شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(5)
خالتي حسينة
كانت خالتي حَسينة تسكن إلى جوارنا، وكانت من السيدات الصالحات المتخلفات عن بيوتات ممتازة في مكة.
فقد كانت مملوكة لأحد الأشراف، فلما أعتقوها زوجوها بأحد عبيدهم، وانتقلت معه إلى البيت الذي سكنته بجوارنا.
وكان عم محبوب (زوجها) رقيق الحال لا يملك من حياته إلا الكفاف الذي لا يغنيه عن أفضال الناس، ولا يمنعه من كدح زوجه في الحدود التي لا يصعب عليها الكدح فيها.
وكانت خالتي حسينة قد قرأت في بيت أسيادها الذي تركته ما كان يقرأه النساء في ذلك العصر.. قرأت المصحف إلى نهايته وختمته عدة مرات. ثم قرأت مولد البرزنجي وأتقنت ترتيله في أنغام لها حلاوتها في حفلات الموالد الخاصة بالنساء في ذلك العصر.. كما حفظت قصيدة البردة والهمزية عن ظهر قلب، وأصبحت بارعة في تجويد أبياتها كلما حفل بها مجلس.
وبرعت إلى جانب هذا في قراءة دلائل الخيرات وحزب (الجوشن)، وما لا أعرف اسمه من أوراد وأدعية أخرى، فكانت لذلك تعد من طلائع الطبقة المستنيرة بين أترابها وقريناتها!!
وكان من الطبيعي أن يستفيد الناس من خبرتها العلمية فيبعثوا إليها بصغيراتهم يتعلمن عندها القراءة، وبعض ما تيسر من القصائد والموالد التي كان يحرص الناس على تجويدها يومذاك.
فكان في بيتها ما يشبه الكتاب.. ولم يكن كتاباً كاملاً؛ لأنها لا تقبل جميع الطالبات، أما الطالبون من الأطفال فكانت ترفضهم خشية ((شيطنتهم)) كما تقول، وحرصاً على بنات الناس.
وكانت تعنى إلى جانب اشتغالها بالتعليم بنظافة بيتها المتواضع وتنسيق أثاثه رغم فقرها في صورة لا يزال جمالها مرتسماً في ذهني إلى اليوم، فقد كانت جل غرفها مفروشة بقطع كانت بسطاً قبل أن تتمزق أوصالها، ولكن خالتي حسينة استطاعت أن تحيل هذه الأوصال الممزقة إلى قطع مبوبة يستوي منها فرش تلمح فيه النظافة وتجمله طرافة التنسيق، أما الزاوية التي جعلتها مطبخاً، وأما البلاطة الصغيرة التي اتخذتها حماماً، وأما سائر الحيطان وجميع درجات السلم فما كانت العين تقع فيها على ما يوازي حبة الخردل من الوسخ.
ولا غريب في أمر خالتي حسينة فقد كانت أكثر البيوت لذلك العهد صورة طبق الأصل لما وصفناه في بيت خالتي حسينة وكانت رباتها لا يتنافسن في شيء تنافسهن في نظافة ما يلبسن، ويفرشن أو يطعمن فكن وكانت بيوتهن مضرباً للمثل في النظافة وجمال التنسيق.
وكانت خالتي حسينة قد أدركت بحكم جوارها لنا أن قراءتي غير صحيحة، وقبلت بصورة خاصة أن أوافيها بعد خروج البنات لتصحح قراءتي.
وما كان بيتها جديداً عليّ فقد كنت ألعب في دهليزها مع بنات كتّابها. وكثيراً ما كانت أمي ترسلني إليها في قضاء بعض الحوائج أو تصحبني معها في الأمسيات التي تسمر فيها عندها ولكن شأني اليوم كتابع مقرر لها غير شأني بالأمس!
شرعت تفرض قيودها: (لا تدخل يا واد حتى تلبس القبقاب وتوقف هنا تغسل رجليك ووجهك ويديك. أغسلهم من الإبريق، ولا تمسك المغراف وأنت عليك الوسخ قناطير!! أصبر يا واد.. خليك واقف فوق القبقاب حتى تنشف رجليك!!).
فكنت إذا أقبلت على بيتها، وصعدت الدرج، وقفت دون مدخل الغرف حتى تفرغ من ترتيب الرف أو (دهن السموار) النحاس ثم تقبل على الإبريق فتملأه لي وتتركني أغسل أطرافي ولا تأذن بدخولي حتى يجف الماء من رجلي.
وإذا جلست للقراءة أمرتني بأن أضع (جزء عم) فوق كرسي خاص يكون زاوية منفرجة يستريح عليه الجزء، وأخذت بيدها ريشة نعام وبدأت تشير إلى الكلمة التي يجب أن أقرأها بعد أن تنطقها أمامي ضاغطة على حروفها.
ولم يكن أسلوبها في هذا التلقين خيراً من أسلوب الكتَّاب فالطريقة واحدة إذا استثنينا الريشة والكرسي المزدوج.
