شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هل الحج سبَاق إلى حيازة لقب حَاج؟
هبطت بنا الطائرة في مدرج فسيح على كتف أحد جبال القدس، وقادتنا المضيفة إلى المختصين بإجراءات السفر في المطار.
ولفت نظري بين حراس المطار منظر سيدة كانت في سن أمي وقد شدت إلى جسمها بزة عسكرية كاملة، وغطت رأسها بعقال و (شماخ) وراحت تتخلل المسافرين في نشاط كنت أتمناه لنفسي.
واقتربت مني وعصاتها الرفيعة تلعب بين أناملها ورجت إليَّ في لطف أن تطّلع على أسماء الجرائد التي أحملها؟ فقلت: إنها مجلات لتسلية السفر وقد فرغت منها، ولا مانع لدي أن أتركها لك.
فبدأت تقرأ العناوين ثم ما لبثت أن أعادتها إليَّ وهي تنحني في أدب جم انحناءة بسيطة دلّت على رقة شعورها.
وانتهت إجراءات المطار والجمرك في دقائق لم أحس بها، وتمنيت لو كانت جميع إجراءاتنا في الدول العربية تمضي في مثل هذا النسق إذن لشعر المسافر أنه عزيز على إخوانه موفور الكرامة.
وكنت أعلم أن في القدس شاباً من خيرة شبابنا المثقف، وأعلم إلى ذلك أنه مطبوع على الود والجود، وأنه يشغل وظيفة وكيل قنصل في القدس ولكني رأيت ألاّ أحرجه -والعاقل يفهم- حتى استقر في منزلي من أحد الفنادق.
والفنادق في القدس أكثرها من نوع باهظ القيمة، وهي من أجل ذلك ممتازة بنظافتها وحسن استعدادها. إنها في الغالب الأعم تستقبل الحجاج من سائر بلاد أوروبا، وكلهم إلاّ النادر الشاذ من أصناف راقية قدموا القدس لينفقوا فيها عن سعة، ويعيشوا في فنادقها عيشة الكريم الذي يستخدم نقوده في ما يصون وجاهته ويحفظ قيمته.
كان السرير في غرفة الفندق تساوي ليلته نحو ثلاثين ريالاً سعودياً بما في ذلك الأكل فكانت الأسعار في نظرهم عادية، وكنت أجتمع بهم في ردهة الفندق أو صالة الطعام أو حديقة الشاي فيلذ لي الهدوء الذي يخيم على مجالسهم والنظام الذي ينسق سائر حركاتهم والنظافة الشائعة في جميع مظاهرهم.
رأيت كل هذا فتذكرت حجاجنا في مكة، وليس بينهم من الصنف الذي يسخو بمثل هذه النفقة إلاّ ما يوازي واحداً في المائة، تذكرت الألوف التي تمشي سبهللاً بحثاً عن حائط يظلها، أو جواد يطعمها. وتذكرت الألوف التي لا تجد في جيوبها ما يقوم بحاجتها أو يحفظ عليها كرامتها، وتذكرت الألوف التي تتكتل في الغرف، وحسبها أنها أمّنت (عفشها) ومضت تقضي أوقاتها بين أروقة المسجد أو ردهة المطوِّف، وتذكرت الألوف التي تستصحب عيشها من بلادها خبزاً جافاً وجبناً مملحاً لتتبلغ به مدة إقامتها توفيراً للنفقة، وألوفاً أخرى لا تكسوها إلاّ ثياب قذرة أو أردان ممزقة، كما تذكرت الألوف التي تتزاحم بسبب قضاء حاجتها على المتوضآت العامة وإذا اضطرها الزحام التمست زقاقاً أو عطفة، وراحت تقضي حاجتها لأنها لا تجد ما تملكه لنفقات السكن حتى في أرخص البيوت.
وتذكرت الألوف التي تعاكس من أجل قرش وتشاكس ويضيق صدرها بتأثير الفقر المدقع الذي تعاني قسوته.
لقائل أن يقول إن مكة لم تستعد إلى اليوم بالفنادق الواسعة والمرافق النظيفة والمطاعم الممتازة، وأن أكثر باعتها والمتصلين بالحجاج فيها يستغلون الحاج ويتمنون لو امتصوا دماءه.
ولا أريد أن أجادل في هذا طويلاً لأنه نتيجة حتمية لحالة الحج التي ورثنا وعثاءها من مئات السنين.
لقد عاشت بلادنا حياتها فقيرة، فلو ظفرت من مئات السنين بحجاج ألفوا البذل بمعناه المشروع المنظم على غرار ما رأيت في القدس من حجاج أوروبا لاستطعنا أن نغتني وأن نهيئ مرافقنا العامة تحت وطأة الحاجة الملحّة كأرقى ما تتهيّأ المرافق في البلاد المتمدنة.
إن أهم ما يعاتب عليه المسلمون أن فكرة الحج شرعت في عصور التأخر تأخذ غير المعنى الذي فرضت من أجله.
إن هذه الألوف المؤلفة التي تفد إلينا في كل هذه القرون المعروفة بقرون التأخر لا يسوق أكثرها الغرض السامي بقدر ما يسوقه التقليد.
لقد شاع في أكثر بلاد الإسلام أن الحاج سبَّاق إلى حيازة لقب حاج ليتباهى بما حاز ويربح في نظره وساماً له قيمته في الوسط الذي يعيش فيه.
وتطور شيوع هذه الفكرة أكثر ما تطور في الطبقات والأوساط الفقيرة في بلاد الإسلام، فازداد تهافتهم على الحج في صور لا يقرها الشرع من أكثر مناحيها.
فنحن اليوم ومن مئات السنين نشاهد مواقف الحج تزدحم أكثر ما تزدحم بالمقلين والمعوزين والذين لا يجدون في جيوبهم ما يصون كرامتهم من ذل الفاقة، أضف إلى ذلك جيوش الشحاذين من كل صنف ولون.
كل هذه الألوف نسيت أن الحج لمن استطاع ونسيت أن المشرع الأعظم لا يسمي الحاج مستطيعاً وهو يعرّض كرامته لذل الحاجة أو هوان السؤال أو قسوة التقتير الذي يزري بشرفه.
فلو فهم المسلمون هذا من مئات السنين لوفروا على أنفسهم مشقة الهوان وصانوا بلد الله الحرام من جيوش الفقر التي تزحف إليه في كل عام لتثقل على كاهله وتزيد في أعبائه.
لو فهم المسلمون هذا واقتصرت وفودهم على القادر والمستطيع لانتفعت البلاد بما يدره القادر المستطيع، واستطاعت من زمن بعيد أن تهيئ مرافقها في نطاق يتسع باتساع عدد القادمين من الحجاج، أمّا هذا الهجوم الذي لا يحده شرع ولا يقره عقل، فإنه سيظل ما بقيت الأيام يحمل موانع التقدم بسائر أصنافها ويعمل على بقاء البلاد عاجزة عن مواجهة المواسم بما يشرفها كعاصمة للدِّين. وما يُقال عن هذا في مكة يقال مثله في ما يتعلق بالمدينة المنورة وجدة وسائر المدن التي تتصل بالحجاج.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :801  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج