في الكُتَّاب |
سمّاني أبي ((أحمد)) ودللتني أمي فكانت تناديني ((أحمد حماده)) وكانت أغنيتنا الدائمة وهي ترقّصني -((أحمد حماده لب القلادة أمه تحبه وأبوه زياده)). ولا أزال إلى اليوم أذكر أني كنت دلّوعها كما أذكر كلمات الأغنية التي ظلت تدللني بها إلى الأيام الأولى التي كنت أدلج فيها إلى الكتَّاب. |
وشاركها أبي في تدليل طفولتي الأولى لأنه رزق بي في سن اليأس ولعله عقد على رأسي آلاف الآمال والأماني. |
ودرج بي إلى الكتِّاب في زقاق الشيش بجوار المدعى؛ ولم يتركني حتى أضاف إلى جعل الفتوح قرشاً زائداً للفقيه، ورجاه أن يُعنى بي، وألا تأخذه خشية في تربيتي.. ((فاللحم لك يا سيدنا (يعني لحمي أنا) والعظم لي.. أنت أكسر يا سيدنا وأنا أجبر)) ولم ينس شأن العريف فقد كانت للعرفاء في كتاتيبنا صولة، وكان أحدهم لا يتسامح في حدود دولته مع الصبيان إلا لمن يعترف بحقوقه في الكُتَّاب ويعرف كيف يسترضيه، ويقدم (هللاته) القليلة التي ينفحها إيّاها والده في كل صباح ليشتري بثمنها من بضاعته الفجة (فوفلة جنجاوي)، واحدة.. أو قطعة من (طبطاب الجنة)، وكلتاهما نوع من الدقيق المحمر بمسحوق السكر. |
لم ينس أبي شأن العريف فقد أسرَّ إليه بما أرضى كبرياءه، ودس في جيبه ما أطلق لسانه: (روح يا عم صالح، الولد ولد سيدنا.. وأنا هنا ما أشوفه إلا زي أخويه الصغير). |
ولقد كان عند وعده فقد شافني بما يشاف به الأخ الصغير الذي سلبت إرادته، ومنح قياده إلى وصي يعرف كيف يعد هللاته القليلة التي يصطحبها كل صباح، ويتولى حجزها لقاء (فوفلة) أو قطعة من (طبطاب الجنة). |
أما فيما عدا ذلك فقد كان يكفيه أن يضيفني إلى (بشكة) من أندادي المبتدئين، وأن يهيب بنا لنحاكيه فيما يقول، ونردد حروفه التي يلفظها (أليف لاشيون عليها.. والباء واحدة من تحتيها)
(1)
، في نغم مرتل وأصوات ممدودة عالية. |
وكان أبي قد حفل بما يلزمني للكُتّاب قبل دخولي إليه فاشترى لي لوحاً كانوا يعدونه كخشبة مربعة الجوانب يزين رأسها مدرجان ينتهيان إلى رأس كعرائس الخشب يثقبونه، ويربطون به خيطاً متيناً يحمله الصبي في يده، أو يلوح به اللوح إذا شاء العبث. |
ولم ينس أن يزودني ببعض (المضر) الذي كانوا يذيبونه بالماء ويمسحون ما كتبوا في الألواح؛ ليستأنفوا كتابة أخرى كما لم ينس أن يزودني بجزء (عم). وكانوا يطبعونه على قاعدة يسمونها بغدادية ويستفتحونه بحروف الهجاء، والأبجدية، وجميع ما يتدرج فيه الطفل لينتهي إلى قراءة الفاتحة، ثم ينتقل إلى باقي السور ليختمها بسورة (عم يتساءلون). |
ولعل أبي كان يتخيل لفرط تشوقه أن (أفك الحرف)، في أقصر مدة يستطيعها حزم الفقيه الذي وهب له لحمي، وأمره أن يكسر عظمي وكانت ثقته في عريفي بالغة الخطورة. |
ولقد كان سيدي الفقيه حازماً بكل معاني الحزم الذي يفسره أبي؛ لأن الحزم الذي يعني التبصر في الأمور كان لغة لا يرقى إليها إلا الندرة من آباء عهدنا الذي ندرسه ومعلميه. |
كان الحزم لا يتناول في حياتنا إلا لهب الظهور والأطراف بالعصى الغليظة والحبال المفتولة، وكانت (الفلقة) في الكتاب جزاء له قيمته العالية في تربية الأولاد وتحفيظهم، وكانت القاعدة العامة في الكتاب والبيت: (رب ولدك، وأحسن أدبه.. ما يموت حتى يفرغ أجله). |
أولئك آبائي عفا الله عنهم؛ فقد فطروا على ما اعتقدوا خيراً؛ ونشأوا على ما ظنوه حقاً. فقاسوا لأنفسهم من المعاناة ما لا يحتمله جلد، وأذاقونا من بأسهم ما كلت به أجسادنا الصغيرة. |
|