وما قضيت أياماً في درسها حتى ضاق صدري بخالتي حسينة وشعرت كأن حصتها جاءت ضغثاً على إبالة.. فهؤلاء زملائي في الحارة يقضون يومهم معي في الكتاب حتى إذا دنا العصر انطلقوا يلعبون (الكبت) في (برحة المروة)، أو (شرعت دندن) (أو الاستغماية) في خان السداري وقيدت وحدي إلى خالتي حسينة.. أكرر ما تلقنني في سآمة وملل.
ولم يفرح أبي لشيء فرحه بالتحاقي بخالتي حسينة.. كان يقول لأمي:
(دحين استرحنا من الهبهبة الكدابة، والجري في الأزقة، وشيطنته مع الناس.. دحين نقدر نقول بلكي ربنا هدى الواد واللي ينقص من الكتاب الفالصو تقدر تكمله حسينة.. هذه حرمة طيبة وإن شاء الله في وجهها الفتوح).
وكان أبي رحمه الله معذوراً فيما يرى؛ فقد نشأ أمياً، وتركت الأمية في نفسه شعوراً عميقاً بالنقص أراد أن يعوض في خلفه بأفظع ما تراءى له من ألوان التعويض.. كان يرى أن نجاحي وقف على المثابرة المستمرة التي لا تعرف الهوادة، ولا اللعب، ولا جري الأزقة: ((إتوضأ يا واد وصل العصر واقعد اقرأ حتى تصلي المغرب.. وبعد المغرب إيش عندك؟ برضه اقرأ حتى تصلي العشاء وتأكل لقمتين وترقد تصبح حافظ))!!
وما علم رحمه الله أن برنامجه في المثابرة هو علة بلادتي وجمود ذهني، وأن الساعات التي أقضيها في الكتاب مكباً على (جزء عم) كانت أكثر من الكفاية للمثابرة، وأنه لا بد بعدها من انطلاقي إلى البرحة والأزقة لأشبع رغبتي في اللعب.. وأبدد ما اعتراني من سأم الكتاب، وأنشط ذهني لاستئناف الدراسة في أوقاتها المقررة في اليوم الثاني.
وما كان أبي في عهده إلا صورة للكثير من معاصريه الذين لا يرون في اللعب والجري تنشيطاً وتبديداً للملل بقدر ما يرونه مضيعة وشيطنة تستحق الزجر والعقاب.
وهكذا جاءت المثابرة التي قررها أبي، ووافقت عليها أمي وخالتي حسينة برد الفعل المنتظر، فقد تبلد ذهني أكثر مما كان بليداً، وضغط الكبت على حواسي فشلَّ قدرتها، وعطل وظائفها وأساء الحرمان من اللعب إلى أخلاقي العامّة، فكنت لا أجد متنفساً ضئيلاً حتى أنفجر شيطنة، وأمعن في (الشقاوة) وأترك أبي وأمي وخالتي الفقيهة يؤمنون شديد الإيمان بأن شيطنتي معدومة النظير، وأنه لا يضارعني في الشقاوة حتى (العفاريت المسلسلة).
ولم تتسع معارف أبي لدراسة العلة التي تفاقم داؤها ليعطيها نصيبها من التنفيس، ولم يدرك أحد من معارفنا أو جيراننا مبعث الخطر ليشير بما يقتضيه الحال بل اتفق إجماعهم على نقص تربيتي وكان أحدهم يهيب به ((يا شيخ صالح -رب ولدك، وأحسن أدبه!! ما يموت حتى يفرغ أجله!)).
نشط للتربية وشرع يعد لها من الحبال المفتولة، والخشب الجامد والخيزران اللدن ما يكفي لأداء المهمة الشريفة، فكانت لا تضيع ((هللة)) من يدي، أو ينقلب لوح العيش من على رأسي، أو ينكسر سن قلمي البوص، أو يقول الجيران أنهم شاهدوني أترك مداسي فوق عتبة الجيران وألعب ((الكبوش))، أو أضارب صبي الفوال حتى يحيل والدي الأمر إلى الحبل المفتول، والخشبة الجامدة دون أن يسمح لي بكلمة واحدة أدافع بها عن نفسي مهما كانت ظلامتي، ثم لا يتركني إلا جسداً ممزقاً وأضلاعاً دامية.
وتركت هذه القسوة أثرها في نفسي.. هيأتني للعناد والمكابرة وعلمتني قلة المبالاة، وشجعتني على كثير من الصعاب التي يخشاها غيري، وأثبتت لي أن ((العلقة)) الكائنة لا بد أنها كائنة!! سواء كنت فيها ظالماً أو مظلوماً.. فما يمنعني من الظلم، وأن أثأر لنفسي.
ولا أنكر أن أغلب هذه الصفات لازمتني إلى جزء طويل من حياتي وإنه لو لم تصادفني دراسات طويلة قرأتها فأدركت منها مواطن الضعف من تربيتي وثابرت على علاجها ما استطعت لكنت اليوم من أشقى من عرف من الأشقياء.
وهكذا استقر في ذهن خالتي حسينة أن الشيطنة غريزة متأصلة في نفسي، وشايعتها على هذا أمي؛ كما شايعها جميع الجيران والمعارف. أما أبي فقد آلى أن يحيل إلى العصا الجامدة والحبل المفتول كل أخطائي، أو أستقيم وألغي شقاوتي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :482  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 79 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج