(3) |
أبجد -هَّوز |
ولا أدعي أنني كنت أضيق كثيراً مما ينالني من عسف الكتَّاب؛ لأن تفكيري كان لا يتسع لإدراك ما أدركته فيما بعد. |
أما نصيبي من خدمة الفقيه في الكتاب، أو السوق أو البيت فكان يصادف في نفسي هوى.. كان لي بمثابة استجمام أستمتع فيه بما لم يتهيأ لي مثله وأنا مكب على تلويح رأسي بين الصعود والهبوط في زمرة أندادي ونحن نصيح على وتيرة واحدة ((أليف لاشيون عليها.. والباء واحدة من تحتيها)) وأبصارنا عالقة في خطوط رسمها العريف في ألواحنا، لا ندري منها مكان ((الأليف)) ولا نفهم منها معنى الشيون الذي لا يكون عليها، أو الواحدة التي تكون من تحت الباء. |
كنت أفرح (بزنبيل المقاضي)، أجعل معاليقه في يدي، وأطوِّح به في الهواء طول الطريق إلى بيت سيدنا، وكنت أجد في غسل الأطباق، والعناية بولده الطفل، والذهاب بنعاله إلى عم (جابر الخراز)، فرصة لذيذة أقطع فيها الوقت بعيداً عن شخط العريف، ولسع خيزرانة الفقيه، والنظر إلى (الأليف اللاشيون عليها) في وجه اللوحة الكئيبة التي مضت عليها شهور عديدة دون أن يأذن العريف بمسحها (بالمضر) وكتابة درس جديد في مكانها. |
ولا أريد أن أنكر بلادة فهمي وعصيانه على استظهار دروسي الأولى فقد كان ذلك عاملاً قوياً في ثباتي عند درسي الأول، وضعفي عند تخطيه إلى ما يليه. |
إذا أضيف إلى هذا استغلالي فيما يقتل وقتي من خدمات الفقيه تبين مدى طول المدة التي قضيتها في معرفة (الألف لاشيون عليها). |
وكان الصبيان في ذلك العهد لا تتميز درجات تحصيلهم الدراسي بأرقام السنوات والفصول التي ينتمون إليها، فليس هناك سنة أولى أو رابعة، وليس ثمة فصل -(أ،ب)، وإنما الميزة الواضحة أن يُسأل الصبي عن السورة التي وصل إليها فيجيب: سورتي الْحَمْدُ وهو يعني الفاتحة، أو يقول: سورتي إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ وهو يريد سورة الكوثر؛ وبذلك يتميز محصوله العلمي في الكتاب. |
وكان لا يسيء أبي شيء ما يسيئه سؤال الناس لي عن سورتي بعد عام كامل من دخولي الكتاب، فكنت أقول: إنها (ألف لاشيون عليها) دون أن أستشعر الخجل فيما أقول. |
وظللت على هذا شهوراً من العام الثاني حين انتهيت من حروف الهجاء، وشرعوا يكتبون لي في اللوح شيئاً جديداً يسمونه (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ). |
ولم يرهق بلادتي شيء ما أرهقها هذا الدرس فقد كان يتعذر عليّ إخراج الحروف من مخارجها. وإني لأذكر اليوم كيف كان العريف يكرر أمامي (ثخذ ضظغ)، ضاغطاً على مخرج كل حرف منها، فلا يطاوعني النطق على تقليده، وتلتاث علي الحروف كما تلتاث على طفل يلوك الكلام ولا يحسنه. |
ولطالما سألت نفسي -بعد أن استوى رشدي وبدأت أعقل الأشياء- عن الرابط بين الأبجدية الهوّزية، وبين الطفل البادىء في الكتاب فلم أظفر بما يفيدني في الأمر. |
كنت أتساءل أهي كلمات عربية تؤدي مفهوماً خاصاً يتدرج فيه الطفل إلى ما بعده من دروس؟ أم هي رطانة أعجمية أقحمتها الكتاتيب لتضاعف من قيمة جهودها أمام زبائنها من أولياء أمور الطلبة؟ أم هي أسماء لنفر من الجن الصالحين يتعين على الصغير استظهارها تيمناً بما فيها من صلاح أو بركة. |
قلت هذا لستي
(1)
مرة وكانت شغوفة بترديد مثل هذه الكلمات على أنها أسماء لبعض ملوك الجان، وكانت تحفظ أسماء أهل الكهف، وكلبهم قطمير، ولا تفتأ تكررها وكانت تتحصن بها من العاديات!! قلت أسألها عن الأبجدية الهوّزية، وعلاقتها بتعليم الأطفال. فاستهجنت مني هذه الصفاقة وقالت (إحنا ناس كنا نسمع زي ما يقولوا الكبار)، ثم جمعت سبحتها بين كفيها ورمتني بها في وجهي في حماس ظاهر وهي تقول: (بكره تشوف آخر هذا الهلس اللي تهلسه على المشائخ والناس الكبار)، ولقد شفت والله ما قالت، ورأيت عاقبة (هلسي) فأنا اليوم أقاسي من المعاناة في التوفيق بين عقلي وبين ما ورثته من أرتال الخرافات ما لا يحتمله جلد. |
واستطاع عريفي بعد هذا أن يضع يدي على رأي الكتّاب في الأبجدية الهوّزية فقد اجتمعت به بعد أن اكتهل، وكنت في زهو شبابي، وسألته، فقال لي: إن هذه الأبجدية تجمع حروف الهجاء وعددها 28 بالتمام والكمال. قلت: إن هذا لم يغب عني وأنا في هذا السن، بل أزيدك أني رأيت الأبجدية الهوزية باباً له قيمته في كثير من كتب السحر، وأصحاب الأوقاف الذين يحسبون بالمحمل الكبير وبالمحمل الصغير؛ ولكن المسألة لا تزال في رأيي في مكانها الأول لأني لم أفهم بعد علاقتي كطفل بهذه الرطانة!! |
فلم يزد عن أن رماني بنظرة شزراء، أعادت إلى ذاكرتي (شخطاته) في الكتاب، وتركتني أحس برعدة خفية في أعماقي ثم تداركني لطف الله فقد ولاني ظهره وغادر المكان. |
ودرجت في الكتاب بعد أن انتهيت من أبجد إلى دروس نسيتها وإن كنت لا أزال أذكر أنني كنت أعيها بذاكرتي، وأحشوها في واعيتي دون أن أعرف مكان حروفها في اللوح إلا في القليل النادر. وكان عريفي حصيناً لا تفوته (القراءة العمياني)، لهذا كان يبذل جهده في اختبار ما أقرأ، فكنت إذا انتهيت مما قرأته سرداً عاد فغطى بعض الكلمات في اللوح بكلتا يديه وكشف عن بعضها لأقرأها وحدها، ولكني كنت أكثر منه حصافة أو مكراً وتخابثاً -إذا شئت- لأني كنت أحفظ الكلمة من اللوح وأحفظ مكانها فيه فإذا غطى ما حولها بادرت بنطق الكلمة اعتماداً على موقعها الذي أعرفه؛ أما مفردات حروفها فكان لا يعلم إلا الله مبلغ جهلي الكامل بها. |
وبذلك قضيت في كتاب زقاق الشيش نحو سنتين حشوت فيها واعيتي بالكثير الذي حفظته كنتيجة للتكرار المستمر، أما الحروف فلم أتبين من حقائقها ما يميزها عن بعضها، وأعني بذلك أنني (لم أفك الحرف) في لغة ذلك الزمان. |
|