعد أن يكون عباس قد قضى حاجته من الساعات التي أراد أن يبددها. |
وعلى هذه الوتيرة قضى فصل الحفاظ أغلب عامه الدراسي دون أن ينتفع لدراسته بشيء وإذا كان بعضنا قد بلغ فيما استظهره عدة أجزاء من القرآن فإنه ليس في هذا البعض من يستطيع قراءة ثلاث آيات دون أن يسارق النظر إلى مصحف مفتوح. |
ويبدو أن إدارة المدرسة شعرت بفشل شيخنا الطيِّب فأسرت إليه في مساء أحد الأيام بما لا نعلم، فسكت على مضض حتى إذا آن أوان الانصراف قام على غير عادته يودعنا وفي آماقه من الدموع ما أثار أحزاننا وأبكى عميدنا عباس بكاء دل على مبلغ شعوره (الرقيق!!) وكانت تلك الأمسية آخر عهدنا بالشيخ إسماعيل. |
وقد علمنا فيما بعد أن عميدنا عباس كان يزور الشيخ في خلوة بجوار باب الدريبة، ويمده بمساعدات خاصة كان يختلسها من دكان أبيه. |
|