(4) |
(إصرافه) أو (إقلابه) |
ولم تكن للكتّاب مساحات أثناء الحصص يستجم فيها الأطفال كما تفعل مدارس اليوم!! |
كان الجد يطبع معلم الكتَّاب وعريفه بألوان من الصرامة لا تتفق مع الميوعة التي ابتدعت فيما بعد يوم أنشئت المدارس، ونظمت لها الحصص، وما يتخلل الحصص من الفسح. |
لقد كانت فكرة الفسح في ثنايا الحصص بدعة استهول أمرها فقهاء الكتاتيب وعرفاؤهم، وراحوا يمطرونها نقدهم الساخر، ويُهزِّؤون بأصحابها هزأهم بالمجانين والعابثين.. وشاركهم في الهزء طائفة الأولاد الذين درجوا في كتاتيبهم على الاستخذاء لتقاليد الكتاب التي طبعهم عليها (سيدنا) وعريفه. |
وشارك آباء الأطفال في موجة الهزء التي طغت في محيط الكتاتيب.. فقد كان الآباء لا يفضلون لأولادهم هذا العبث الذي بات يتجلى في انطلاق أولاد المدارس الجديدة بين ساعة وأخرى باسم الفسحة.. لأن بيوت التعليم ما خلقت في رأيهم إلا لتربط أرجل الأولاد. و (تحط عيونهم في الألواح) طيلة اليوم وتحفظهم من الهبهبة!! والجري في الشموس!!. |
في سبيل ربط الأرجل والحفظ (من الهبهبة والشموس) كنا نقضي سحابة يومنا مقيَّدين بألواحنا لا نحيد عنها.. وكانت رؤوسنا لا تنفك صاعدة هابطة مع تيار النغم الذي يضبط العريف وحدته كما يضبطها المقدم في جوقة موسيقية. |
وكان لا يطلق أَسْرنا من هذه الغمرة الشاقة إلا بعد أن ندّعي العطش أو (حصر الحاجة)، فينصب الصغير منا قامته أمام سيدنا جامعاً أصابعه أمام فمه استئذاناً بالشرب؛ أو يجمعها ويطلق البنصر للاستئذان بقضاء الحاجة فلا يتردد سيدنا في الإذن إلا في القليل النادر الذي تشتد فيه (عكننة المزاج) أو يشعر فيه أن الطالب كثير (الزوغان.. لعَّاب!!). |
ولا أنكر أني كنت من (اللعّابين) كثيري (الزوغان)، وإني كنت لذلك لا أحظى بإذن سيدنا إلا بعد لأي طويل.. ويبدو أني كنت قليل الكسوف لأن سيدنا كان لا يفتأ أن يرفض طلبي حتى أعاود الاستئذان قبل مضي لحظات.. فإذا أعاد الرفض أعدت الطلب.. وربما (شخط) في وجهي: (اقعد يا ابن الحطبة، والله منت خارج حتى تخلص تسميعك).. فلا يكسفني الشخط بقدر ما يثير عنادي (للخروج)، وربما استطعت في غفلة من سيدنا أن أتوجه بنظرة استعطاف إلى مقر العريف فيتطلع إلى مكان سيدنا.. حتى إذا وجده مشغولاً بغيري أشار لي بالسماح فأحفظ له الجميل؛ ولا أنسى أن أروج له في بيع (الفوفل) إذا حان وقت الانصراف. |
وكان لبيت الراحة في الكتاب نظام نافذ المفعول.. فقد أناط سيدنا ببابه لوحاً من المقوى دلاه في حبل وكتب على أحد واجهتيه (فاضي) وعلى الواجهة الثانية: (مشغول)، فإذا أقبلت عليه وكان وجهه المكتوب (فاضي) علمت أن بيت الراحة غير مشغول، واستطعت أن تأخذ طريقك إلى داخله بعد أن تقلب اللوحة على وجهها الآخر (مشغول)؛ ليمتنع غيرك من القرب حتى تفرغ من حاجتك. |
وكنت يومها لا أجيد قراءة ما في اللوحة ولكنني حذقت بطول الاستمرار الفرق بين الخالي والمشغول في شكل الكتابة ورسمها في اللوحة. |
كنت ألج الباب إذا خلا وليس في حاجة إلى شيء إلا السأم الذي أتمنى أن أبدده.. ولا سبيل إلى تبديده إلا هذه (الشيطنة) التي أفتعل فيها الحصر.. حتى إذا صفقت الباب خلفي وقفت في حيرة لا أعرف ما أصنع. |
كنت أقف وأعضائي تلح في طلب الحركة، وليس أمامي للحركة إلا مدى أضيق من مدى الثعلب المحبوس في قفص (السيرك)، فلا يلبث أن يعاودني السأم الذي فررت منه. |
وتفتقت (الشيطنة) في بعض المرات عن ألوان من اللعب لها غرابتها.. وأني لأذكر إلى اليوم كيف كنت أصعد فوق (الحنفية) خزنة الماء في بيت الراحة وأتربع فوق غطائها الخشبي ثم أعمد إلى (المغراف) فأغمره في الماء حتى يمتلىء، ثم أوزعه في أركان (بيت الراحة)، ركناً بعد آخر كما يفعل بائع الشربة الذي كنت أراه في طفولتي يغمر ملعقته الكبيرة في قدر الشربة ثم يوزعها على أواني الزبائن في دكانه. |
كانت طفولتي (المتشيطنة) تمثل لي أني هنا أبيع الشربة.. وأخاطب نفسي لأرد عليها بلا فرق بين بائع الشربة وبيني: (هات الفلوس يا ولد.. شيل قدرك يا أخينا.. خلاص أعطيتك الوصاية)، في كلمات صادرة مني وإليّ لو تهيأ لسيدنا أن يسمعها، أو يفتح الباب ليراني متلبساً بها لحكم بجنوني وتفضل فطردني من كتَّابه. |
إنها خيالات صبيانية لا يكاد يسلم من أمثالها غيري ولكن الناس يأبون في الغالب الأعم أن يسجلوا على أنفسهم ما مر بهم من ترّهات الطفولة كما أسجلها على نفسي. |
إنها خيالات صبيانية لا بد منها لتبديد السأم الذي يخيم على غرفة التعليم في كتَّاب سيدنا ولا يعرف مقدار ما أحسن منظمو الفسح في المدارس إلا من قاسى عناء القيود التي كانت تربطنا بألواحنا سحابة اليوم في اطِّراد لا يتخلله إلا شرب الماء أو قضاء الحاجة المستعجلة أو محو اللوح عند حافة المركن في حوش الكتاب. |
أما المسامحات الصيفية التي ابتكرتها النظم الحديثة فتلك مباذل كانت لا تعرفها كتاتيبنا لأنها لا تعترف بأثر الصيف أو الشتاء في مجرى الدراسة. |
على أننا كنا نظفر بضالتنا في المرح أيام الجُمع والأعياد، وفي مناسبات النجاح التي كان يحتفل فيها آباء الأولاد بصغارهم إذا بلغوا في الكتاب سورة الفاتحة؛ أو ختموا جزء عم يتساءلون أو تفوقوا عن ذلك بما بلغوا. |
كان أولياء أمور الأولاد في كتاتيبنا يمنون فقيه الكتاب وعريفه بحفل مشرِّق، وفير الربح كبير المائدة إذا استطاعا أن يقدماه فيبلغا به سورة الفاتحة أو يساعداه على ختم (جزء عم)، وكان الفقيه أحذق من أن يفوِّت على نفسه أمثال هذه فما يكاد يتبلغها حتى يحرص على تنفيذها: ((اصبر لي كمان غلاق الشهر.. وانت تشوف اللي يسر خاطرك في ولدك.. سامع يا واد.. والله إن كان ما تشطر.. بعدين اشنق العتبة واعلق الباب.. شوفني أقل لك هذا الكلام.. قدام أبوك!!)). |
ولا يخلف سيدنا أمثال هذه الوعود فإن الشهر لا يكاد يوشك على الانسلاخ حتى يعلن الأب بتعيين يوم الحفل.. فقد أوفى الولد على النتيجة التي يطلبها أبوه بصرف النظر عن كيفية النجاح والطريقة التي يبلغ بها ذلك الأوج فقد كانوا رحمهم الله يستوحون (البركة) فيما يفعلون!! أكثر مما يتحرّون الدقة والجد. |
كنا نسمي الحفلات (إصرافه) أو (إقلابه)، وكل مسمى منها يدل على لون خاص نسيت اليوم الفرق بينهما.. وأعتقد أن (الإصرافة) كانت تعني حفلاً بسيطاً لا يتجاوز حدود الكتّاب يحضره والد الطفل وبعض أقاربه ليستمعوا إلى قراءة الولد سورة الفاتحة التي بلغها في لوحه المنقوش يومها بالأحمر والأخضر.. حتى إذا انتهى من قراءتها أقبلوا يهنئون سيدنا على ما بذل ويقدمون له ما سخت به أيديهم، ثم شرعوا يوزعون الحلوى على أولاد الكتاب.. حتى إذا فرغ الحفل صاح سيدنا في كتابه (فيدوس يا أولاد) و (الفيدوس) كلمة لا أفهم إلى اليوم معناها؛ ولكني كنت أعلم وأنا طفل أنها تعني الانطلاق من أسر الكتّاب طوال سحابة ذلك اليوم. |
وتعني الإقلابة -إذا لم تخني الذاكرة- قلب الكتاب من قواعده الأساسية فلا (شخط) يومها ولا (نخط)، إنه يوم ممتاز نستعد له بـ (الجبب المقصبة)، والحزم المفضضة، والعمائم (التلى) و (النعل أبو خرزين) المحفوظ بعناية في قاع صندوق والدتي ينتظر المناسبات. |
فإذا اجتمع الأطفال في أرديتهم الخلابة في كتاب سيدنا خرج عليهم سيدنا في ثوبه (الدرابزون) المطرز صدره وياقته بالحرير (الشيناوي) وصديره (المزرر) مما يلي لحيته، وجبته الفضفاضة التي لا ترى النور إلا في مثل هذه الأعياد!!، وعمته المكورة في جلال وأبهة؛ وطيلسانه الموشح بأدق أشغال الإبرة في كشمير. |
ويشرع سيدنا في تنظيم الأولاد صفوفاً ينتقي في مقدمتها أصحاب (الجبب) اللامعة والعمائم الرائعة، ثم يشير إلى العريف ليمضي في مقدمة الصفوف إلى مكان الحفل في بيت صاحب (الإقلابه) ويهيمن بنفسه من المؤخرة على تنظيم الصفوف. |
ولا تكاد صفوفهم تغادر الكتَّاب حتى تندلع أناشيدهم في أنغام جميلة يرتلون فيها أدعية وصلوات حفظوها لهذه المناسبات. |
ويمضي الموكب في طريقه إلى أن يسامت بيت الدعوة حيث يكون زميلهم قد أعد نفسه لاستقبالهم على صهوة جواد زينوا سرجه بالقطيفة المزركشة؛ وأناطوا بعنانه الجدائل الحريرية، وكسوا جبهته بالخرز البراق وأحاطوا جيده بالفصوص اللامعة.. ووقف حوله حشد من الأقارب والأهل يسنده بعضهم على صهوة الجواد ويحتفي البعض الآخر بموكب القادمين من الكتاب على رأسهم سيدنا بعد أن زحف إلى مقدمة الصفوف وأشار إلى العريف بتنظيمها. |
وتنطلق أصوات المدعوات من خصاص النوافذ المغلقة (مزغرطات) في أنغام لا تنقطع من نافذة إلا لتتصل في نافذة أخرى وينهال رشاش الملح في تضاعيف ذلك من عليات النوافذ طرداً للشياطين، وحرزاً من عيون الحاسدين. |
ولا يلبث الموكب أن يتحرك الموكب في جولة عامة يذرع بها أكثر الشوارع يتقدمه الطفل المحتفى به على صهوة جواده وقد احتضن لوحه المزين بالسورة التي بلغها فقلب من أجلها الكتاب انقلاباً أو (إقلاباً.. أو إقلابة) وتزحف الصفوف خلفه تهزج أناشيدهم الطريفة، والأصوات البريئة.. وتزدحم الشوارع بالمتفرجين على طول الطريق وعرضه. |
ويظل الأمر على هذا حتى يستأنف الموكب عودته من جولة الشوارع إلى بيت المحتفى به حيث تكون الموائد قد مدت لاستقبال صغار الكتاب تحت رئاسة سيدنا ولا ينتهي الحفل حتى تكون جيوب سيدنا قد غمرت بما أتحفه أهل الصغير وغمر به بعض الأقارب. |
تلك ألوان كنا نجد فيها متنفّساً من سأم الكتّاب.. كنت أتمنى أن لا تزول حتى يتفنن العصر الذي نعيشه في إحلال غيرها مكانها تبديداً لسأم الحياة التي تواتينا رتيبة لا تجديد في مناظرها ولا تنويع. |
|